عادل علي

«احذر! ممنوع الاقتراب تحت طائلة التشهير والتأثيم والعقوبة القصوى».
يرتفع هذا التحذير العنيف المعنّف عند كل ناصية حقيقية أو فوق كل منصّة افتراضية. تشهره نساء ـ أو جمعيات ناطقة باسمهن ـ مثل شريط شائك يحمي مجالهن الحيوي. ويجد الرجال، كل الرجال، أنهم المعنيون وحدهم بهذا الأمر المانع الصارم. فهم المدانون المفترضون أو الافتراضيون حتى قبل وقوع الواقعة.

قبل عامين، عمّت العالم موجة «أنا أيضا» ME TOO. وكانت أول حركة افتراضية، هيأت لها شبكة الإنترنت والمنصات الرقمية ومؤثرات الميديا سبل انتشارها، قبل أن تتلقفها التجمعات والحشود. بدا في حينه، أن القضية تستدعي مثل هذه الانتفاضة النسائية المستقطبة لكل مؤمن بالحرية والكرامة الإنسانية سواء كان رجلا أم امرأة. فهناك من الرجال من جار وافترى على نساء كنّ إلى عهد قريب في «مجاله الحيوي».
تولى «الاتحاد الثقافي» قبل أسابيع تسليط الضوء على هذه القضية، من خلال دراستين ضافيتين نشرتا بتاريخ 29/‏‏‏‏8/‏‏‏‏2019 الأولى للدكتور فتحي المسكيني بعنوان «الأنثى.. في مهبّ الموجات النسويّة»، والثانية للدكتورة أم الزين بن شيخة المسكيني بعنوان: «أنا أيضاًً» إرهاب أم ثورة نسويّة؟! وفيهما ناقش الباحثان القديران جذور وآليات ومآلات حركة ضرورية جنح بها تقدير خاطئ أو تدبير مقصود خارج سياقات الضرورة.
تبدت حركة «أنا أيضا» كأنها سوط ملتهب، يتنزّل فوق ظهور الرجال بأياد ناعمة، فيعقد ألسنتهم، ويصيب أهواءهم بعقم مرير.
تنبهت نجمة السينما الفرنسية الشهيرة كاترين دونوف، («جميلة النهار» كما قدمها المخرج الإسباني لويس بونويل في فيلمه الشهير)، لهذا العَنَتْ اللاحق بجماعة الذكور، فانضمت إلى حملة مناهضة قادتها مائة امرأة فرنسية، من ممثلات وأكاديميات وكاتبات، عبّرن عن رفضهن لتجاوزات حركة «أنا أيضا» برسالة جاء فيها: «في الوقت الذي يكون فيه من الضروري والقانوني فضح إساءة استخدام السلطة من جانب أي شخص، إلا أن الاتهامات المستمرة خرجت عن نطاق السيطرة». وأجمعن على أن هذا يخلق شعوراً عاماً بأن النساء قليلات الحيلة وعاجزات وضحايا دائمات.
على الرجال أن يدركوا حدودهم بعد اليوم. عليهم أن يتخلصوا من صفاتهم الجينية. وأن يقنعوا بأن يكونوا ضحايا دائمين للتقسيم (الجندري). فمن يريد أن يدفع ثمن كلمة غزل في غير أوانها؟ ومن يستطيع أن يتحمل عبء «لايك» شفهي يبديه نحو تسريحة شعر، أو نظرة برّاقة؟ وماذا كان سيحل بعبد الفتاح القصري (هل تتذكرونه؟)، وهو يصدح بغزليته الشهيرة في أفلام الأبيض والأسود: «يا صفايح الزبدة السايحة»؟!
تتشابه الحركات النسوية الحديثة في حدّتها، مع كل ما سبقها من «حركات جذرية» حوّلت قضاياها إلى مقصلة للمخالفين أو المقصّرين. نتذكر، في هذا المجال، أن التجمعات المناصرة لقضايا البيئة مثلا، ذهبت في غلوّها إلى طلب الإعدام لشخص مسيء دفاعا عن شجرة، وهي لن تتورع عن سلخ جلد إنسان انتقاما لفراء دببة القطب الشمالي. فكأنما كل المتطرفين في أيديولوجياتهم وقضاياهم ينهلون من مرجعية واحدة، هي: العماء.
فهل «هنّ» قليلات الحيلة وعاجزات وضحايا دائمات حقا، كما جاء في رسالة الفرنسيات المنصفات؟
تلك صورة تاريخية صحيحة إلى حد ما، لكن بعد ذلك خرجت النساء من مطابخهن، ورحن يشرفن من قمة العالم على صغائر الرجال.
***
تقول الحكاية، إن ماري انطوانيت، سمعت صرخات الجوعى من فقراء بلادها، فنصحتهم بأن يأكلوا البسكويت!
تظلم هذه الحكاية المتواترة عبر التاريخ ملكة فرنسا، كما تظلم معظم النساء اللواتي حجزن مقاعد قيادية متقدمة، بإسقاط دلالاتها عليهن جميعا. فالواقع يقول عكس ذلك. على الأقل هذا ما كشفته دراسة جديدة عن سيرة زوجة الملك لويس السادس عشر ووالدة الأمير لويس السابع عشر، فهي لم تتفوه أبداً بدعوة الفقراء لأكل البسكويت إذا عزّ عليهم شراء الخبز. على الرغم من أن هذه البراءة الجزئية لا تبرئ ساحتها في الحكم والملك بالمطلق. وبالتالي فإن حجة ماري انطوانيت للنيل من النساء السياسيات تصبح ساقطة بالتبعية.
وقبل سنوات نافست هيلاري كلينتون باراك أوباما، للفوز بترشيح حزبهما لخوض معركة الرئاسة، وكانت المعركة بينهما عادلة، دون جور ذكوري أو استسلام نسائي. وحينما وقفت هيلاري على عتبات البيت الأبيض، في مواجهة رجل آخر، نافسها بأسلحته أي بالترويض وليس بالمقارعة. كانت المشكلة إذن، في الشخص وليس في النوع (الجندر).
وقد سبقتها إلى مثل هذه القمة امرأة أخرى هي تيريزا ماي التي احتلت المكتب الأول في 10 داوننغ ستريت، لتصبح رئيسة حكومة بريطانيا. وبهذه الخطوة استرجعت بريطانيا، وأوروبا والعالم أجمع، ذكرى امرأة أخرى شغلت الموقع نفسه لأكثر من عقد، هي مارغريت ثاتشر، فأصبح لقبها السيدة الحديدية. لكن تيريزا ماي دفعت ثمن أخطائها وترددها كسياسية وليس كامرأة.
قبل هاتين السيدتين بزّت سيدة ألمانية، هي أنجيلا ميركل، كل ما أنجزه أسلافها من الرجال في الموقع الذي شغله يوما أدولف هتلر وقلب من خلاله العالم رأسا على عقب، وليصبح اسمها أكثر تداولا من كونراد أديناور، وفيلي برانت، وهيلموت شميت، وهيلموت كول، وغيرهارد شرودر.. وظل الكرسي محجوزا لها، حتى أصابها «اهتزاز» بدني، يصيب البشر أجمعين دون تفريق بين ذكر وأنثى.
هؤلاء النساء يستكملن حلقة النساء الناجحات في سدة الحكم، ليس في العالم المتقدم فحسب، وإنما على مستوى العالم الثالث أيضا. ففي الهند ورثت أنديرا غاندي عن والدها جواهر لال نهرو، حكم بلد شاسع ومكتظ بالبشر والتناقضات، فوطدت فيه معالم الدولة الحديثة بعد استقلال مكلف، فكلفتها تجربتها في نهاية الأمر حياتها. لكن خليفتها صونيا ـ زوجة ابنها راجيف المقتول هو الآخر ـ ستعيد إلى الهند مسحة من الحزم النسائي.
وفي الباكستان عصفت دراما السياسة بعائلة ذو الفقار علي بوتو بعد اغتياله، فحملت الإرث ابنته بنازير لتلقى المصير نفسه بعد حين. وفي بنغلادش، منحت الشيخة حسينة، ابنة مؤسس البلاد مجيب الرحمن الذي اغتاله العسكر، بلادها استقرارا مشهودا في منطقة فياضة ببراكين الفقر والجغرافيا والسياسة.
وفي بورما (ميانمار) قادت امرأة واثقة من نفسها، وابنة ضحية للسياسة والجيش، هي أونغ سان سوتشي مواجهة شجاعة ضد تحكّم العسكر، وخلّصت بلادها من حكم طغمة ظالمة، وإن عجزت عن تحريرها من تحكم النزعات العنصرية والطائفية المتضافرة مع واقع الفقر والتخلّف.
ومثل من سبقنها، استطاعت ميغاواتي سوكارنو، ابنة الزعيم الوطني في إندونيسيا أحمد سوكارنو أن تدفع ببلادها في رحلة صعبة، لكنها ناجحة، نحو الديمقراطية والعصرنة.
في أميركا اللاتينية، قارة العواصف والثورات، تربعت نساء فوق البراكين فهدّأتها، قبل أن تسقطها رياح عاصفة. منهن إيزابيلا بيرون التي ورثت السلطة عن زوجها خوان بيرون عام 1974، قبل أن يطيح بها انقلاب عسكري عام 1976. ثم حظيت الأرجنتين برئيسة أخرى في العام 2007، هي كريستينا فرناديز دي كيرشنر، وأعيد انتخابها في العام 2011، واستطاعت خلال تلك السنوات تحقيق حضور قارّي ودولي مميز.
ومثلها فعلت رئيسة البرازيل ديلما روسيف، قبل أن تتألب عليها التيارات السياسية في بلادها.
وفي الفلبين، ما زال المواطنون يذكرون رئيستهم كورازون أكينو، التي فازت بالرئاسة (1986 ـ 1992) بعد الإطاحة بالديكتاتور السابق فرديناند ماركوس، وبعد اغتيال زوجها المناضل نينيو أكينو.
تلك عينة من النساء، من الشرق والغرب، صعدن وتألقن وبعضهن غاب وأخريات سقطن بالرصاص والطعنات، لكنهن جعلن بلادهن وبعض بقاع العالم أمكنة محتملة العيش.
وتجاربهن تنقض عمليا نظريات علمية عقدت الدور القيادي، والريادي للرجل بالضرورة، بحكم الفطرة التي نشأ عليها. وهو ما عرضه وناقشه بإسهاب البروفيسور ستيفن جولدبرج في كتابه «لماذا يحكم الرجال؟». وفي رأيه أن النساء يستطعن القيام بأدوار الرجال في مجال السياسة والحكم، عندما ينهار الذكور، بفطرة الأمومة الحانية.
هذا الرأي الكلاسيكي، لا يصمد كثيراً عند دراسة التجارب التاريخية والمعاصرة، فامرأة مثل جان دارك (عذراء أورليان) (1412 ـ 1431)، ستتصدى ببطولة نادرة لتحرير بلادها، استجابة لنداء داخلي، وستدفع حياتها ثمنا لدورها بعدما اتهمت بـالعصيان والزندقة، لكنها ستسترجع سمعتها الوطنية بعد فوات الأوان وستصبح بطلة فرنسا على مر العصور.
حتى على الصعيد الفكري والفلسفي فإن امرأة مثل هيباتيا السكندرية (350-370)، ستمنح جسدها قربانا تضيء به عقلها وعقول الآخرين، فلم تتوانى خناجر الرجال عن تقطيعه إرباً إرباً ظنا منهم أنهم بذلك يخنقون أفكار الوعي التي بثتها.
***
هؤلاء النساء، وغيرهن كثر في عصور وبلاد مختلفة، حققن ما عجز عنه الرجال، فهل تصح عليهن تقييمات حركة مثل «أنا أيضا»، أو محددات النسوية الجديدة؟
فلننتبه هنا، إلى أن كل الأسماء (أو فلنقل أغلبها)، التي صدحت بها حركة «أنا أيضا»، وسعّرت على وقع قصصها أوارها، هي بالتأكيد من إنتاج هوليوود، وآلتها الإعلامية الفتّاكة. نساء اشتهرن بالمعايير الهوليودية، وتم تقديمهن كأمثولات للنساء والرجال، الباحثات والباحثين عن السحر الحلال وغير الحلال. بمعنى آخر، هنّ النموذج الأكثر فجاجة لتسليع المرأة، روحا وكيانا وجسدا. ودخل المعنيون في إنتاج هذه «السلعة» من رجال ونساء، في عقد رضائي يبيح للطرفين البيع والشراء.. ومن داخل بنود هذا العقد خرجت «براءة اختراع» حركة تحتاج إلى «براءات» كثيرة..
***
ينقل كتّاب السيرة عن مارغريت ثاتشر مقولة شهيرة لها، هي: في السياسة عندما تحتاج إلى الكلام اسأل الرجال، وعندما تحتاج إلى الأفعال فعليك بالنساء.
في المقابل، يُنقل عن الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران وصفه لرئيسة وزراء بريطانيا الحديدية بأن «لديها عيني كاليغولا وفم مارلين مونرو».
لو كانت مارغريت ثاتشر عضو في حركة «أنا أيضا»، لطلبت لغريمها الفرنسي تجريده من صفاته الإنسانية والسياسية بسبب أن صفاته الذكورية هي الغلاّبة..
لمن لم يقتنع.. فلينطق عن الهوى، مع أول سيّدة يصادفها!!