بين دقات نبض الماضي بوتيرته الهادئة البسيطة، ودفء الأزقة التي تلاحمت على أثرها المباني القديمة في حي البستكية، حيث يقبع بين ثناياه مقر ''جمعية التراث العمراني'' الذي ارتبط بروح المكان وملامحه، وتزهو في وجدان أعضائه قيمة المباني التاريخية وضرورة صونها والحفاظ عليها، فهي مخزون ثقافي وإرث حضاري يجسد ملامح هذه الارض وهوية قاطنيها، بالنسبة للأجيال· ويواصل أعضاء الجمعية بث روح العمل التطوعي لإزالة غبار الزمن عن بصمات الماضي وأولئك الذين حفروا على الجدران عادات وتقاليد وقيما وتفاصيل بدت واضحة في طبيعة المباني القديمة المتواجدة في أنحاء الدولة· وقبيل الوقوف على دور الجمعية وإسهاماتها في الحفاظ المباني التراثية من زحف التمدن، يشير أحمد العناب مدير الجمعية، إلى الظروف التي كانت عليها المنطقة قبل ظهور النفط، يقول: ''منذ عقود طويلة وقبل اكتشاف البترول كان أسلوب حياة سكان منطقة الخليج العربي عامة وسكان الإمارات خاصة، يتصف بالهدوء والحياة التقليدية البسيطة الآمنة· وتميزت تلك المرحلة بانعكاس واضح للقيم الثقافية والاجتماعية والبيئية على العمارة التقليدية والتي تمثلت في التنظيم الوظيفي لعناصر المسكن والاعتماد على الفناء الداخلي المفتوح لتوفير الخصوصية اللازمة للسكان واستخدام مواد إنشاء محلية مثل الأحجار البحرية والجص والحجر والنخيل والاستفادة من البراجيل في تلطيف الجو الداخلي للغرف· فانتشرت القلاع عند مداخل المدن لتوفير الحماية للسكان وتعددت أمثلة العمارة التراثية في أنحاء الدولة الإمارات العربية المتحدة لتشترك جميعها في تحقيق الطابع المعماري المميز الذي يعكس كافة ظروفها الثقافية والبيئية والاجتماعية''· ويضيف العناب: ''بعد إعلان قيام دولة الإمارات العربية في ديسمبر 1971 ونشوء طفرة اقتصادية أفرزها ظهور النفط، توافدت على الدولة العديد من المكاتب الاستشارية المعمارية العالمية وشركات الإنشاء والعمران، وبدأت حركة سريعة فى التنمية العمرانية في مختلف أنحاء الدولة· ونظراً لعدم وجود قوانين وخبراء آنذاك في مجال المحافظة على التراث العمراني، فقد أدى هذا التطور السريع إلى إزالة بعض المناطق القديمة بتراثها وارتباطها بالأرض واستبدالها بمناطق لا تمت بصلة إلى تراث وتاريخ ومناخ المنطقة· فانتشرت المباني التي لا تحمل طابع ولا هوية المنطقة ولا تنتمى إليها وأصبحت جزءا من الواقع العمراني للدولة واستخدمت العديد من الأشكال المعمارية دون التقيد بوجود أي طابع أو هوية· وقد نشأت تلك الظاهرة نتيجة عدم الوعي بأهمية وجود طابع معماري مميز للمنطقة، واتجاه العمارة الحديثة السائد فى تلك الفترة، والذي مضى إلى إهمال العمارة التقليدية والاهتمام بالتطور التكنولوجي فى سبيل تحقيق عمارة تتناسب مع متطلبات العصر والتقدم التكنولوجي دون الاهتمام بالإنسان وظروفه الثقافية والاجتماعية''! وعن تأسيس جمعية التراث العمراني، يقول العناب: ''نتيجة للظروف التي أشرت إليها للتو، وعلى أثر ذلك قامت مجموعة خيرة من أبناء هذا البلد المعطاء وفي هذه الأرض الطيبة بتأسيس ''جمعية التراث العمراني'' بدولة الإمارات العربية المتحدة، عام ،2003 إيمانا منهم بأهمية الحفاظ على تراث الآباء والأجداد· ومنذ خمس سنوات مافتئت الجمعية تخطو خطوات كبيرة بفضل الله تعالى أولا، ثم بفضل جميع الأعضاء المنتسبين لها على مختلف مستوياتهم وتخصصاتهم نحو الأمام وفق برنامج محكم وخطة استراتيجية دقيقة''· ويسترسل العناب موضحاً أهداف الجمعية، يقول: ''تمثلت أهداف الجمعية في نشر الوعي بأهمية الحفاظ على التراث العمراني، وتوفير آلية للتعاون بين الجهات الرسمية والمؤسسات العامة المهتمة بالمحافظة على التراث العمراني، وتقديم المشورة والاستشارة للجهات المعنية في الدولة بشأن الحفاظ على التراث العمراني، وإثراء القيمة السياحية للمباني التاريخية، والسعي لإصدار تشريعات وقوانين للحفاظ على التراث العمراني على المستويين الاتحادي والمحلي، والعمل على توثيق ودراسة ونشر المعلومات الخاصة بالتراث العمراني والأساليب الفنية والسياسات والتشريعات المتعلقة بالحفاظ عليه وتأسيس مركز لتوثيق وتسجيل التراث العمراني في الدولة، بالإضافة إلى إعداد وتنسيق البرامج التدريبية والتعليمية للمتخصصين والمهتمين بالتراث العمراني، وإصدار نشرات ومجلة دورية في مجال الحفاظ على التراث العمراني، وأيضا التنسيق مع الهيئات والمؤسسات التعليمية لتضمين التراث العمراني في المناهج التعليمية في الدولة، والمشاركة مع الجهات المعنية لتسجيل المواقع والمباني التاريخية في سجلات الدولة وسجلات المنظمات الدولية، والتنسيق والتعاون مع المنظمات والهيئات والمؤسسات والمراكز والمجالس الإقليمية والدولية ذات الصلة، والمشاركة الفعالة في المؤتمرات والندوات وورش العمل التي تعنى بالحفاظ على التراث العمراني داخل الدولة وخارجها، ومتابعة تنفيذ التوصيات الدولية الخاصة بالحفاظ على التراث العمراني، والإعداد والمساهمة والمشاركة في الفعاليات المختلفة التي تحقق أهداف الجمعية''· ويشير العناب إلى كوادر وأعضاء الجمعية، ويقول: ''وصل عدد الأعضاء اليوم إلى حوالي 1800 عضو من أكثر من 49 جنسية، وتعددت نشاطات الجمعية فشملت الدورات التدريبية، والندوات والمحاضرات المتنوعة، والمعارض التراثية، والرحلات الداخلية والخارجية، والزيارات الميدانية لمواقع في إمارات الدولة، والمخيمات التراثية، والمسابقات التراثية، والمطبوعات وغيرها· كما أصبح لها تسعة فروع في جميع أنحاء الدولة· وقد بدأت تحقق أهدافها ورسالتها في الحفاظ على التراث العمراني بدولتنا الحبيبة، وهي الآن في طور استملاك وترميم وتأثيث بعض المباني التاريخية· وقد أصدرت الجمعية مؤخراً قصة عن التراث العمراني للأطفال لتدريسها في المدارس، من تأليف رئيس الجمعية المهندس رشاد بوخش''· وعن بعض مشاريع الجمعية مستقبلاً، يقول العناب: ''الجمعية بصدد إعداد خريطة تاريخية للمناطق التاريخية والأثرية في الدولة باللغتين العربية والإنجليزية، نتوقع أن تكون الأولى من نوعها على مستوى الدولة، كما يتم حالياً التحضير لإعداد منهج دراسي متكامل في مجال الحفاظ على التراث ليدرج ضمن مناهج وزارة التربية والتعليم، وحتى الدراسات الجامعية والدراسات العليا''· وفي الإطار ذاته يضيف العناب: '' يكتسب أكثر من 2500 موقع قديم على أرض دولتنا الحبيبة؛ قيمة تاريخية مهمة، استحقت من الجمعية كل الاهتمام، فالحفاظ عليها يدعو إليه المنطق السليم، وسيكون للجمعية دور مهم في تسجيل بعض من مواقعنا الأثرية ومبانينا التاريخية في ''لائحة التراث العالمي''·· دون أن ننسى تلك المبادرات الكريمة وتلك الأيادي البيضاء التي تحافظ على مبانينا التاريخية في شتى أنحاء الدولة من ''ليوا'' غربا وجنوبا إلى رأس الخيمة شمالاً والى ''الحيل'' شرقاً· فقد نذروا أنفسهم للحفاظ على هذا التراث الجميل ليبقى رمزا للأجيال من بعدنا، يفتخرون ويعتزون به''· ويشير العناب إلى بعض الشخصيات البارزة التي لعبت دوراً مهماً ومحورياً في وصول الجمعية إلى هذا المستوى، ويأتي في المقدمة رئيس الجمعية، المهندس رشاد بوخش، الذي يعتبر من المهندسين القلائل المهتمين بالعمارة التقليدية والتاريخية في الدولة، حيث ساهم في تأسيس الجمعية وساهم في الحفاظ على أكثر من 124 مبنى تاريخياً، كما تولى الإشراف على 13 متحفاً تراثياً ومعاصراً في دبي، وأسس اللجنة المعمارية في جمعية المهندسين وحاز على الجائزة التقديرية للدولة في مجال العلوم الهندسية لعام ·''2008 ويشير العناب إلى أهمية العمل التطوعي، ويقول: ''إن الجهود المبذولة في الجمعية لا يمكن أن تتم من غير أن يكون هناك إيمان كبير بأهمية العمل التطوعي، فهو قيمة إنسانية كبرى تتمثل في العطاء والبذل بكل أشكاله، وهو سلوك حضاري حي لا يمكنه النمو سوى في المجتمعات التي تنعم بمستويات متقدمة من الثقافة والوعي والمسؤولية، فهو يلعب دوراً مهماً وإيجابياً في تطوير المجتمعات وتنميتها، ويتيح لكافة الأفراد الفرصة للمساهمة في عمليات البناء الاجتماعي والاقتصادي· كما يساعد على تنمية الإحساس بالمسؤولية لدى المشاركين ويشعرهم بقدرتهم على العطاء وتقديم الخبرة والنصيحة في المجال الذي يتميزون فيه· لذا قامت الخدمات التطوعية بلعب دور كبير في نهضة الكثير من الحضارات عبر العصور بصفتها عملا خالياً من الربح العائد وليست مهنة، بل هي عمل يقوم به الأفراد لصالح المجتمع ككل''· فيما يعرج العناب إلى ذكر بعض المعوقات التي تصادف عمل الجمعية، فيقول: ''على الرغم من تحقيق العديد من النجاح إلا أن هناك بعض المعوقات التي تحاول الجمعية ممثلة برئيسها التصدي لها وتذليلها·· ومنها: قلة مراكز البحث والدراسات المشتركة على المستوى العربي والإسلامي في مجالات العمل التطوعي لتعزيز الخبرات الميدانية وتطوير العمل الإداري، وذلك عبر الاستخدام الأمثل للتقنيات الحديثة والبرامج الإدارية المتطورة والاستفادة المتبادلة للخبرات، بالإضافة إلى المعوقات المالية التي تقف حجر عثرة أمام تنفيذ برامجها ونشاطاتها التي تعتمد بالدرجة الأولى على اشتراكات الأعضاء وإعانات المؤسسات والشخصيات وبعض الموارد المالية الأخرى''·