إبراهيم الملا

في المسافة الممتدة افتراضيا بين الرمز والأسطورة، تحتلّ «الشجرة» المكانة الأكثر توهّجا وسطوعا في المخيال الجمعي، بشقّيه الديني والشعبي، الطقوسي والبدائي، ضمن وشائج صوفية وتجليات روحية تجمع الإنسان مع الطبيعة برباط وثيق، وبجاذبية متبادلة، وبانفتاح كبير أيضا على الميثولوجيا الضاربة في القدم، والتي تمنحنا قابليات للتأمل العميق في المعاني الكبرى للوجود، هذه المعاني التي ينسجها العالم من حولنا بحياكة متمهلة وصبورة، تشبه حركة نمو الشجرة نفسها، منذ غرس البذرة، وحتى جني الثمرة، إنها الحركة المندفعة والمتجليّة ضد الانكفاء والجمود، إنها شجرة المجاز، وشجرة الحياة أيضا، والتي يمكن أن تختصر لنا تاريخا كاملا من البذل والسخاء والكرم المضاعف المنتمي حصرا للجمال في مدياته المرهفة والنقيّة، وللفن في تضاعيفه المنشغلة بالتكوين الفطري، الغابوي، السيّال، والمتدفق، هي شجرة المعرفة كذلك، المكتسية باحمرار عتيق، الجامحة بتفسيرات متفرّعة، والمسكونة بظلال محبة وارفة وعميقة مثل حلم سديمي، منساب، ومنهمر، وغائر، لا بداية لمنبعه، ولا نهاية لمقصده.
المحفّز على إيراد هذه المقدّمة، هو لوحة: «الشجرة الحمراء» التي يعمل عليها حالياً الفنان والناقد الإماراتي علي العبدان، باعتبارها رحلة بصرية شائكة وشيّقة في آن واحد، وتنطوي على مكابدة واجتراح ومشقّة، وباعتبارها نقلة نوعية في تجربته الفنية التي انطلقت قبل ثلاثين عاما، وتدرجت وتراكمت وتنوعت وسط تيارات ومناهج ومدارس فنية كلاسيكية ومعاصرة، شكلت في النهاية الصورة البانورامية لقلق الفنان الدائم، وتوقه الجارف، ومداومته الحثيثة على التقصّي والبحث عن صيغة نهائية ومثالية تستقر فيها هذه التجربة، وتفصح فيها عن هويّة طال انتظارها والركون إليها، كملمح يستدلّ به، وكعلامة يمكن اعتمادها والرهان عليها.
التقينا بـ علي العبدان في مرسمه المزدحم بالكتب، والمواد الخام، وعلب الألوان، والتخطيطات الأولية لمشاريع وأفكار قيد التشكّل، فسألناه مباشرة عن لوحة: «الشجرة الحمراء»، عن الدافع لتنفيذها، وأهميتها بالنسبة له في سياق ومسار تجربته الفنية الطويلة، فأجاب: « أعمل على لوحة «الشجرة الحمراء» وكأنني أعمل على أول لوحة نفذتها بالألوان الزيتية على «الكانفاس» في بداياتي المبكرة، وأستعين هنا بمقولة الفنان الراحل حسن شريف الذي كان يرى أن الفنان يستنفذ حياته كلها لإنجاز عمل فني واحد، لأن كل ما يقدمه في النهاية هو تعبير عن ذات واحدة، حتى وإن جاءت أعماله بصيغ وأنماط متعددة».

ثمار التأمل
وأضاف العبدان: «الأمر المهم هنا، والمتعلق تحديدا بلوحة الشجرة الحمراء، هو أنني طوال الثلاثين عاما السابقة كنت منهمكا في حلقة ضارية من البحث وتجريب الأدوات والاقتراب والابتعاد من تيارات ومدارس مختلفة، حيث لم أرتبط بأسلوب معين في الرسم وإنتاج الأعمال الفنية، ولكنني الآن، ومع هذه اللوحة بالذات، أستطيع القول إنني عثرت أخيرا على الوجهة الفنية التي أريدها، وهذا العثور أو الاكتشاف لم يأت من فراغ، بل هو نتاج لتعب كبير، ولسنوات طويلة استنفذت فيها طاقة هائلة من المغامرة الاستقرائية، والتأمل العميق، والانشغال الدقيق بالفن والأدب والشعر والسينما والموسيقا».
وعن سبب تيقنه من هذا التوجه واعتباره المحطة الأهم في مساره الإبداعي، علّل العبدان هذا اليقين بعثوره على المعادل البصري الخارجي القادر على ترجمة ما يعتمل في دواخله ونقله إلى اللوحة تحديدا، وليس إلى الأعمال الفنية التركيبية والنحتية التي لها خصوصية مختلفة مقارنة بفن الرسم، مشيرا أن هذه اللوحة تمثل خلاصة تجاربه في التعامل مع الشكل واللون، وأنها تأتي بعد مرحلة بدت متوهجة في مسيرته الفنية عندما أنتج سلسلة لوحات بعنوان «حالات خليجية»، ولكن ظلّ هناك - كما أشار - حيّزاً فنياً لم يكتشفه بعد في تجربته المتراكمة، وكان هذا الحيّز في حالة تطلّب مستمر، ورغبة ملحّة للامتلاء.
واستطرد العبدان قائلا: «الفن مبني على التميز والفرادة، وعندما يقتحم أشخاص كثر مجالا فنيا معينا فإنهم يفسدونه، ولذلك فإن رحلة الثلاثين عاما السابقة كانت بالنسبة لي أشبه بقطع دروب وعرة وملتوية وخطرة من أجل الوصول إلى هذه الفرادة، وإلى هذا التناغم النفسي والانسجام الفني».
مؤكدا أن قراءاته التخصصية في مجال الفن وإنتاج اللوحات وكذلك ما يتعلق بالاطلاع على الأفلام وكتب الفلسفة وعلم النفس والروايات والقصص والمسرحيات، أفادته كثيرا في اقتناص الجوهر الفني النفيس القابع في ذات الفنان، ووصفه بالجوهر المغيّب وسط كل هذا التشويش واللبس وضياع البوصلة والهدر الكبير للوقت والانشغال بالمظاهر الخارجية الزائلة والاستهلاكية في الحياة.
وعن الهاجس الخاص الذي دفعه لإنتاج لوحة «الشجرة الحمراء»، والدلالات المختزنة في عنوانها بالذات، والتأويلات التي يمكن استخلاصها من التكوين الإيحائي للشجرة وكذلك من اللون الأحمر، أوضح العبدان أنه كان يصبو لإنتاج أعمال مكتملة وتحقق الرضا الداخلي بالنسبة له، وأن لوحة «الشجرة الحمراء» هي نتاج لمحاولات قديمة تعود للعام 2004 لكنها لم تكتمل، وظلت حبيسة «الاسكتشات» أو التخطيطات الأولى، التي بدأت معه بأسلوب «التنقيط» ثم مع لوحة «حروفية» ذات مقاييس صغيرة رسم فيها الموضوع في منتصف اللوحة وباللون الأحمر الصريح، مع لطخات من اللون الأخضر، وكانت لوحة منفذة بالألوان الزيتية وتم اعتماد اللون الأبيض في الأطراف، ونوّه العبدان إلى أن هذه التقنيات الخاصة بالحروفية والتنقيط والمنمنمات والتي لجأ لها سابقا ظلت منطبعة في ذاكرته، وكانت هي الخزين الذي شكّل رصيدا هائلا من الصور والخيالات والأبعاد التي ثبّتها وجعلها جزءا حيويا من لوحة «الشجرة الحمراء».

الحياة كما هي
يصف العبدان اللوحة بأنها أقرب للقصيدة، التي يمكن أن نقرأ فيها الأشياء، ونرى فيها الجمع في عين الفرق، والفرق في عين الجمع، وهي الثنائية التي تعيدنا لوحدة التقابل القديمة، مضيفا أنها لوحة تحوي الغموض المشتبك بالوضوح، والتصريح المتعانق مع التلميح، كما أنها لوحة تشتمل على موتيفات هندسية، ومنطق نحتي، فيما يخص العلاقة بين الفراغ والحجم، وعلى منطق روائي سردي تتداخل فيه سلسلة من القصص والشخصيات المبهمة والكائنات والحيوانات والنباتات والثمار التي تحمل أبعادا تراثية واستعادات لزمن الطفولة والنوستالجيا المهددة بالفقد والاندثار.
مضيفا أنه أراد الخروج بعمل ليس له مثال سابق، كي لا يقع في فخّ التقليد، واختار أن يكون حجم اللوحة متوسطا، وغير منتميا للجداريات ولا اللوحات الصغيرة المختصرة، حتى يكون الحجم أو الشكل العام متوائما مع الحياة المعاصرة، وقريبا من الموسيقا الانطباعية، التي لا تتقصد وضع اللحن، بقدر ما تسعى لإثبات حضورها كإيقاع سمعي غير متكلف، بل مشابه لإيقاع حياتنا اليومية، مشيرا إلى استفادته من موسيقا الفنان «دوبوسيه» أثناء عمله على اللوحة، خصوصا معزوفة «الأرابيسك» بأجزائها المختلفة، حيث كانت لعبة التأثير والتأثر فاعلة جدا في العلاقة بين «دوبوسيه» وبين الرسام الشهير»كلود مونيه» التي أثمرت عن تأكيد حضور الفن الانطباعي في زمنهما، وكذلك العلاقة بين الشاعر الألماني «ريلكه» وبين النحات الشهير «رودان» التي أضفت الصفة الشعرية والتأملية على النتاجات النحتية في تلك الفترة.
وأوضح أن اللون الأحمر الطاغي على اللوحة والذي نفذه بمادة «الاكليريك»، مرتبط بالقوة والنشوة والعنفوان، وهو لون يقحمنا في التحولات المثيرة التي تحرك ما هو ساكن وراكد فينا ومن حولنا، كما أنه لون يحيل إلى رمزية الإغواء، وإلى المبهم الذي يستدرجنا، وينصب لنا فخاخا كي نقترب منه، ونتفحص التفاصيل المختبئة خلف هذا اللون الحادّ ظاهريا، والأليف والمتخفّف إذا استرسلنا النظر إليه، والتمعّن فيه.
واسترجع العبدان القاعدة العامة في فن النحت والتي تقول: «كلما كان الشكل بسيطاً وساذجاً، كلما قلّ تأثيره في الفراغ المحيط به، وكلما كان الشكل معقّدا كلما زاد تأثيره في هذا الفراغ»، مضيفا أن الشكل المعقّد لا يمتلك بالضرورة بعدا فنيا، ولذلك لجأ في لوحة الشجرة الحمراء إلى تشذيب هذا الشكل المعقّد بحيث يجذب الانتباه، وفي الوقت نفسه يحقق القيمة الجمالية والأدبية، وقال إنه لجأ أيضا لعملية الهدم والبناء، وإلى التشويه والتجميل، في المسار التصاعدي لتنفيذ اللوحة، كي يترجم حالة التصالح مع النفس، وأن الإيقاعات الموسيقية في صعودها وهبوطها والأوزان الشعرية في صخبها وهدوئها ساعدته كذلك على تحقيق هذا التوازن الشكلي وهذا التآلف الإيحائي داخل اللوحة.
ولفت إلى تأثره بالمدرسة التفكيكية، وأنها فتحت له مجالا لتشييد وبناء اللوحة فوق ركام من العناصر التي تم تفكيكها سابقا سواء على المستويين النظري والتطبيقي، أو على المستويين الذهني واليدوي، وذلك من أجل التماهي مع مكونات العمل الفني، وتجنب القصدية والتصورات المسبقة والمخطط لها سلفا، وأوضح أن هذه العملية الفنية التفكيكية تحقق فاعلية الجريان الحر، واقتراحات الفلسفة الطاويّة، بحيث تكون آليات الاشتغال على اللوحة مستندة على الصدفة، والدهشة، والمفارقة الجمالية التي تنبذ المثالي وتجنح نحو الهامشي ونحو ما هو معتاد ومتأرجح بشكل طبيعي بين الخطأ والصواب، وبين المُتاح والمُفتقد.

ذعر الفراغ
يرى العبدان في لوحة «الشجرة الحمراء» نتاجا بصريا ينطوي على مشاعر تتعلق بتمرين النفس على الصبر، وإهمال ما يجب حفظه، ولذلك تعمّد خلق متاهة بصرية داخل اللوحة حتى تتلاشى فيها الأشكال الأولية التي ثبتها مسبقا في المرحلة الأولى من الرسم، وعمل عليها مبدئيا لتجنب «ذعر الفراغ» قبل الوصول للصيغة النهائية وإقرارها كشكل مكتمل لقوام ومضمون اللوحة والهدف من إنتاجها.
وقال العبدان: «الفنان بحاجة للفوضى والمنطق في ذات الوقت، لأن الفوضى تحيله إلى استكشاف إمكانات مهملة، وفضاءات مدهشة، بينما المنطق يجعله منتميا لنظام يحدد هويته الفنية».
ومن هنا - كما أشار العبدان - فإن محاولاته الأولى المبعثرة والمشتتة كانت سبيلا للتعرف لاحقا على الرؤية الفردية والمستقلة في النظر للأشياء وكيفية توظيفها فنيا، وأكد أن اشتغاله الحقيقي والجدّي على لوحة الشجرة الحمراء خضع للتأثر بمدارس فنية عريقة، مثل المدرسة السودانية التي تلجأ لرسم الأشكال ثم تضبيبها وجعلها أجزاءً متماهية، تُخفي أكثر مما تُظهر، وتُضمر أكثر مما تُصرّح، كي تبث جمالياتها الرمزية داخل الفضاء العام للوحة، مضيفا أنه تأثر كذلك بالمنمنمات الإسلامية وبتنويعات الخط العربي، والعلامات التجارية والإعلانية، وبرسومات الفنان العالمي «بول كلي»، وبالرومانسية الألمانية والروسية والفرنسية والإيطالية، والأعمال الكلاسيكية والمعاصرة التي شاهدها في أهم المتاحف العالمية شرقا وغربا، إضافة إلى استثماره لعدة عناصر كانت من ضمن انشغالاته البحثية مثل تحليله ودراسته للمقطوعات الموسيقية، ولعروض الشعر، وجماليات الوزن في القصيدة العربية والنبطية، واهتمامه بالأعمال الأدبية، مؤكدا أن كل هذه التفاصيل المنطبعة في ذاكرته هي التي تؤدي إلى حيازة مفهوم :»الكليّة» الذي يختصر كل هذه التفاصيل القابعة في اللاوعي، وهو المفهوم الذي أراد نقله إلى لوحة «الشجرة الحمراء»، إضافة إلى لوحة أخرى يعمل عليها تنتمي لذات الهاجس وذات المفهوم وهي لوحة «الباب» التي تزخر بتاريخ الخدوش وكتابات الجدران ورسائل الغرام ولهفة الأمهات، وغيرها من المضامين الاجتماعية المحلية والبيئية والشخصية، المتقاطعة مع مدارات ومدارك إنسانية .. رحبة وشاملة ومتداخلة.