د. مريم الهاشمي
إن الشعر تجربة إنسانية حميمة، وهو تجربة شعورية وإيحائية مثلها مثل الفلسفة، فالفيلسوف يتأمل في الكون، ويقف كالشاعر الذي يسجل شعوره ويعبر عن ما يختلج في داخله ويقف كذلك موقف المفكر الذي يبحث ويحلل ويغربل، فالأدب الحقيقي يتغلغل في القيم الروحية وتكمن قيمته الحقة في إنسانيته، ونذكر على لسان «تولستوي»: (إن الفنون على أنواعها يجب أن تستمد غايتها من المثل الدينية)، وبذلك فهي تقوم بحفظ الأخلاق قوية مصونة، وإن الأدب والدين يلتقيان كون كل منهما عبارة عن شعور وإيمان، وكلاهما يهدفان إلى مثل عليا. وإن الشعر يعكس لنا فكر الأمة التي ينبع منها، فقد كان الشعر الجاهلي يتوخى أغراض الشعر ومذاهبه، وهو صناعة يجب أن يتوخى فيها الصانع التجويد والكمال، ونجد في الأدب القديم معالجة للقيم الروحية والإنسانية بلغة شعرية:
وإن الشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا
(حسّان بن ثابت)
وجاء الأدب الحديث وانتشر نوع من الأدب وهو «اليوتوبيا» أو المدينة الفاضلة، وظهرت نظرة جديدة للحياة للارتقاء في الحياة الفكرية والاجتماعية، وأصبح الإنسان يكافح ويسعى إلى حياة أفضل، وأصبح تقدير قيمة الفرد له مساحته في الأدب، فراح الإنسان يتغنى بهذه الحرية معبرا عن آرائه.
وتغنى الشعراء بالإنسانية على أنها مجموعة من الفضائل وهي خلاصة الخير والعدل والرحمة والمحبة، والإنسانية المطلقة لا تعرف قوما ولا وطنا ولا لونا، وزادت هذه النظرة بعد الحربين العالميتين وقامت الأمم بالدعوة إلى احترام الإنسانية فهو الجوهر الأزلي الباقي، ولقيت تلك الآراء صدى عميقا في قلوب الشعراء الواعية ذلك أن الإنسانية مطلقة تدعو إلى الإخاء والعدل والمساواة والتعاون.
ازدحامات دلالية
الأديب العربي الحديث يجب أن يلتفت إلى الثقافة العميقة، ويأخذها جادا ليرتقي بالأدب، ومن أهم مميزات الشاعر أن يكون ذا ضمير حي كي يصير وعاء حيا للثقافة الحقيقية، والواجب عليه كذلك أن يكون مثقفا ثقافة عميقة، فالثقافة الصحيحة تجعل الأديب عبقريا خالدا متجددا، فهو ابن زمانه، وتراكم الثقافة وتعددها وتنوعها يعني أن الشاعر يتحرك في ازدحامات دلالية وجب عليه اختيار طريقه في هذا الزحام !
والشاعر الإماراتي حاله حال غيره من الشعراء، ونخص بالذكر هنا شعراء الرعيل الأول، والذين كان لهم قصب السبق في حمل لواء الشعر الفصيح من أبناء هذه الأرض، كأحمد أمين المدني وسالم بن علي العويس وصقر القاسمي وخلفان بن مصبح وسلطان العويس، وغيرهم. فمن البديهي أن كان التأثر بالحركات الفكرية كما تأثر إخوانهم العرب في سائر الوطن العربي، فهم لا يقلون جودة عن إخوانهم في سائر الوطن العربي، ولكنهم يقلون عنهم شهرة، بل من اللافت في شعر هذه المنطقة أنه رغم الظروف التي عانت منها إلا أن مثقفيها وفي مقدمتهم الشعراء تفاعلوا مع الأحداث والقضايا التي مر بها الوطن العربي، وإن القيم الروحية في الشعر الإماراتي كانت نتيجة لعوامل كثيرة، منها - كما ذكرنا آنفا - التأثر بالأدباء والشعراء العرب، وكذلك كان للموروث الإسلامي أثره، حيث استمد منه الشعراء نماذج وصورا وبطولات كانت مصدرا قويا لإلهامهم الشعري:
إن في ديننا اعتصام وئام هو من خطة الشقاق بَراء
أسوى دين أحمد وهداه خطة نستسيغها سمحاء
دع دروب العقوق فالشرق جسم ملا الحب قلبه والإخاء
فاعتصم بالوئام عهدا وثيقا إذ به وحده ينير الرجاء
(صقر بن سلطان القاسمي)
ونجد اليوم العلوم الاجتماعية والإنسانية تهيمن عليها نزعات تساهم في تصاعد ثلاث طرق للتفكير: العقلنة والأنسنة والإفلاتية، ونجد رأيا يذهب إلى أن في الفكر كما في الحياة الاجتماعية ثمة علامة تجريبية تتمثل في أننا لسنا بحاجة إلى انتظار أزمة، وإن انتقاد الأشكال السائدة من المعرفة الاجتماعية في أي زمان كان ينتج ضربا من القيمة الدائمة بالإضافة إلى الفائدة الآنية، لذا يتجه الشعراء نحو القيم الروحية كنوع من الانتقاد وذلك من باب طرح قيم عالية مقابل ما يمكن أن يكون سائدا من القيم السفلية:
هو الحمد إن الحمد واجبه الشكر ولا الشكر سفساف ولا هبة نزْر
تكبّر بإتيان الفضائل إنها لعز وفوق العز ما كبر الأجر
ولا تقترب حيث السفاسف إنها لذل وفوق الذل ما كبُر الوِزر
(سالم بن علي العويس)
ونجد الاحتفاء بالمبادئ الدينية السمحاء، والقيم الإنسانية التي يبثها في النفس، مع حضور الشخصيات الدينية التي هي رمز لتلك القيم الروحية التي قد يكون الشعر يمارس محاولاته من خلال أبياته أن يثيرها في نفس المتلقي ماضيا نحو إحداث التغيير، وهو طريق كفاح في سبيل أن نكون أكثر إنسانية، وفيه استحضار النماذج التاريخية تعزيز التغيير الذي يمكن أن نمنحه للآخرين بصورة أكثر اكتمالا، هذا الاكتمال المفترض تحقيقه الآن وهو عن طريق الشعر، ذلك الخط الرابط بين الشاعر الطامح للتغيير والمتلقي المتأثر، وثواب ذلك الكفاح هو التيقظ على حياة أعظم الآن وليس لاحقا، إلى جانب الاستلهام من التراث الصوفي الذي يعد أهم المصادر التراثية التي استمد منه الشعراء المعاصرون شخصيات وأصواتا من خلاله يعبرون عن أبعاد تجاربهم الحياتية، فالعلاقة وثيقة بين التجربتين الشعرية والصوفية، وجاءت الصوفية عند المحدثين جاء محاولة لإدراك منظور من نحن؟ وماذا يمكن أن نصير إليه ! ونجد الكثير من الاستلهامات الصوفية عند الشعراء سواء العرب أو الخليجيين أو الشعراء الإماراتيين بشكل خاص كونها أهم منابع شعر الحداثة، بل من أهم منجزاته.
من لهذا المطاف في عالم اليوم وللأفق في الظلام الضرير
ولهذي الأرواح يمنحها العز والعزم بالضياء الطهور
يا سراج الهدى ويا قبس الله مضيئا من قبل خلق العصور
ليتك اليوم يا محمد تلقانا حيارى على رهيب المصير
(أحمد أمين المدني)
إن القيم الروحية وحضورها في الشعر بمثابة تحالف يقوده الشاعر للحد من نزاع الأنفس العميقة التي تجد في اختيار الخير إثارة للجدل، واستكشاف تجربة معاصرة أو تاريخية تساهم في الوصول إلى ذلك التغيير، وللعظماء دور في صنع التاريخ وهم في ذات الوقت نتاج عصرهم ولا يمكن استبدالهم بغيرهم لما قاموا به من خلق للقيم وتمثيلهم للقواعد الأخلاقية بشكل مبدع، والشعراء كشريحة من المجتمع أخذوا نصيبهم من التأثر كذلك بتلك النماذج سواء كانت تاريخية أو أدبية أو معاصرة، فالقيم تعد قاعدة أساسية لقيام أي مجتمع إنساني، وقد أحدث تطور المادة التاريخية ثورة أساسية في الفكر الاجتماعي:
ألم يناد بنا لا فضل بينكم؟ فما لنا نتحداه بعصيان
قم للمصلى وشاهد ما الذي أمرت به الشريعة من عطف وإحسان
قم فيه تلق الملا فيه سواسية لا فضل بينهم إلا بإيمان
(صقر بن سلطان القاسمي)
التأمل العميق
ويمكن أن نذهب إلى رأي «نيتشه» في أخلاق عصره إلى: المعقولية والزهد الديني، فالمعقولية معناها الأسس المنطقة التي تسير سلوكياتنا، والزهد الديني معناه تعليق القيم الأخلاقية على الدين. وإذا استطاع الإنسان تأسيس حياته على الأخلاق فيكون حينئذ قد امتلك القوة والحياة، وإذا لم يستطع ذلك وخضع لأخلاق القطيع فإن مصيره الشقاء المحتوم، والفلسفة مثل الفنون والأدب كلهم يجدفون في المركب ذاته، للمجتمع وللحياة التي تتسم بالفضائل والخلق التي هي أساس حق الإنسانية. وهذا التلازم بين الأخلاق والحضارة من مبدأ ارتباط الأخلاق بحاجات الإنسان ورغباته، بل وحتى الفنون كالشعر والرسم والنحت كلها تتولد من الحاجة كما تتولد في الوقت نفسه عن التجربة وعن نشاط الفكر.
والشاعر العربي لا يرضى سوى التأمل العميق، فيُعنى بالفكر والشعور معا، ويؤمن بالفضائل. وأشرقت الروحية في أدبنا التي استندت لعوامل ساهمت في إرشادها للوصول إلى منصة الآداب الإنسانية، ومن تلك العوامل: الثقافة والحرية والنقد والتواضع، مع الرجوع بلا تردد إلى الأدب والثقافة القديمة ليس للتقليد بل لفهم الحركات الأدبية ومراجعتها على أضواء جديدة لنختصر الطريق لأبناء هذا العصر، ولتلافي النقص فيه، إلى جانب الاتصال بالثقافة الغربية، فهذه الثقافة العميقة هي ما تساعد في طرق أبواب جديدة ومعالجة موضوعات عميقة لتأمين الفكر الراقي والثقافة الصحيحة. ولا أرقى من القيم الروحية لإنقاذ المجتمع من القحط الروحي.
أحب..فأُفني للكريم عن الأذى حياتي.. وينهاني عن السفه النّجر
ولست كما عرفوها سياسة له ظاهر حلو وباطنه مر
(صقر بن سلطان القاسمي)
وكما ذكرنا فلا يمكن الفصل بين الفكر والشعر فصلا قاطعا بتجريد الشعر من البعد الفكري، صحيح أن الفكر في الشعر ينبغي أن يكون أشبه بالومض من خلال الكلام الشعري وليس أفكارا أو نظريات تُسرد، فالشاعر يفكر لكنه تفكير شعري يحيل الأفكار برؤيا وتقنية خاصة إلى شعر، وفي هذا يقول محمد شيّا: «إنه كما للحياة بُعد في الأدب، لها بُعد في الفلسفة»، ولابد للشعر أن يتناولها بانسجام مع طبيعته الإيحائية والتعبيرية، وهي انصهار الفكر في نفس الشاعر، وهو ما عرجنا عليه سابقا من مقومات الشاعر المعاصر من وجود مُثل عليا يتمثل بها وقيم روحية لابد من حضورها في أعماله الفنية.
أيتها الحياة.. أيتها الحياة
هذا سؤال في دمي صداه
عن الضعاف في دروبها والأقوياء
والمدن الملأى.. بأصناف الشقاء
عن أعين تشتاق للضياء
عن الكفاح.. عن تجدد الأشياء
(أحمد أمين المدني )
إن الشعر ودوره في تأسيس القيم بالإضافة إلى كونه هما معرفيا فهو هم ذاتي مرتبط بذات الشاعر إلى حالة يكاد يتماهى فيها كل من النص الشعري والقيم الروحية التي تكون فيها الجمالية جماليةُ رفض وهدم بالمعنى النبيل لهاتين العبارتين، بمعنى أن الشاعر العربي أصبح يشكل ذاته ويخلّقها بطريقة جديدة ومغايرة، ليأخذ ما يلائمه من التراث وينبذ ما لا يتوافق مع ذاته الطامحة للرصانة، فالفنان يولد في الفن ويعيش فيه، ويتنفس من خلاله، وكل فنان لا يحس بانتمائه إلى التراث العالمي ولا يحاول جاهدا أن يقف على إحدى مرتفعاته فنان ضال، وتلك القيم أساس ذلك التراث وقاعدته.