د. سعيد توفيق
كان من الممكن أن أضع بدلاً من هذا العنوان عنواناً آخر هو «ما الفلسفة؟»، وهو سؤال لا يزال مشروعاً منذ أن طرحه هيدجر على هذا النحو نفسه. لكني تجنبت وضع العنوان في صيغة هذا التساؤل، لأنه قد يوحي بأننا نتساءل عن التصور السائد عن الفلسفة باعتبارها «درساً أكاديمياً»، أي باعتبارها ذلك المجال المهم من الدراسات الإنسانية الذي ينقسم إلى فروع عديدة هي بمثابة تخصصات فلسفية معتمدة في الجامعات. وربما كان هذا التصور للفلسفة هو التصور الذي تتوارى فيه الروح الفلسفية، خاصةً في جامعاتنا العربية، حينما تؤلَّف الكتب والمذكرات الرديئة خصيصاً لتأطير المقررات الدراسية في موضوعات فلسفية وعناوين محددة. ولا شك أن هذا كله لا صلة له بالتفلسف، ولا بالفلسفة من حيث هي إبداع.
غايتنا إذن أن نتحدث لا عن تصوراتنا عن الفلسفة، وإنما عن تأمل فعل التفلسف، أعني تأمل خبرتنا بالفلسفة حينما تُمَارس بوصفها فعلاً إبداعيّاً، وهذا هو المقصود من العنوان: «روح التفلسف».
وربما كان من الأجدى أن نقترب من «روح التفلسف» تدريجيًّا بأن نستبعد ما لا ينتمي إلى روح التفلسف ذاته. إن المثل البارز هنا هو الأيديولوچيا، لأن هذه الأخيرة هي في النهاية تصورات وأفكار عن الأشياء والموجودات. وقد علمنا هوسرل أن الفلسفة، عبر تاريخها الطويل، تدعي أنها بحث عن حقيقة الأشياء، ولكن الحقيقة أن أغلب تاريخ الفلسفة هو بحث في تصوراتنا عن الأشياء، لا في الأشياء ذاتها. وعلى نحو مشابه يمكن استبعاد كل الفروض الفلسفية غبر المستخلصة من خلال الخبرة المباشرة، والتي لا تخضع بالتالي للوصف العياني.
ومما يمكن استبعاده أيضاً من دائرة التفلسف الحق، كل تلك الكتابات التي تخلط بين مهمة الفيلسوف ودور السياسي أو الخطيب الواعظ أو حتى الفقيه. والحقيقة أن هذه الأدوار قد اختلطت بالفلسفة في لحظات تاريخية معينة من تاريخ الفكر، الذي فرضت فيه التطورات التاريخية الحاسمة في حياة الأمم أن يستغرق الفيلسوف في مهمة الدفاع عن فكرة القومية، أو الترويج لنظام سياسي معين، أو الدفاع عن العقيدة الدينية، ولم ينج من ذلك بعض كبار الفلاسفة عبر التاريخ.
ولكن هذا الخلط يتخذ في حياتنا الثقافية صورة فجة هزلية، حيث أصبح الكثيرون يستثمرون وضع تخلف الوعي الديني في واقعنا الثقافي، وتناحر الفرق والمذاهب لأسباب سياسية تتدخل فيها قوى إمبريالية، فيستثمرون هذا الوضع المتأجج ليدلوا بدلوهم فيه طمعاً في الشهرة المزيفة، زاعمين أو متوهمين أن ما يكتبونه هو فكر فلسفي، في حين أنه لا علاقة له بالتفلسف، وإنما بالدراسات السياسية والاجتماعية التي لا يملكون عدتَها وعتادَها، ويعتمدون في كتاباتهم على إثارة العوام الذين يختلفون حول ما يكتبون بحسب انتماءاتهم الدينية الضيقة، فيذيع بذلك صيتهم من خلال هذا الاختلاف.
وفضلاً عن ذلك كله، فسوف أستبعد من دائرة التفلسف مجالاً آخر على نحو قد يبدو صادماً للجميع، أعني مجال المنطق: فالمنطق ليس بفلسفة، أعني أنه ليس موضوعاً للتفلسف، فهو مجرد أداة من الأدوات التي تعين على التفكير السليم، وهو أمر ليس مقصوراً على الفلسفة، لأن التفكير السليم أمر مطلوب في كل أشكال التفكير. وحتى في مجال التفلسف أو التفكير الفلسفي، فإن القول بأن المنطق لازم للتفلسف بما هو تفلسف، هو قول مشكوك فيه، لأن التفلسف نفسه يجعل هذه المقولة موضع فحص ونظر، باعتبار أن التفلسف له طبيعة مختلفة عن طرائق التفكير في الدراسات العلمية والإنسانية الأكاديمية. فالتفكير المستمد من المنطق يقوم على العد والإحصاء والالتزام بعدم التناقض، ولكننا عندما نتأمل طبيعة المواقف الحياتية الدالة المعقدة نجد أنها لا تخضع لهذا المنطق، ويكون التناقض أساساً يقوم عليه فهمها، كما أنها لا تخضع للفكر العقلاني المنطقي، وإنما للفكر المتعاطف بلغة هيدجر، أعني الفكر الذي يعيش التجربة بكل تناقضاتها: فالمنطق لا يقول لنا شيئاً عن التجربة الفلسفية، وإنما يمكن أن يوصل فحسب للآخرين بطريقة مفهومة ما سبق أن تعلمناه عن التجربة الفلسفية.
وربما يقول قائل إنك ضيقت على نفسك، وضيقت على الفلسفة، فلم تترك لها سوى دائرة ضيقة، غير أن مثل هذا القائل لم يفهم حقاً شيئاً مما أريد أن أقول، فقد تصور أن الفلسفة موضوع محدد أو مساحة معينة من البحث أو النظر، وبالتالي لم يفهم أن التفلسف هو طريقة في الفهم والنظر إلى الأشياء والموجودات، فالفلسفة تتسع لكل شيء أو بعبارة أخرى: لأي شيء يبقى قابلاً للفهم والتعقل من خلال خبرة عيانية ترى المرئي في اللامرئي والكلي في التجربة المباشرة، وإن كانت تتعلق بأشياء صغيرة مما يحدث في حياتنا اليومية. وربما يكون هذا هو مناط الصلة الوثيقة بين الفن والفينومينولوجيا التي أفصح عنها هوسرل في كتاباته على مستوى الدرس النظري، وأفصحت أنا عنها درساً وإبداعاً في بعض كتاباتي، ويكفي أن نتذكر في هذا الصدد واحداً من أعظم الفلاسفة المعاصرين، الذين يجسدون في أعمالهم تلك الحقيقة عن رحابة التفلسف في بحثه عن الحقيقة، أعني جاستون باشلار كمثال حي على ما أقول.
استبعاد المنطق
لكن حينما نستبعد المنطق بوجه خاص من دائرة التفلسف، فإن هذا الأمر ربما يحتاج أن نذكر هنا مثالاً دالاً شارحاً على ما نقول: حينما اشتد عود المدرسة التي عفا عليها الزمن، التي كانت تُعرَف حوالى منتصف القرن الفائت بالوضعية المنطقية، زعم كبيرها أدولف كارناب أن عبارات الميتافيزيقا- التي ترد فيها كلمات من قبيل: العدم والماهية والجوهر- هي عبارات بلا معنى، لأنها عبارات لا تقول لنا شيئاً يمكن التحقق منه عن طريق المشاهدة والتجربة أو عن طريق المنطق. فالكلام العلمي عندهم هو الكلام ذو المعنى الذي يمكن التحقق من صدقه أو من كذبه بطريقتين: إما بالرجوع للواقع أو التجربة (وهذا عندهم يتمثل في قضايا العلوم الطبيعية)، أو بالرجوع إلى مدى اتساق العبارة صوريًّا أو منطقيًّا (وذلك عندهم يتمثل في القضايا المنطقية والرياضية). فما دون ذلك عندهم هو نوع من اللغو الذي يسمونه باللغو الميتافيزيقي، ولذلك فإنهم يتخذون عبارة وردت على لسان هيدجر بنوع من السخرية باعتبارها نموذجاً لهذا اللغو، وهي العبارة التي يقول فيها هيدجر: «إننا نعرف العدم»، وهي عبارة مؤسسة على فهم هيدجر للعدم باعتباره وجوداً، أعني باعتباره داخلاً في نسيج الوجود ذاته، ولا يشير إلى اللاوجود أو مجرد السلب: سلب الوجود من خلال كلمات من قبيل «ليس» و«لا». ولذلك فإن الوضعيين المناطقة ومن نحا نحوهم، يرون أن كلمة «العدم» هنا ليست اسماً يشير إلى موضوع في الخارج مثل: الجبل أو الشجرة، فالعدم عندهم هو مجرد علاقة سالبة بين الموضوع والمحمول في العبارة المنطقية، كأن نقول: الجبل ليس شاهقاً، أو الشجرة ليست باسقة أو مورقة، على سبيل المثال.
ولكن مثل هؤلاء ليسوا مؤهلين لفهم ما يقوله هيدجر هنا، لأنهم ظلوا حبيسين إطار ضيق للغاية في فهم معنى الفلسفة ودورها، بل في فهم طبيعة المنطق نفسه: فالمنطق ليس سوى طريقة واحدة في تفسير طبيعة التفكير، والتفكير المنطقي مضاد بطبيعته للتفكير في الروح الإنساني والوجود أو لما يسميه هيدجر «التفكير الأساسي» وهو التفكير في الوجود، ولذلك فإنهم لم يكونوا قادرين على فهم «العدم» باعتبارها حاضراً في خيرة الوجود ذاتها، فهو يكون حاضراً- على سبيل المثال- في تجربة القلق الوجودي، لأننا هنا لا نشعر بالقلق إزاء شيء أو موجود ما، وإنما نشعر بالقلق إزاء هذا العدم الذي يتخلل الوجود. كما أننا نشعر بتجربة العدم على النحو مشابه في تجربة الموت، لا باعتباره موتنا الخاص الذي يخشاه البعض، ولا باعتباره موت هذا أو ذاك الشخص، وإنما باعتباره الموت الذي يتخلل نسيج الوجود ذاته.
ربما أكون قد أطلت في التوقف عند مسألة المنطق، ولكنني أردت أن أتخذ منه مثالاً دالًا، لكي لا ينخدع دارس الفلسفة، ولكي يعرف حدود المنطق: فالمنطق لا يستطيع أن يمتدد إلى حدود الخبرة الإنسانية على المستوى الأونطولوجي، والحقيقة أن كلمة الخبرة تعني المعايشة من خلال الذات، وتحتمل مفاهيم من قبيل المعاناة والفهم من خلال المعايشة، أي الفهم المتعاطف مع موضوع الخبرة. ومن هنا يمكن أن نفهم الصلة الوثيقة بين الفلسفة والفن التي كشف عنها فلاسفة كبار من أمثال هوسر وهيدجر وسارتر وميرولوبونتي وجادامر وريكور، وغيرهم، ومن قبلهم شوبنهاور. ولكن ما أخشاه حقاً أن يكون الدرس الفلسفي في جامعاتنا لا يزال يردد مقولات الوضعيين المناطقة، وغيرهم ممن يزعمون أن المنطق والعقل هما أصل أو أداة التفلسف، دون أن ينبهوا الطلبة إلى أن المنطق- ومعه العقل نفسه- ليس سوى طريقة واحدة في التفكير لا يمكن أن تخوض أو تقترب من التفكير في مشكلات الوجود الإنساني، وكل ما في وسعها أن تنقل تجربة هذا الوجود إلى الآخرين بطريقة متسقة مفهومة. أفلا نجد التفلسف في الفن والأدب؟ وإلا خبرني- أثابك الله- ماذا كنا سنعرف عن حقيقة الذات والآخر والأنا والأنانية والحب والكراهية، وغير ذلك من المشاعر الإنسانية، لو لم نعرف ذلك من خلال الفن والأدب كما علمنا ريكور؟! ثم أفلا نجد التفلسف في التجربة أو الخبرة الصوفية ذاتها: هل يمكن أن تقيس أو تحاكم كتابات ابن عربي- على سبيل المثال- بلغة المنطق والعقل.
ولذلك فإن هناك صلة وثيقة بين التفلسف والإبداع الفني، فكلاهما خبرة كشفية مبنية على الحدس والخبرة والمعايشة والألفة، وليس على مجرد المنطق أو العقل التأملي المجرد. ويكفي أن نسترجع هنا كتابات العالم الفيلسوف جاستون باشلار عن الخبرة بالمكان الأليف في كتابه جماليات المكان. ويمكن للقارئ الفطن أن يلاحظ أنني قدمت هنا صفة العالم على صفة الفيلسوف قبل ذكر اسم باشلار، لينتبه المتحذلقون من المتعالمين أن من بين كبار أهل العلم من يعضدونا موقفنا هنا بكتاباتهم التي يختلط فيها العلمي بالفلسفي بالجمالي بالأدبي، على نحو يذكرنا بمقولة دريدا: إن الفلسفة لا مهرب لها من الجمالي! التفلسف الحق عندي يعني أن تقدم للناس شيئاً من روح تجربتك الخاصة، دون أن تعرف تحديداً ما الذي تعلمته من الفلاسفة ومن الفنانين والأدباء ومن البشر الذين عرفتهم والأحداث التي وجدت نفسك فيها.
وبوسعنا أن نفسر في النهاية معنى العبارة الرائجة عن الفلسفة باعتبارها «محبة الحكمة»، ذلك أن المهم في هذه العبارة ليس كلمة «الحكمة»، وإنما كلمة «محبة»، لأن المحبة هنا في أصل الكلمة اليونانية تتضمن معنى الرغبة والاشتياق، ولذلك قال أفلاطون: ليس في وسع أحد أن يمتلك الحكمة، وإنما حسبه أن يرغب فيها! وكأننا جميعاً- على اختلاف تخصصاتنا المعرفية- يجب أن يكون توجهنا الأساسي في سعينا نحو الاقتراب من الحقيقة، هو الرغبة في المعرفة وفي الفهم!