ربما نسي الكثيرون الآن الأمر التنفيذي الخاص بالرقابة على الوثائق، والذي كان قد أصدره الرئيس ''بوش'' في نوفمبر عام 2001؛ وكان ذلك الأمر قد ألغى عملياً نصوص قانون الوثائق الرئاسية لعام ،1978 ومنح الرئيس حق منع نشر تلك الوثائق إلى الأبد· إن أقل ما تتطلبه مواجهة هذه الخطوة الخطيرة، هو إجراء حوار قومي عام حول دور التاريخ في مجتمع النظام الديمقراطي النيابي؛ ذلك أن الأمر المعني، يصادر فكرة أن الوثائق التاريخية الرئاسية هي ملكية أميركية مشتركة لعامة الأميركيين، وأنه يشكل الأساس الذي يقوم عليه أي تقييم تاريخي ذي معنى لما ارتكب من أخطاء في الفترة الرئاسية المعينة ولإيجابيتها أيضاً، مع دراسة كيفية تصحيح الأخطاء في المستقبل· وكما نعلم فإنه ربما يتطلب عقوداً بل قروناً في بعض الأحيان، لإصدار أحكام أمينة دقيقة على التاريخ الرئاسي· فمع ما نرى من قصر نظر سياسي حزبي آني، قد يتعذر عملياً إجراء دراسة بالجدية والأمانة المطلوبتين، لأداء رؤسائنا في الماضي· وهذا ما يدفعنا نحن عامة الأميركيين للجوء إلى مؤرخينا لفهم ما حدث في الماضي· لطالما احترمت كثيراً جهد المؤرخين، لوقوفي الشخصي على مدى العمل الذي يبذلونه، ولمعرفتي بطول الزمن الذي يستغرقه خبراء التاريخ في بناء منهجهم وتطبيقه على الحقائق التاريخية؛ وللوثائق في نظر المؤرخين، ذات الأهمية التي للمعادن عند الجيولوجيين، وهذا يعني أنه في ظل غياب حرية التعامل مع الوثائق التاريخية، فإنه لن يكون أمامنا سوى الحصول على أفضل نسخة تاريخية ممكنة، قائمة على مجرد التكهن والتخمين، أي أننا سنفتقر حينها إلى موثوقية التاريخ وجديته في تقويم الماضي· وضمن تدوينه لأحداث الماضي، يهدد التاريخ أيضاَ بإصدار حكمه على الحاضر في ذات الوقت· ومن هذا الباب، ما أكثر الساسة الذين وجدوا أنفسهم في تنازع بين المصلحة العامة والآنية السياسية، بسبب تذكرهم لحقيقة واحدة أساسية: سوف يقول التاريخ كلمته فيكم في يوم ما· وفيما يبدو فإن الرئيس بوش ليس منزعجاً كثيراً إزاء تركته السياسية؛ ففي لقاء أجرته معه صحيفة ''دالاس مورنينج نيوز'' اليومية قال فيه: إنه لا يزال يطالع ما كتبه المؤرخون عن الرئيس الأميركي الأول، ''جورج واشنطن''، وبما أن الأمر كذلك، فإنه ليس هناك ما يدعو الرئيس رقم 43 -أي جورج بوش الحالي- للانزعاج بشأن ما سيكتب عنه التاريخ، ولكن ليس مستبعداً أن تكون فلسفة التحرر الكامل من القلق هذه، ناجمة عند بوش، من معرفته المسبقة بإحكام قبضته على الوثائق الرئاسية التي يستقي منها المؤرخون أحكامهم على رئاسته· الأكثر إثارة للقلق في هذا الخصوص، أن هذا الأمر التنفيذي الرئاسي، يخول للرئيس حجب وثائق الفترات الرئاسية السابقة، حتى وإن لم يكن هناك أدنى اعتراض من رئيس سابق على النشر العلني لوثائقه الرسمية والخاصة؛ وللوقوف أمام هذا الإجراء الخطير، فإنه من واجب المؤرخين والصحفيين، بل عامة المواطنين الأميركيين، رفع دعوى قضائية ضده، وبالفعل نهض في وجهه المؤرخون، لعلمهم ووعيهم بأن مستقبلنا يولد من ماضي أمتنا؛ وقد استجاب الكونجرس لردة فعلهم هذه، على رغم تأخر تلك الاستجابة نوعاً ما، بتصويته على قانون إبطال الأمر التنفيذي الرئاسي بفارق 333 صوتاً ضد 93 صوتاً، شمل انضمام 104 من الأعضاء الجمهوريين الذين أيدوا القانون، ضد رغبة الإدارة· يذكر أن هذا الفارق في الأصوات يعد كافياً لمنع إجراء فيتو رئاسي ضده؛ وكان متوقعاً لهذا القانون أن يصادق عليه من قبل مجلس الشيوخ، لولا الاعتراض الذي أثاره ضده السناتور ''جيم بنينج'' ما عرقل تصويت مجلس الشيوخ عليه تلقائياً، رغم عدم توضيح سبب هذا الاعتراض· ومهما يكن، فإن من الواجب أن يحرك هذا القانون ضمائر كل الذين تهمهم قداسة وأهمية تاريخ أمتنا، وإذا كان من قدر الذين يتجاهلون التاريخ أن يكرروا أخطاءه، فماذا نقول عن أقدار أولئك الذين يتعمدون تحريفه وتزويره؟ ثم ماذا نحن قائلون عن أولئك المواطنين الذين يسمحون بأن يتم هذا التحريف أمام عيونهم؟ ولعل من المفيد هنا أن نذكّر بموجة الاستياء العامة من أجواء السرية التي صدر فيها ''قانون الوثائق الرئاسية''· وفي الواقع فقد نشأت موجة الاستياء تلك، من ذكريات الماضي المشين لفترة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، في ردة فعل قومية قوية على محاولاته لفرض رقابة على الوثائق الرئاسية· وبموجب القانون المذكور، فإنه تفرض رقابة كاملة، بل ملكية أو حيازة تامة، على جميع الوثائق الخاصة بالرؤساء ونواب الرئيس، من قبل الأرشيف القومي، الذي لن يسمح بإصدارها إلا بعد مضي 12 عاماً على إيداعها لديه· والاستثناء الوحيد لسريان مواد هذا القانون، هو في حال طلب رئيس حالي أو سابق، رفع الحظر المفروض على هذه الوثائق، إما استناداً الى استمرار الامتيازات التنفيذية التي يحظى بها، أو لدواع أمنية قومية· وما لم يسارع الكونجرس إلى إبطال هذا الأمر التنفيذي، فإنه يكون من حق الرئيس الحالي والرؤساء اللاحقين -بل لنواب الرئيس للمرة الأولى في التاريخ الأميركي- حجب الوثائق التاريخية الخاصة بهم عن الجمهور الأميركي؛ وعندها سوف نخسر علم التاريخ لصالح الدعاية السياسية، طالما حرم المؤرخون من أدوات عملهم الأساسية وحجبت عنهم· المدير التنفيذي لـ''التحالف القومي لحرية المعلومات بكلية الصحافة بجامعة ميزوري ينشر بترتيب خاص مع خدمة كريستيان ساينس مونيتور