بدأت موجة من الرفض الشعبي لتكنولوجيا الجيل الخامس في عدة مدن أميركية كبرى، لدواع صحية أثارت لغطا بعد الرد عليها، أو لأسباب جمالية بحتة يتعذر الطعن فيها.
وساهم في دعم هذا الموقف السلبي مجموعة من أقوى رؤساء البلديات في أنحاء الولايات المتحدة. فهل تتسبب مثل هذه التحفظات في تعثر هذا المشروع الطموح؟
ويعود هذا الموقف إلى بداية عام 2018 عندما بدأت الإدارات المحلية لعدة مدن في تلقي استفسارات من المواطنين، بشأن مكونات شبكة اتصالات الجيل الخامس الجديدة، وأبرزها الهوائيات.
على سبيل المثال، عبر مواطنو مدينة سانتا روسا، في ولاية كاليفورنيا، عن قلقهم إزاء خطر موجات الميكروويف اللاسلكية الصادرة عن أبراج الهوائيات على صحتهم، إضافة إلى احتمال تآكل جانب من القيمة السوقية لعقاراتهم، بسبب زرع تلك الهوائيات «القبيحة» بالقرب منها.
وهكذا، انطلقت حملة لمناهضة الشبكة الجديدة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وزاد من قوتها إطلاق شائعات بلا أساس علمي حول الموجات الفتاكة للهوائيات.
وفي محاولة لتهدئة الرأي العام، أعلنت المفوضية الاتحادية للاتصالات أن الموجات الصادرة تقع ضمن الحدود الآمنة المتعارف عليها لأجهزة البث اللاسلكي، وشبكة الجيل الرابع القائمة. ومن ثم، فلا توجد مبررات للذعر من مخاطر صحية جديدة على المواطنين.
واستندت المفوضية إلى تقرير صدر في هذا الشأن، مؤخراً، عن إدارة الغذاء والدواء الأميركية. كما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن ترددات الموجات اللاسلكية الصادرة عن الهوائيات آمنة، ولا يوجد خطر غير عادي للإصابة بالسرطان من جرائها، كما يزعم بعض رافضي المشروع.
وأكدت المنظمة أن مخاطرها السرطانية تعادل ما هو معروف طبياً عند الإفراط في تناول القهوة، أو المقبلات الحريفة على سبيل المثال.
ورغم هذه التطمينات، لم تتوقف الحملة، بل تمادى أصحابها، فصوروا الأمر على أنه مؤامرة تحيكها جهات غامضة، ودفع هذا إدارات المدن والبلدات في ولاية كارولينا الشمالية إلى إصدار تعليمات كتابية، تحظر فيها نصب هوائيات الجيل الخامس في المناطق السكنية، لدواع صحية «محتملة»، وشكل هذا رضوخاً واضحاً من السلطات المحلية لمخاوف لا أساس علمي لها.
وسرعان ما أذعنت سلطات مدن أخرى في ولايات أوريجون، ومونتانا، ونيوهامبشير، إلى حملة مناهضة شبكات تكنولوجيا الجيل الخامس، وتصاعد الأمر بشروع نواب في الولايات الأربع في إعداد مشروعات قوانين ترفع إلى الكونجرس الأميركي، وتطالب بمزيد من الدراسات الموسعة حول الآثار السلبية المحتملة للهوائيات على صحة المواطنين.
وفي محاولة للدفاع عن موقفه، أعلن عضو بارز في المجلس المحلي لمدينة سانتا روسا أن الهوائيات قد تكون آمنة فعلياً، وربما يثبت هذا بعد 10 أعوام من الآن، إلا أن مهمة المجلس المحلي تكمن في ضمان شعور المواطنين بالأمان عموماً، لا في خدمة شركات الاتصالات.
وكانت شركة «فيريزون» بدأت في تحديث الهوائيات في المدينة، ونصبت أخرى جديدة على مسافات لا تزيد أحياناً على 10 أمتار من نوافذ غرف النوم في بعض البيوت، ودون الحصول على إذن صريح بذلك من أصحابها.
وما يثير الدهشة تبني عشرات من رؤساء البلديات في الولايات الأربع لموقف المواطنين المناهض للشبكة الجديدة، ودون سند قانوني يدافعون به عن أنفسهم، ما يعرضهم لخطر مقاضاتهم من شركات الاتصالات ذاتها. وقد بدأت بعض الشركات هذا فعلياً في بلدة روتشستر، التابعة لولاية نيويورك.
وتوصف شبكة الجيل الخامس للاتصالات بأنها بوابة المستقبل، نظراً للمزايا غير العادية التي توفرها للمستهلكين، مقارنة بالجيل الرابع الحالي.
وتعد أيضاً إحدى أدوات التنافس بين الدول، وميداناً واسعاً للابتكار بين الشركات، ونوعاً من التميز في البنية التحتية العصرية بين المدن. ورغم هذا كله، باتت الشبكة عاملاً لانعدام الرضى بين المواطنين، نتيجة لمخاوف لا أساس لها.
ويتعين الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن تشغيل الشبكة يتطلب تحديث الهوائيات العاملة حالياً، ونصب نحو نصف مليون هوائي جديد، وتشغيل نقاط صغيرة لتوزيع الخدمة تثبت على أعمدة المرافق العامة، والإضاءة، وفي أعلى المباني. ويتوقع خبراء الاتصالات أن يستغرق العمل في بناء هذه الشبكة عشرة أعوام، على أقل تقدير.
ويتطلع سكان معظم المدن الأميركية إلى سرعة الانتهاء من الشبكة الجديدة وبدء تشغيل الخدمة، إلا أنهم لا يودون التطرق إلى الإجابة عن تساؤلات مهمة، منها: كيف، ومتى، وبأي تكلفة؟
واعتمدت المفوضية الاتحادية للاتصالات اللوائح التنظيمية الخاصة بمد الشبكة بالفعل، لضمان سرعة التنفيذ. وبدلاً من شعور المواطنين بالسعادة إزاء هذه الخطوات العملية، تفجر سخطهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

سرعة التنفيذ وغضب الجمهور
وتتصدر المشهد جماعات ضغط تلح في ضرورة إبعاد مكونات الشبكة عن منازل المواطنين حماية لصحتهم. ومن أنشط هذه الجماعات ما يعرف «بشبكة الأمان من المجالات الكهرومغناطيسية». ونتيجة لهذه الضغوط، اضطرت عدة مدن في مقاطعة مارين بولاية كاليفورنيا إلى إصدار قرارات تحظر نصب خلايا الشبكة في المناطق السكنية.
كما قررت مدن أخرى تحديد الأماكن المسموح فيها بنصب أبراج الهوائيات، مع الالتزام الصارم بمسافات معينة فيما بينها.
ونتيجة لهذه القيود، اضطرت شركة «فيريزون» إلى إلغاء خططها لتثبيت خليتي توزيع في مدينة سيباستوبول بولاية كاليفورنيا، على سبيل المثال، بدلاً من مقاضاة الإدارة المحلية أو رفع شكوى إلى مفوضية الاتصالات.
ولا تملك سلطات الحكم المحلي في معظم المدن صلاحية فرض رسوم على شركات الاتصالات، مقابل استغلال المساحات المحددة الداخلة تحت سلطتها.
ويحرم هذا مجالس المدن من إيرادات يمكن استغلالها في تحسين الخدمات العامة الأخرى المقدمة للجمهور، وأبرزها ضمان وصول خدمة الإنترنت للأسر الفقيرة.
ورداً على الضغوط الشعبية، اضطرت مفوضية الاتصالات إلى إصدار تعليمات كتابية تحت عنوان «الخطة العاجلة لشبكة الجيل الخامس»، ألزمت من خلالها المدن والولايات بضرورة تقديم الموافقات على نصب أبراج الهوائيات الجديدة في مهلة 60 يوماً، وقد تصل إلى 90 يوماً كحد أقصى. كما حددت مقابلاً مادياً لا يمكن تخطيه لاستغلال المساحات ومواقع تثبيت الخلايا والهوائيات. وقوبلت الخطة بارتياح شديد من جانب الشركات. وفي المقابل، رفعت أكثر من 90 مقاطعة ومدينة قضية مجمعة أمام محكمة الاستئناف بالدائرة التاسعة، تطعن فيها على الخطة العاجلة بوصفها تعدياً على صلاحياتها كسلطات محلية.

الضخامة وقبح المنظر
وتعذر على جماعات الضغط مقاضاة الشركات لرفض نصب الشبكة الجديدة لدواعي المخاطر الصحية، نظراً لتحمل مفوضية الاتصالات هذه المسؤولية، وصدور تطمينات منظمة الصحة العالمية بخصوص سلامة الانبعاثات الصادرة عن الأجهزة الإلكترونية المستخدمة فيها. ولكن إحدى محاكم ولاية أوكلاهوما قضت بأمر آخر، وهو قبح شكل الهوائيات الجديدة وخديعة شركات الاتصالات للعامة بوصفها بصناديق صغيرة الحجم تضاهي أكشاك بيع البيتزا آلياً!
وذكرت المحكمة أن تركيب هذه الصناديق الإلكترونية على أعمدة الخدمة والإنارة والمباني العامة، يخلق منظراً عاماً قبيحاً، ويتعين إعادة النظر جدياً في تصميمها.
وتتطلب نسبة 20% تقريباً من الهوائيات الجديدة أعمالاً إنشائية خاصة بها، بينما يمكن تحديث أبراج الهوائيات القائمة لتتفق مع الشبكة الجديدة.
ورغم كل هذا اللغط، مازال سكان المدن الأميركية يتطلعون في الأغلب الأعم لليوم الذي يبدأ فيه تشغيل الشبكة الجديدة. وقد يأتي يوم، يجلس بعضهم فيه ليسخروا من مدى السخف الذي تملكهم يوماً ما برفض مثل هذا التقدم.

بقلم: كريستوفر ميمز