أحمد النجار (دبي)

عندما تتجول في شوارع دبي، لا بد أن تدهشك روحها العصرية في تفاصيلها، مبانيها الهندسية وتصاميم أبراجها التي تناطح السحاب، خلف تلك المعالم السياحية، تتشكل هويتها الثقافية والتاريخية كمدينة ملهمة تتسم بالفخامة والشموخ والجمال العصري، وعلى امتداد شوارعها النابضة بالحياة، آلاف القصص والأحداث المستوحاة من ألبومات سكانها الأوليين، تأسرك أسماء اللافتات التي تمت عنونتها وفق رؤية ثقافية مشرقة أشرفت عليها لجنة خاصة من بلدية دبي، ضمّت نخبة من خبراء التراث القدامى وباحثين مهتمين ومتخصصين، عاصروا يوميات من سيرة أجدادها وحقبات ومحطات مهمة من تطورها، وشهدوا مسيرة بنائها وتنميتها ومراحل من تاريخها العريق، وتمثل تلك الأسماء لوحة فنية وبصرية تعكس في معانيها قبساً من القيم والإرث الإنساني والحضاري ونمط الحياة، وتهدف في جوهرها إلى ربط ماضي دبي بحاضرها ومستقبلها المتوثب، وتعريف زوارها وضيوفها وسياحها عن دلالاتها ورمزيتها الحضارية.

الوصل ودلالة اسم دبي
تتعدد الروايات التاريخية حول أصل كلمة دبي، ولما سميت بهذا الاسم؟، لكن الباحث الإماراتي علي التميمي يحاول تقريب الصورة أكثر بقوله: إن دبي كانت تسمى قديماً «الوصل» لما تتمتع به من موقع جغرافي في منتصف منطقة الخليج، حيث كانت شريان التجارة النابض، وكانت بمثابة سوق جاذبة تجمع تجار اللؤلؤ والأقمشة الذين يقصدونها من مختلف البلدان المجاورة للترويج وبيع منتجاتهم، وكانت تحظى باهتمام كبير، مشيراً إلى أن كلمة دبي تعني مشى باللهجة المحلية، دلالة على أنها بلد التجمع التجاري ودبيب الحياة وكانت من أكثر المناطق حيوية، كما كانت تشهد زخماً وإقبالاً كبيراً من الزوار والسياح.
وذكر التميمي مناطق مهمة وحيوية، تؤكد على قيمتها الثقافية ومكانتها التاريخية، مثل منطقة الشندغة التي كانت الشريان النابض بالحياة والتجارة ومقر بيوت حكام الإمارة، والشندقة هي الاسم الأصلي، لكن القاف قلبت إلى غين، كعادة أهل المنطقة باللهجة المحلية.
وبحسب بعض المصادر من كبار المواطنين، فإن لفظة الشندقة هي الأرض المفصولة عن بعضها، في إشارة إلى أن هذه المنطقة منفصلة عن بر دبي، وعرج التميمي إلى أسماء ودلالات شوارع في المناطق التراثية القديمة، مثل شارع العبرة وسوق مرشد وسوق النايف، سوق نايف الواقع على الطريق الواصل لسوق مرشد، ويقع في وسط منطقة الديرة، حيث أطلق اسم نايف على سوق نايف، نسبة إلى القلعة الموجودة في منطقة الديرة التي يطلق عليها قلعة نايف، وهناك العديد من الأسماء التي تمّ إطلاقها على سوق نايف، وهي سوق الصناديق، وسميت بذلك نتيجة لتزاحم والتصاق محلاته ببعضها.

جميرا روح البيئة البحرية
وتحدث الباحث التراثي، سلطان بن غافان، عن شوارع جميرا الأولى والثانية والثالثة، مشيراً إلى أن الراحل النوخذة فرج المحيرمي ساهم في بعض المسميات، والملاحظ أن أسماء كل شوارع جميرا حملت معاني ودلالات تراثية على الغوص مثل شارع اللولو وشارع البانوش وشارع الجالبوت، وقد تم التركيز على استدعاء مظاهر التراث وتجلياته، مفيداً أن منطقة جميرا استخلصت أسماءها من مفردات البيئة البحرية، مثل السفن وأنواعها ومكوناتها وأسماء الأسماك ومغاصات اللؤلؤ وأنواع الرياح التي تضرب المناطق الساحلية، كذلك تم إحياء بعض المفردات الخاصة بالكواكب والنجوم.
وعرج ابن غافان إلى شوارع أخرى، مثل شارع مستشفى الكويت وشارع الصبخة، حيث كانت تلك المناطق تمثل منفذ جذب تجاري يجمع الباعة من مختلف منطقة الخليج والعالم، وشارع «عكارة» و«الحباية»، في المنطقة التي كانت تستقبل المانجو من سلطنة عمان عام 1965، وكان البدو يبيعون منتجاتهم في ذلك المكان، وكان شارع البراحة الذي تغنى به الشعراء، وشارع الممزر أحد أهم المقايظ التي يصيف فيها الأولون.

سيرة البشر والحجر والبيئة
«الاتحاد» جالت في شوارع دبي على مدار يوم كامل، ورصدت أبرز أسماء الشوارع في أكثر شرايين المدينة حيوية وزخماً، والتقت العديد من كبار المواطنين من سكان بعض المناطق التراثية والأحياء الحضرية، الذين أكدوا في إفاداتهم وشهاداتهم على أن أسماء الشوارع تستحضر سيرة البشر ورمزية الحجر وعناصر البيئة ضمن مفردات مضيئة لها ارتباط وثيق بعبق الماضي ونفحات العادات والتقاليد وسيرة الأجداد، كما أن بعضها مرتبط بالجغرافيا وطبيعة التضاريس ومعالم الأماكن، وتوثق قصصاً وأحداثاً شهدتها المنطقة وارتبطت بوجدان ساكنيها، وبعضها يرمز لأسماء عائلات وأسر عريقة أصبحوا أبطالاً لتلك الأماكن التي سكنوها، وساهمت في إحياء ذكراهم وتخليد أسمائهم في شوارع تنبض بهم.
ودبي القديمة تتألف من ثلاثة أجزاء هي الشندغة وديرة وبر دبي، وخلال جولة على المناطق القديمة، شريط طويل من العناوين، يمر بلمح البصر لكن دلالة الاسم وعطر المعنى يظل عالقاً في الذهن، فمن شارع «الاتحاد»، الذي يرمز إلى قيام اتحاد دولة الإمارات، وانعطافاً إلى منطقة بوهيل التي سميت بذلك نسبة لبئر ماء عذب تسمى بوهيل، إلى منطقة الممزر، التي توصف بأنها واحة للمياه، كانت تغمرها عن طريق خور الممزر، ودلالة الاسم باللهجة المحلية «مزر» يعني ملأ الشيء.

آثار ومصايف
وانطلاقاً من منطقة ديرة وتحديداً من شارع بورسعيد الذي سمي على اسم مدينة بورسعيد في مصر، ويعتبر أقدم حي يحتضن مكاتب ومباني حكومية ومحال تجارية مرتبطة بالماضي، كما يوجد به بيت التراث ومدرسة الأحمدية من الآثار الرائعة لتاريخ المدينة الغني.
وقد تحولت دِيرة إلى منطقة سياحية رائدة عالمياً مع وجود مراكز تجارية وفنادق عصرية، ومروراً إلى جهة المرقبات، التي سميت كذلك لوجود الكثير من آبار المياه العذبة، حيث وضعت على حوافها بعض الحصى الصغير على شكل الرقبة فسميت المرقبات، إلى شارع الرقة وجمعها رقاق وهي الأرض لينة التراب، ومروراً إلى منطقة هور العنز، ونسبت إلى خيل كانت تسمى العنز، ماتت في هذا المكان، إلى البراحة، واسمها دلالة على مساحتها الجغرافية، وكانت تمثل مصيفاً للأوليين في الماضي، ثم التوغل باتجاه منطقة الراس التي التي لا تزال محتفظة بالاسم نفسه، إلى منطقة البطين الواقعة بجانب الخور وتعني باطن الشيء، وبالدخول إلى منطقة الشندغة التاريخية التي كانت مقراً لبيوت الحكام ومركزاً تجارياً للصيادين والنواخذة، والتوجه إلى سوق مرشد الذي سمي على اسم محل تاجر مشهور في السوق اسمه مرشد العصيمي.

ميثاء وأبو منارة وأم سقيم
ولدى تغيير المسار نحو بر دبي، الذي يضم حي الفهيدي التاريخي والمنخول والرفاعة ودلالة اسمها كونها منطقة مرتفعة، ثم التوجه إلى الجداف وعود ميثاء، وبالانتقال إلى منطقة الجافلية وزعبيل مروراً بمنطقة السطوة وهي منطقة جاءت من كلمة سطو وتعني يسطو أي يغير، ففي الماضي كان البعض يسطو على البوش ويغير عليه، ثم إلى شارع الوصل، نحو شارع الشيخ زايد، باتجاه شارع المنارة، سمي على مسجد أبو منارة وهو أحد أقدم المساجد في تلك المنطقة، والقوز والبرشاء سميت بذلك لوجود أشجار منتشرة فيها على شكل مجموعات صغيرة وأم سقيم وند الشبا وشارع ميدان.
أصالة وعراقة وعناوين ملهمة يفسر خميس ناصر الياسي، وهو من أحد سكان منطقة جميرا، بعض أسماء الشوارع والمناطق التي لا يزال يستحضرها، فقال إن الأسماء في شوارع دبي أصله قديم، لم يتغير معظمه، ولا تزال شاهدة على حقبة زمنية مهمة ولها دلالات تاريخية، موضحاً أن ما يجري في دبي من نهضة معمارية وتخطيط هندسي لشوارعها يحافظ على أصالتها وعراقتها، لإحياء هذا الموروث الثقافي العريق من خلال تثبيت تلك الأسماء لتظل في ذاكرة الأجيال وعناوين ملهمة يطالعها الزوار والسياح من مختلف أنحاء العالم، لمعرفة قصص من سيرة أهلها ونمط حياتهم وتراثهم المادي والمعنوي، الذي تجسده تلك المفردات المستوحاة من اللهجة المحكية للسكان القدامى.

تجارة وبورصة وألماس
لا يمكن الحديث عن دلالات أسماء وعناوين شوارع دبي، من دون الإشارة إلى شارع الشيخ زايد، الذي سمي نسبة إلى اسم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ويمثل نقطة وصل إلى كل الشوارع الفرعية في الإمارة ويضم أبراجاً وناطحات سحاب وبنوكاً ومراكز اقتصادية وتجارية ومعالم سياحية ضخمة، فضلاً عن فنادق عالمية فئة خمس نجوم.
كما يحتضن مشاريع ضخمة، منها برج خليفة ودبي مول والمركز المالي والمركز التجاري العالمي، ومجمع الذهب والألماس، مدينة دبي للإعلام ومدينة دبي للإنترنت وغيرها، ويتفرع من شارع الشيخ زايد، شارع الثاني من ديسمبر الذي تم إطلاقه على شارع الضيافة سابقاً، وهو من أهم شوارع دبي التجارية وكذلك الاستراتيجية، ويوجد به العديد من الشقق السكنية والمحلات التجارية.
وهناك أسماء شوارع ترتبط بالغوص والصيد، كما هو الحال في شوارع جميرا الثلاثة، وشوارع ترتبط بالاقتصاد العالمي مثل شارع الصكوك وشارع البورصة وشارع المركز المالي وغيرها، وشوارع تؤدي إلى المنطقة الصناعية بدبي ترمز إلى المواد الخام الأساسية مثل شارع الحديد وشارع الرصاص وشارع الحجر.
وهناك شوارع بأسماء حديثة ذات طابع عصري مثل شارع-JBR ويوجد به «ممشى الـ جي بي آر – JBR»، ويضم متنفسات سياحية ومساكن وفنادق ومطاعم مطلة على البحر، وشارع البوليفارد الواقع في منطقة برج خليفة، ويعد من أشهر شوارع دبي جمالاً وتصميماً ورقياً.

ذكريات أهل البر والبحر
وقالت حبيبة بن ثالث، الخبيرة التراثية، إن لافتات شوارع دبي ترتبط بذكريات أهل البر والبحر، وتصف إشراقات من حياة الأجداد، وتعبر عن روح الماضي وعراقة الموروث القديم، وذكرت الكثير من الأسماء التي لا تزال عالقة في ذهنها، ومنها أول اسم «الطواش» وأطلق هذا الاسم على اسم شارع من الشوارع الفرعية في منطقة الجميرا وهذا الاسم يطلق على تاجر اللؤلؤ، أما «الميداف» فهو اسم يطلق على أداة تصنع من الخشب للاستعانة به في التجديف في ركوب الماشوه وهي نوع من السفن لكن صغيرة الحجم، ويستعمل أيضاً في السفن الكبيرة للوصول إلى الأماكن التي يريدون الوصول إليها في الصيد أو التنقل أو التجارة، وأشارت إلى دلالة اسم «الخطام» وهو أطلق أيضاً على بعض الشوارع الفرعية التي تحاذي الساحل، لأنها مرتبطة بالبحر و«الخطام» يستعمله الغواص عند الغوص للؤلؤ لسد أنفه عند النزول للبحر.

تعريف بالتراث واجب وطني
وذكرت الوالدة حبيبة شوارع أخرى مثل «الشمشول» أطلق على بعض الشوارع الفرعية و«الشمشول» يلبسه الغواص ليستر به ويكون خفيف القماش، وأسماء السفن الجالبوت الصمعا وهذه سفن تستعمل في الأسفار والغوص، واهتمام حكومتنا الرشيدة بإطلاق هذه الأسماء على الشوارع لكى يقرأها المارة، لكى تكون راسخة في أذهاننا، لكي لا تندثر من حياتنا، والواجب على كل مواطن أن يعرف كل معنى لهذه الأسماء ليعلم أبناءه بتراثنا البحري العريق، استلهاماً من المثل القائل الذي ماله أول ماله تالي «فيجب علينا المحافظة عليه وتعريف أبنائنا والمقيمين على أرض دولتنا بهذه الأسماء الكثير من الزوار يسألون عن هذه الأسماء يجب علينا بتعريفهم بهذه الأسماء».

القيم والموروث
تحرص بلدية دبي دائماً على صون هوية الأماكن وتراث المناطق القديمة في دبي، من خلال تكليف لجنة متخصصة بعنونة شوارع إمارة دبي بإشرافها وبالتعاون مع هيئة طرق ومواصلات دبي، وتضم اللجنة نخبة من كبار المواطنين وخبراء التراث ورواد الثقافة والفنون وباحثين وأكاديميين لهم حضورهم وبصماتهم في المشهد التراثي والثقافي في دبي، والهدف من إشراكهم في اقتراح الأسماء تجديد وتبديل بعض الأسماء بأخرى، مع مراعاة الاهتمام في الهوية والأصالة والبيئة، وتوثيق بعض المفردات العامية التي لها مدلولات وتعكس بعض القيم الجميلة والعادات النبيلة.

معانٍ تراثية
في شهادة راشد المري، بصفته كان أحد سكان دبي القديمة، استعرض أبرز أسماء الشوارع ومعانيها التراثية، وذكر أن منطقة القرهود كانت منطقة فيها كتل أي قراهيد مرتفعة تكونت من الجير ومن الطين، ومنطقة البرشاء التي كانت تكثر فيها الأشجار والنخيل وتتخذ أشكالاً جمالية، أما منطقة نايف فسميت دلالة على قلعة نايف التاريخية، كما ذكر أن شارع الرقة مستوحى من رقاق وهي أرض لينة التراب، ومنطقة العوير دلالة على وجود بئر ماء كانت مشهورة في تلك المنطقة.

قصص ودلالات
الراشدية: ند راشد بناها المرحوم الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم فسميت الراشدية. المطينة: أرض طينية الراس: تعني رأس اليابسة الممتد في البحر فسميت راس المزهر مستوحى من أنواع الزهور المنتشرة في تلك المنطقة الوحيدة: توجد بها نخلة وحيدة في المنطقة.
الضغاية: الضغاية هم الأشخاص الذين يصطادون السمك أم هرير: اسم امرأة كانت تربي هرة، أم الشيف: دلالة على «هير للؤلؤ» اسمه أم الشيف في البحر منطقة الخوانيج بذلك نسبة إلى بئر ماء عذب تسمى الخوانيج، البطين: شكل المنطقة يشبه البطن أو الدوحة التي يتجمع فيها الماء، ند الحمر: كثبان رملية لونها أحمر، الورقاء: نوع من الحمام اسمه الورقاء، المنخول: دلالة على وجود شجر النخيل.