عبد الدائم السلامي
أقربُ ما يُمكن أن توصَفَ به لحظتُنا الرّاهنةُ هو أنّها من تاريخ الإنسان لحظةُ انتشائِه التكنولوجيِّ، ذلك أنّ ثورة الاتصالات قد ردمت الهُوّةَ بين الواقعيّ والافتراضيّ، وبين القريب والبعيد، وبين الممكن وغير الممكن، وتخلّقت بها إمكاناتٌ من التحاور الرَّقْمي مع الآخَرِ جمّةٌ، ومكّنت مُحرِّكاتُ البحث ووسائلُ التواصل الاجتماعيّ كلَّ مستخدِمٍ لها من أن يمتدّ برُوحه وفِكره خارج حُدودِ جسده، وأن يكون دومًا أكثرَ من نفسِه، فإذا هو هنا وهناك في الآن ذاته، وإذا بكلّ العالَم أقربُ إليه من مرمى حجرٍ. غير أنّ في هذا الامتداد ما خلق تصوّرات جديدة عن الإنسان والحياة والعالَم، وهي تصوّرات طارئة تحتاج فيها الشعوبُ إلى مثقّفين تهتدي بآرائهم ويكشفون لها عن حقائق مفردات معيشها وذلك من جهة أنّ «قول ما هو حقيقيّ إنّما هو مسؤولية المثقفين الوحيدة بوصفهم مثقفين»، على حدّ قول حنة أرندت.
يُعَدُّ مصطلحُ «مُثقَّف» واحدًا من المصطلحاتِ ناميةِ الدَّلالة، فهو في الاستعمال أكثر إيحاءً منه في المعجَم، إنه مصطلح مُتحرِّكٌ وشَرِهٌ إلى التزيُّدِ المعنويِّ، يطلب المعنى دومًا، ويتجاوزه إلى غيره دائمًا، ومن صُوَر هذا الشَّرَهِ ما يتجلّى في اختلاف حمولته الدَلاليّةِ من باحثٍ إلى آخر، وذلك بحسب ما يُضيف له كلّ واحد منهم من نعتٍ مُكمِّلٍ لمعناه الإنجازيِّ، أيْ إضافةِ نعتٍ مُكمّْلٍ لدَلالته وهو يجري في الكلام وفي وقائع المعيش البشريّ، فإذا هو «مثقَّف عضوي» عند غرامشي، و«مثقّف ملتزم» في رأي سارتر، و«مثقّف متخصِّص» بالنسبة إلى فوكو، و«مثقّف رسوليّ» عند إدوارد سعيد، و«مثقّف مُنَظِّر» على حدّ ما يرى دولوز، و«مثقّف محترِف» في كتابات كارل مانهايم، وهو عند بيير بورديو «مثقّف جماعي». ويبدو أن هناك سببًا مّا يقف وراء هذا الاختلاف في توصيف المثقَّف، ونُقدِّرُ أنه راجعٌ بالأساس إلى تنوّعِ الأزمات والطفرات السياسية والمعرفية والثقافية التي عرفتها الشعوب، وإلى الوظائف التي تنتظرها من مثقّفيها لمساعدتها على إدارةِ أحداثِ واقعها إدارةً حسنةً أثناء كلّ طفرة منها، وهذا لا يعني أن الشعوب عاجزة عن فهم واقعها وإنما يعني أنّها تلوذ بالمثقّف لتطمئن قلوبها إلى ما تتخذه من مواقف في حياتها العامّة. وفي ضوء هذا يذوب كلّ ما يحضر في الذّهن من اختلاف بين وظيفة المثقّف القديم ووظيفة المثقّف العصري، ولا يبقى من ذلك إلا اختلافُ طبيعة عمل كلّ واحد منهما ومصادر معرفته بسبب ما يطرأ علي زمنيْهما من أحداث، فهو اختلاف في الآلة والفكرة وليس في الوظيفة. ومن ثمَّ فالقول بقَدَامة المثقّف أو عَصْريتِه لا يقلّل من شأن مهامِّه في مجتمعه. فما المثقّفُ من الناس-منذ لحظة سقراط إلى حدود لحظة الطفرة الرقمية الراهنة- إلاّ ذاك الذي لا يُشبه جميعَ الناسِ، إنه فردٌ ينْتَدبُ نفسَه طوعًا ليخترقَ منطِقَ وقتِهم الصّامتِ، وينتَهِكَ فيهم سُنّةَ فهْمِهم العُموميِّ للعالَمِ.
ولن يكون المثقّفُ جديراً بصفتِه إلاّ متى غامر بفكره وجسده في الفضاء العامّ والتحم فيه بالناس. لقد كان الجاحظ مثقّفًا في زمنه، وإنه لا يَخْفى عن قارئ كُتبِه سعيُه إلى تنبيه الناس إلى اندحارهم القِيَميِّ، وكشفِه لهم عن مساوئ أنظمة واقعهم السائدة سواء أكانت ماديّةً أم رمزيّةً على غرار ما جاء في رسالتِه الساخرة (رسالة في الجِدّ والهزل) التي وجّهها لابن الزيّات، وزيرِ المعتصم، من تلميحٍ إلى وظائف المثقَّف في مجتمعه من حيث ما هو إنسانٌ يقظٌ لا يخضع لإغراءات الرأي العامّ، وله من الوعي بظروف زمنه ما به يقدر على رفض إملاءاته ونقدها واقتراح بدائل لها، إذْ نُلفيه يخاطب الوزير قائلا: «وأنا صاحبُ كلامٍ وأنتَ صاحبُ نَتاجٍ، وصناعتُك جودةُ الخَطِّ، وصناعتي جودةُ المَحْوِ». وببعض التأويل نقول إنّ الجاحظ يُقابل جودةَ خَطِّ ابن الزيّات، وما يُحيل عليه الخَطُّ من خُطَطٍ وتخطيطٍ سياسيّ وثقافيّ، بجودة مَحْوِه هو نفسُه لخُطَط هذا الوزير، وكشفِه هَنَاتِها. والبيّن في قوله هو ميلُه إلى جعل وظيفة المثقَّف تتجاوز المُعارضة الفَجَّة صوب أخرى تنحو إلى التكوُّنِ صناعةً وفنًّا.
وفي أزمنتنا الحديثة، يمثّل يورغن هابرماس مثقّفًا عصريًّا، إذْ يذكر «ستيفان ميلَر دُومْ» في كتابه «هابرماس: سيرة ذاتية» أنّ في مسيرة هابرماس نفسِه، وهو الذي أدخل مفهومَ الفضاء العامّ إلى حقل الدراسات الاجتماعية والفلسفيّة من جهة ما هو مجال (sphere) تواصلي وغير ماديّ يتمّ فيه تبادل الآراء بين النّاس ضمن إتيقا شفّافة، ما يؤكّد أن التواصل لديه إنّما كان أمْيَلَ كثيرًا إلى فنّ النِّزاع من فنّ الإجماع، وهو نزاعٌ يبدو لنا قريبًا دَلاليًّا من «جودة المَحْوِ» الجاحظيّة، فقد عارضَ سلطةَ حقائقِ عصره، ومن صُوَرِ ذلك ثورتُه على أعلام مدرسة فرانكفورت الفلسفيّة، ورفضُه الدعوةَ إلى القومية الجرمانية، ودفاعُه عن الديمقراطية والتكامل الأوروبي، وتشجيعُه الفكرَ العلمانيَّ، ووقوفُه ضدّ الهندسة الوراثيّة. وبالتلخيص نقول إنّ المثقّف مُحارِبٌ بالضّرورة، يُحارب فكريًّا وجماليًّا كلَّ مظاهر الخمول والاطمئنان عند الناس، ويقترح أفكارا جديدةً حاملة لقيم اجتماعية وأخلاقية تُمثّل جميعُها قوّةَ دفعٍ نوعيةً لحركة واقعهم صوب تأمين حياة لهم جَذْلى وهنيئة. فأيّ مثقّف تحتاج إليه لحظتنا الرقمية الراهنة؟
مُثقَّفُ المُؤقَّتِ
إنّ ما كنّا سمّيناه الانتشاء التكنولوجيّ إنّما هو انتشاء واهمٌ، ومُغالِطيٌّ، وقد طرح على الإنسان قضايا جديدة، لعلّ من أجلاها ما تكشَّفَ له من أنّ للتقنية لاوعيًا ماكرًا يُسيطر على المجال العامِّ ويبتزُّ أفرادَه في مراغبِهم وسلوكِهم، بل هو يستفزّهم ببريق إشهاره، وهو أمرٌ قد خلق، على رأي الروائي الفرنسي مارك دوغين، تفاقمًا كبيرًا في الفجوة بين التكنولوجيا ومستوى الوعي البشري، «فهذه التقنية الرقمية ليست من ابتكار أقلية من الناس ترغب في غزونا فحسب، وإنّما هي تنتشر بيننا بموافقة الأغلبية التي لا ترى فيها سوى فوائدِها، وتنسى أنها في واقع الأمر ثورةٌ تدعو إلى دكتاتورية ناعمة وتوافقية للغاية، أحسب أنها ستزعزع علاقاتنا الاقتصادية، وعلاقاتنا الاجتماعية، وعلاقتنا بالفضاء والعالم». وإن نجاحَ التكنولوجيا الرقمية في توزيع الناس إلى فئةٍ قليلة تمتلك سلطةَ التقنية بكلّ فلسفات إغرائها وفنون إغوائها، وفئةٍ كثيرة خاضعة لتأثير تلك التقنية ووُعودها، ولا تملك من أمرها إلاّ لهفةَ استهلاك ما يُعرَضُ عليها من منتجاتٍ وأخبارٍ ومعارفَ، ووهمَ الانتشاء المُؤقّت باستهلاكها، إنما هو حالةٌ أسّست لِمَا يجوز لنا أن نُسمّيه «مجتمع المُؤقَّتِ» الذي خلق الحاجةَ لدى الناس إلى مُثقَّفٍ جديدٍ، مثقّفٍ واعٍ بطبيعة الطفرة الرقمية من حيث ما هي كيانٌ غير مُحايدٍ، وينهض على دعامة خطابٍ يستهدف التحكّمَ في عواطف مستخدميه، وإغواءَهم.
سرديّات أدبيّة وأخلاقيّة
قبل ثورة الاتصالات، كان اهتمامُ المثقّف متّصلاً دومًا بفضاء ما ينشأ من مواجهات بين السلطات السياسية وشعوبها، وكان يتحرّك ضمن سرديّات أدبيّة وأخلاقيّة واجتماعيّة معلومة. وما إن ظهرت الطفرةُ الرقميةُ، وأغرقت تكنولوجياتُها حياةَ الناس بمعارف مهولة تتناسل بلا عواطف، بل وتركتهم بلا حمايةٍ ممكنة من تغوُّل طموحها الذي بلغ حدَّ التحكّم في الهندسة الوراثيّة وتهديد الطبيعة البشريّة ذاتها وما يُثيره ذلك من قضايا أخلاقية، حتى ترحّلت وظيفةُ المثقّف إلى علاقة المواطن بسلطة التكنولوجيا، وهي علاقةُ غوايةٍ تقع في حيّز الافتراضيِّ الذي لم تبلغه القوانينُ بعدُ، ولا تَشِيعُ فيه منظوماتُ الأخلاق. وعليه، يكون من وظائف مثقَّفِ زمن الرقمنة أنْ يتعاطى مع هذه الطفرةِ العلمية بعيْن ثالثةٍ عبر وعيِه الحادّ بحقيقةِ أنه إذا لم نُرَشِّد تعاملَنا مع التكنولوجيا الجديدة وَفْق طبيعة حاجاتنا وثقافتنا عاملتنا هي وَفْق حاجاتها: أيّ حوّلت الواحدَ منّا إلى كائنٍ منعزِلٍ وسهل الاندهاشِ، وقابِلٍ للانقياد إلى إغراءاتها، ومستسلِمٍ لأحلامٍ مؤقَّتَةٍ يتهدّدها التبدُّدُ في كلّ لحظة، ذلك أنّ كلّ مؤقَّتٍ إنّما هو بلا مستقبلٍ. هذا بالإضافة إلى ضرورة تحويلِه مخرجاتِ هذه الطفرة الرقمية إلى مصادر يُغذّي بها معرفته، ذلك أنه على عكس مثقّف ما قبل الرقمنة، انفتح مجال تحرّك المثقّف الجديد وسيعاً على العالَم بفضل سهولةِ حصوله على المعارف، وإمكانية تكييفِ محتوياتها، وسرعةِ تواصله مع الآخر. وهي مصادر سيكون عليه أن يتنبّه إلى فلسفاتها المرجعيّة وغاياتها الثقافية، وإلى مخاطرها الخفيّة من جهة احتمال استغلالها في أعمال ضارّة (نذكر منها تواصل الإرهابيّين فيما بينهم باستخدام الإنترنت، واستغلال القُصَّرِ عبر وسائط التواصل من قبل بعض المجرمين، واستخدام بيانات المستخدِمين الشخصية كقيمة تجارية للشركات الكبرى ومراكز البحوث وَفْقَ ما اعترف به مُؤسِّسُ فيسبوك نفسُه). ومن ثمَّ يكون لزاماً على مثقّف مجتمَعِ «المؤقَّتِ» أن يساعدَ الناسَ على حُسن استثمار الوسائط الرقمية من خلال كشفه لهم عن مدى صِدْقِيتِها، وعن قابليتها للتغيّر المستمرّ، إضافة إلى دعوتهم إلى الشكّ والتيقّظ لكلّ ما يُخفيه عنهم بريقُها من مغالطات (fake news) غرضُها التلاعبُ بمواقفهم وتوجيهها صوب غايات لا يَرْتَضونَها. إنّ مجتمعَ «المؤقَّتِ» يحتاج إلى مثقَّفٍ يدلُّ الناسَ على سبيلٍ ممكنةٍ لعُبور لحظتِهم الرقميّة بلا خسائر نفسية واجتماعية وسياسيّة وأخلاقيّة من شأنها أن تُعرقل سعيَهم إلى تحقيقِ نهوضهم الحضاريّ.