نوف الموسى (دبي)

أكثر ما يَلفت في فنانة الخط العربي الإماراتية مريم البلوشي هو حماسها اللامتناهي، لإنجاز ما تود إيصاله للحياة، سواء بعملها في مجال الهندسة، أو البحث عن الإبداع الخلاق عبر الحروف العربية. في اللحظة التي تحدثت فيها مريم عن إتقانها للخط الديواني عبر كتابة سورة «الشرح»، والتي أطلقت عليها لوحة العودة لأنها جاءت بعد انقطاع دام 6 سنوات، توالت الأسئلة مباشرة نحو الإمكانية التي يضفيها الحرف على حياة الإنسان، قالتها مريم بكل صراحة: «نجحت وأنجزت في عملي، الهادف إلى خدمة وطني بالدرجة الأساسية ومجتمعي، وفخورة بالتأكيد، ولكن ما إن يكتشف أحد من محيطي، أني خطاطة، أرى كيف أن رؤيتهم تختلف، فجأة يصبح حديثهم أكثر عن الموازنة بين الحياة والذات. بالنسبة لي هذه التوليفة نشأت لدي منذ عمر الـ6 سنوات، ومقاربتي شعورياً لأول حرف في لغتنا العربية، هو العالم الذي رسم نفسه أمامي، لأُبحر فيه، ورغم الانشغالات المهولة، إلا أن الخط، كان صوتاً داخلياً، لم ولن يكف عن مناداتي».
في زيارة لاستوديو الفنانة الخطاطة مريم البلوشي، في منزلها بمدينة دبي، اكتشاف أكثر لعفوية مريم الإنسانة، بدأت بإظهار اللوحات التي خطتها على مدى سنوات سابقة من عمرها، كمن ينفخ الروح في أشيائه، لتعود وتتفتح من جديد. ورغم أن قصة بدايتها المرتبطة بتقليد الخط في طفولتها، تنم عن رغبة فطرية بديعة، في أن تعبر من خلال الشكل الجمالي عن حُبها للحياة، إلا أنها شعرت بأهمية أن تتجاوز نفسها، تقول: «كنت خجولة، وكُسرت في بعض المراحل، أثناء الدراسة، وقررت أن أُفعّل قيمة النجاح في حياتي، بأن أختار التركيز، بالخروج من منطقة الكواليس، إلى الواجهة أمام كل الناس، والأمر كان يستحق مني الاجتهاد للوصول».
هنا توقفنا عن الحديث وبدأنا نشاهد لوحتها «التعايش.. القارات السبع»، تأملنا تناغم 7 تكرارات لتصميم ارتبط بحسب تعبير مريم بالجمال والحُب والسلام، وبالتلاحم الذي بإمكانه أن يجمع الإنسان باختلاف ثقافته وديانته ومكانه الجغرافي بإنسان مختلف عنه، وعبرت مريم عن اللوحة ببهجتها المعتادة: «كتبتُ فيها (كن جميلاً ترى الوجود جميلاً) للشاعر إيليا أبوماضي، لم يكن يكفي قولها مرة واحدة بل سبع مرات بأشكال مختلفة، يعتقد البعض بأني كررتها بنفس الطريقة، إلا أن من ينتبه يدرك أن هناك تغيراً في كل تكوين في جزئية معينة، ويُمكن أن يكون السحر هنا، في أننا جميعاً كبشر مرتبطون من الداخل، والاختلاف حالة ظاهرية». لم أخفِ عن الفنانة الخطاطة مريم إعجابي بلوحتها «قهوتي قصة وأنت الرواية»، وقوتها في حكايتها الفنتازية، المرتبطة بإبداع التموجات المعُبرة عن حالة الدخان المتصاعد من فنجان القهوة، وبالتزامن قدمت لي مريم القهوة، لاستشعر المدى الروحي لسحر لوحة الخط العربي على الأشخاص، وسألتها متى أدركت النضج في إضافة المعنى عبر حكاية اللوحة الخطية، لتخبرني: «درستُ قرابة الـ3 أشهر في معهد الخط العربي والزخرفة في الشارقة، ليكون الأستاذ محمد النوري، المعلم والداعم الأول. لكن ما حدث عام 2010 كان فاصلاً، انتدبت إلى الخارج للعمل مدة 6 أشهر في كندا، في تلك العزلة، بعيداً عن الواجبات الاجتماعية، أو الضغط المهني، حولت كل شيء إلى عالم من الإبداع في الخط العربي، ساعات كانت تنقضي، وأنا في إدراك تام لمعنى أن سحر الحرف يقيسه ارتكاز القصبة على جسد اللوحة!». أحضرت مريم لوحة استخدمت فيها ورقاً يابانياً مقهراً، وبدأت تشرح حيثيات تصميمها بشموخ واعتزاز، قالت: «استقامة خطوط (الألفات) السبعة تعكس نهج الاتحاد منذ نشأته. الزوايا المختلفة للكلمات، ودوائره هي صورة لديمومة الاتحاد، أما تدرج أطوال الأعمدة السبعة إلى الأعلى، فهي دليل على التنمية الشاملة المستمرة للإمارات السبع كافة، والتطور المختلف باختلاف مستوياته في مختلف القطاعات. وأخيراً التفافة حروف القاف والألف المقصورة والواو حول ألف الاتحاد الممتدة هي صورة تعكس التفاف الشعب وتلاحمه حول قادته والوطن»، إنها لوحة «الاتحاد باقٍ إلى يوم الحشر» مقولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.
عندما عادت مريم البلوشي بعد الانقطاع إلى الخط العربي، ألزمها أستاذها محمد النوري أن تكتب بالقلم قبل أن تذهب مباشرة إلى القصبة، أرادها أن تتعلم الانضباط الذاتي والصبر على التعلم، بينما اختار الفنان التشكيلي مطر بن لاحج (معلمها في المرحلة المتقدمة) أسلوب التحفيز والاستفزاز، بأن تواجه خوفها وطلب منها أن تقف أمام اللوحات ذات الأحجام الكبيرة وتسأل نفسها ما هو إحساسها أمامها، ومنها بدأت مريم في خوض التجربة، ومحاولة التجاوز، مؤكدة أن الأدوار التي لعبها هذان المعلمان في حياتها أنتجت تحولاً جوهرياً في ما تقدمه على مستوى الخط، ولا يمكن أن تقدم معرض أو لقاء دون أن تذكر فضلهما عليها، للوصول إلى هذه النقطة التي تتطلب بالتأكيد أن يتحرر الفنان من معلميه، ويبدأ بوضع شخصيته وتصوراته وأفكاره وتوجهاته الخطية والفنية، ومنها أيضاً يقدر نوعية المتلقي المتذوق في معارض الخط العربي، موضحة أن المتلقي العادي نادراً ما يكشف تشوه اللوحة، إلا إذا تدربت عينه بإتقان المُحب، عندها يكشفه بسهولة!