شاكر نوري

ليس من السهل الكتابة عن التجربة الشعرية للشاعر الإماراتي الراحل حبيب الصايغ الذي ودع عالمنا قبل أيام إلى رحلته الأبدية، وأول ما يجب أن نذكّر به القارئ أن هذا الشاعر رائد من رواد الحداثة الشعرية التي لطالما رفع لواءها ونادى بها، وحرص على ترسيخ ركائزها على مدى أربعين عاماً في منطقة الخليج. لذا كانت له صداقات حقيقية وافتراضية مع الشعراء الذين اشتبك مع نصوصهم في محاولة للقبض على اللحظة الشعرية الساخنة عندهم. الكاتب والناقد العراقي عبد الإله عبد القادر بدأ كتابه «حبيب الصايغ: المعادلات الصعبة» (اتحاد الأدباء والكتاب الإماراتيين 2016) بقصيدته الرثائية «إلى بدر شاكر السياب» في قوله:
بعد خمسين عاماً من الموت/‏‏ ماذا يريد المدثر بالشعر؟ ماذا يشخبطُ بالضوء في عتمة القبر؟... لستُ حياً ولو في المجاز فيا بدر لا تمتحنّي بتجربة/‏‏ الشعر في شاعر مات والشعر في الأصل حيّ/‏‏ وينبضُ كالذكريات.
وهكذا وجدتُ أن الشاعر الراحل حرص على استحضار كوكبة من الشعراء لإضاءة ما يفكر به. هكذا استمر الشاعر في التشابك مع نصوص الشعراء الآخرين، بحثاً عن سر القصيدة التي لطالما بحث عنها كما كان جلجامش عن الخلود، فيجد امتداداتها في حيوات الشعراء الآخرين، في محاولة منه إلى تلمس اللحظات الساخنة ليس في حياتهم فحسب بل في اللحظة الشعرية الساحرة، ويختار منهم البارزين ليحاكيهم: ففي قصيدته «الجواهري» من مجموعته «وردة الكهولة» ج1 اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات 2012، يقول:
عمري وعمرك بغداد وعشتارُ/‏‏ أي النبيذين من أسمائه النار؟/‏‏ ما لي من الصحو بدٌ كي أقول دمي/‏‏ دمي شرابي، وبعض الصخر أنهارُ/‏‏ وبيننا الشعر مهدور ومنتهك/‏‏ كأن أحلامنا السوداء أشعارُ.
وعن أبي نواس:
أدعوك، الليلة، إلى المنادمة/‏‏ الركن القصي في المطعم الفرنسي
وبيننا يا رفيق الطفولة/‏‏ سيرة من الحب الناقص/‏‏ والموت الناقص.
ويذهب إلى محمود درويش:
أبدت الأرض زينتها/‏‏ فانتمينا إليها/‏‏ وكنا لها لهفة أو دعاء/‏‏ وانتظرنا طويلاً،
فلم يحضر الأصدقاء/‏‏ مطر طازج في المطر/‏‏ والفصول انتهت/‏‏ غير أنا انتهينا إلى سفر شاهق/‏‏ ليس فيه سفر/‏‏ وبين المراكب/‏‏ كنا نحاول أن نلمس الموج/‏‏ بين المراكب/‏‏ وعدنا/‏‏ نحاول أن نتلمس أوطاننا/‏‏ في الحقائب.
ويذهب إلى يحيى يخلف:
سأقاتل من أجل كل فلسطين/‏‏ إني هناك. وإنك جنبي/‏‏ وقلبي/‏‏ وخاتم أمي، وطيارتي في الطفولة.
ثم ينتقل إلى ناجي العلي:
والبحر ذبيح وغريق./‏‏ والطوابير التي قالتك/‏‏ ما اغتالت سواك.
وينتقل إلى مارسيل خليفة:
تعاليت في ملكوتك/‏‏ حيث الجموعُ الفقيرةُ تحيا معكْ/‏‏ فيدور الفلكْ.
تجسد القصائد السالفة حبه الشديد لهؤلاء الرموز من خلال إضاءة أرواحهم. فهو يعبر عن توهج اللغة، ومدى قدرتها على التأويل والانتقال بين المكان والزمان بتلقائية نهر الشعر، والذهاب إلى أقاصي المعاني، وكأنه يكتب سونيتات من أجل التعبير عن دهشة القصيدة. وفي هذه القصائد يربط بين حيوات أصحابها وبين همهم الشعري، محاولاً القبض على جمرة الشعر.

لم ينسحب عن معركة الحداثة الشعرية
مما لا شك فيه إن تجربة الشاعر حبيب الصايغ تعتمد على مرجعياته المعرفية والتراثية، فهو يعتمد في القصائد التي أوردنا منها نماذج، على تطويع تجارب الشعراء الآخرين في رؤيته القائمة على التكثيف واللغة، مازجاً الواقع بالخيال.
سعى الشاعر على مدى تجربته الشعرية الطويلة إلى تقديم بناء جديد للقصيدة، وهذا السعي ما يميّزه عن أبناء جيله الذين انسحبوا عن هذا العراك. أي أن الشاعر الراحل أراد أن يطرح أسئلة الشعر من خلال لغة شعرية متجددة عبر كائنات أحبها الشاعر: المغني والغريب والمرأة كما في مجموعته الشعرية «كسر في الوزن»، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي 2011 التي تشتمل على أربعين نصاً شعرياً. يختلط النبض الشعري بالسرد واللغة والكلمات، والموسيقى من خلال تمرده بكسر الوزن رمزياً عن طريق التجريد والتأمل والتأويل.
في قصيدة «تفاحة الماضي» يعود إلى الإغواء الأول، ويصنع الجدل حول الوجود ومعناه:
والنحاتُ في تابوته وفي عينيه/‏‏ أجوبة/‏‏ مغيبة وأسئلة مواربة/‏‏ وفي عينيه دود الأرض مشتبك، ويقضم/‏‏ من طفولته/‏‏ أيا تفاحة الماضي تعود لك الغواية دائماً.
وفي قصيدة «أنا والبحر» من مجموعته «قصائد على بحر البحر»، الأعمال الشعرية، ج 2 اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، يعبّر عن مناجاته للحياة عبر البحر الذي يجده بمثابة التوأم:
أنا والبحر بحران في واحدٍ/‏‏ ومكانان في واحد/‏‏ ضجة الموج في الروح، كل ارتطام/‏‏ بين كل اختتام وكل اختتام/‏‏ كنتُ والبحر/‏‏ أنحت أشكاله بأظافر روحي قبل الولادة/‏‏ ثم تحولت عنه إلى نحت روحي بعد/‏‏ الفطام.
ويستمر في دهشته ليكتشف أنهما سيواجهان الموت مع البحر سوية:
أنا والبحر أول موتْ/‏‏ أنا والبحر آخر موت/‏‏ وكلانا هباء/‏‏ وكلانا جبال من الماء والكبرياء/‏‏ ووشوشة وهدير/‏‏ وصمت غزير، غزير/‏‏ وكلانا دماء/‏‏ أنا والبحر صوتان أو جثتان/‏‏ نأي عن ناي الأغنية/‏‏ واغتيال الهنيهات في جذوة الاشتهاء/‏‏ وبكاء الزمان.
وينتقل الشاعر إلى رومانسية العشق عبر الاشتياق والحنين والأمنية والعطر وكف الحياة والجنون والبذور، عناصر جمعها في «قصيدة حب» بيروت/‏‏ 2011:
تمنيتُ لو أنني شعرك الأسود المنتقى/‏‏ لأسافر، وحدي، في الليل/‏‏ دون قمر/‏‏ تمنيتُ لو أنني خال بخدك/‏‏ حتى ألملم فوضى الغجر/‏‏ تمنيتُ لو ألتقي وجهك المبدعا/‏‏ لكي أسطعا/‏‏ تمنيتُ لو أنني أمسكِ الطفلُ /‏‏ ذاك الذي دعا/‏‏ لكي أرجعا.. تمنيتُ لو كنت لونك/‏‏ لألغي المسافة بيني وبينك.
وفي قصيدة «زمن النساء» من مجموعته «رسم بياني لأسراب الزرافات» يسعى إلى استجلاء سر المرأة العميق عبر البوح.
النساء لهن النسائم والطقس أول ما/‏‏ يُشتهى، ولهن/‏‏ المجون الخفيف. لهن حلاوتهن الأنيقة بين/‏‏ السنين/‏‏ لهن الصهيل الرشيق /‏‏ لهن المساء صديق /‏‏ يقلن له ما يخبئن عنا/‏‏ وينسيننا بين قرنين أو وجعينْ/‏‏ وينسيننا بين ما نحن فيه من الموت والحب.
في قصائد الشاعر الراحل تكوينات تشكيلية ولونية زاخرة، صورة ذهنية تبقى راسخة بعد أن يذرو قصائده في الريح لكي تصل إلينا. عبر لغة مرئية وبصرية. ولا تترك قصائده القارئ من دون التفكير بأسئلة الوجود والعدم عبر لغة شعرية تحتضن الشكل والمضمون في مشروع حداثي ظل الشاعر الراحل يحفر في تشكيلاته منذ بداية كتابته للشعر في سبعينيات القرن الماضي وحتى آخر لحظة في حياته. الحداثة الشعرية همٌ كبيرٌ من هموم الشاعر عبر أربعة عقود، لا يكل ولا يمل من سبر أغوارها وصياغة مفرداتها. لم يتقوقع الشاعر داخل منطقته الخليجية، بل عانق عالمه العربي، وانتشر في عالم القصيدة الكوني، ببعدها الإنساني الذي يؤكد عليه دون أن ينسى ذات الشاعر، صوت المتكلم. وفي مجمل قصائده، نرى القصّ والحوار المسرحي والتشكيل، والخيال والصورة، والغنائية التي غابت عند أغلب الشعراء المجايلين له.

الشعر.. أشكال ثلاثة
منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، دأب الشاعر الراحل حبيب الصايغ على التصالح مع أشكال الشعر، فقد كتب القصيدة العمودية وشعر التفعيلة وقصيدة النثر دون أي صراع بين أشكالها، مع احترام جمالية كل شكل. وركز في قصيدة النثر على شروطها في اللغة والإيقاع والصورة، إذ لم ينكر قصيدة النثر بل كتب بها بعض قصائده، مؤكداً ذلك بقوله: «المطلوب اليوم، تحقيق عودة حقيقية إلى قصيدة النثر، نحو إنصافها وإنصاف نهضتها، وقد يبدأ ذلك بالرصد والتوثيق ثم النقد، وصولاً إلى تحديد شرط هذه القصيدة، كما حصل منذ البواكير الأولى، وعلى امتداد الزمن، للقصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة». قصيدة النثر في نظره تعني الحرية ولكن بشرط أن تحافظ على ملامحها، وبوصلتها، وخطواتها على حد تعبيره.
وعلى الرغم من كتابة القصائد المطولة، نجد عنده القصائد القصيرة أو ما يُطلق عليها «قصيدة الومضة» كما اصطلح عليه في النقد نورد ثلاثة نماذج منها هنا، قصيدة «الأسماء»:
من ذا، بين الطلقة أو الطلقة/‏‏ ينكش شعر الأسماءْ/‏‏ لتكون، كعادتها/‏‏ جثثاً طافية فوق الماء؟
وفي قصيدة «الخيل» يقول:
أول الخيل هدهدةٌ/‏‏ آخرالخيل معركةٌ/‏‏ وتطير/‏‏ إلى عين فارسها/‏‏ وكأن البصيرة مسقط رأس البصير/‏‏ والملاذ الأخير.
وفي قصيدة «السؤال» يقول:
عندما يتناثر حول مياه الصداقة/‏‏ يبدو كئيباً ورثاً/‏‏ ويجمع أجزاءه/‏‏ ويبعثرها من جديد/‏‏ واقفاً يلتفت/‏‏ كيف تقاسمني الساحرون/‏‏ وكنت لهم، مرة، حيةً/‏‏ ومراراً حصاة/‏‏ ويحاور حرباءَه/‏‏ أينا الأصل؟/‏‏ كيف التقينا معاً عند سطر الغياب؟
تحمل هذه النصوص الشعرية القصيرة قدراً كبيراً من التأمل والبصيرة، ففي عدد محدود من الكلمات يرسم لنا الشاعر الراحل عالماً مترابطاً من المشاعر والأحاسيس المكتنزة بالشفافية والجمال عبر لغة التكثيف التي أجاد صياغتها.

الشاعر المتمرد
ظل الشاعر، رحمه الله، إلى نهاية حياته متمرداً على المألوف الشعري، وصاحب مشروع شعري، عززه من خلال تبنيه لمجموعة من القيم الفكرية والجمالية للقصيدة كما هو الحال في معظم مجموعاته الشعرية «وردة الكهولة»، و«قصائد إلى بيروت»، و«الملامح»، و«قصائد على بحر البحر»، و«التصريح الأخير للناطق باسم نفسه»، و«هنا بار بني عبس الدعوة عامة» و«ثلاثة أرباع الغيم» و«كسر الوزن»، و«رسم بياني لأسراب الزرافات» وغيرها. فهو من الذين يؤمنون بأنه لا توجد منطقة وسطى في الشعر إما أن يكون المرء شاعراً ومتفرداً أو لا يكون. يعتمد التفرد الذي يتميز به عالمه الشعري على تفرد نصوصه وقدرتها على مخاطبة الآخر. لذا فقد كتب الشاعر الراحل بصيغ متقدمة، بمهارة وقدرة واضحتين من أجل تأسيس قصيدة جديدة، قائمة على الأسلوبية الجديدة. ولم تكن الحداثة تعني في نظره يوماً إلغاء التراث الذي ارتبط به، وانغمس في عوالمه، فهو لا يكتب على حد تعبيره قصيدة المتنبي أو قصيدة أبي تمام بل يستمد روح قصيدته من ينابيع زملائه الشعراء الكبار أمثال نازك والسياب مروراً بأدونيس ووصولا إلى محمود درويش. هذه هي الخلفية التي كتب على ضوئها معظم مجاميعه الشعرية على مدى أربعين عاماً. وهو من دعاة «التجريد الكوني» الذي يضم تحت جناحيه عالم الأحاسيس بكامله. ولا يتوقف الشاعر عند تجربة واحدة فقط، بل يدققها ويعيد فحصها، يراجع ويحذف لكي تنتقل القصيدة إلى مصاف الإبداع المتفرد. كان حبيب الصايغ ناراً متأججةً في فرن الشعر، فهو الحالم على الدوام بتجاوز نفسه، في مشروع حداثي. فالقصيدة عنده رحلة كونية في أسرار الذات والآخر.