د. فتحي المسكيني

استشكال: أين هي الأنثى؟ أو كيف نقطع المسافة بين «المرأة» و«النساء»؟
لا يمكن أن نحبّ نفس «المرأة» في ثقافتين مختلفتين. إنّ فكرة «المرأة» نفسها هي بناء اجتماعي لا يسيطر دوماً على نوع السلطة المعيارية التي جعلتها ممكنة. والانتقال من «الأنثى» إلى «المرأة» هو عمليّة «نسويّة» مخصوصة لا تتمّ بنفس الشكل في ثقافتين أو حقبتين مختلفتين. مثلاً: إنّ اللغات الغربية المنحدرة من اللاتينية تشتقّ «الأنثى» (femella) و«المؤنّث» (feminimus) من لفظة «المرأة» (femina) نفسها، على خلاف العربية مثلاً التي تفرد جذراً لغوياً مستقلاًّ للإشارة إلى «الأنثى» (من «أَنُثَ» و«أنّث» في الأمر، أي لان ولم يتشدّد فهو «أنيث» أي ليّن ومتساهل) يختلف عن جذر «المرأة» (من «مَرَأَ» الطعام صار حلواً سائغاً فهو «مريء»). ومن ثمّ يبدو «المؤنّث» النحوي في اللغات الغربية مشتقّاً من مفهوم «المرأة» نفسه، أمّا في العربية فهو مشتقّ من صفة أخلاقية أو استعارة جماليّة لا ندري من اخترعها كي يلصقها بالمرأة بوصفها كائناً لا يمكن فهمه إلاّ عن طريق استعارة مستمدّة من تجربة أخلاقية أو جمالية سابقة عليها، تهمّ تصريف الأمور أو استساغة الطعام مثلاً.

ماهية أم معنى ثقافي؟
وحسب فوكو، فنحن نتذوّت في كل مرة في نطاق مساحة خطابية أو سلطة رمزية ربما نقاومها لكنّنا نتشكّل آخر الأمر في مداها. ولذلك لا يوجد «خارجٌ» تستطيع «الأنثى» أن تعتصم به كي تتحرّر من سلطة النحو الذي «أنّثها» وحوّلها إلى مادّة اجتماعية للسيطرة المعيارية تحت مسمّى «المرأة» أو «النساء». وهذا يعني أنّ ما نعتبره معنى «مطلقاً» في حقيقة الأمر -كما قال هيغل ذات مرة عن «روح» العالم- هو لا يعدو أن يكون «نتيجة» متأخّرة ناجمة عن مجموعة مسارات لا أحد بإمكانه أن يؤرّخ لها في جملتها. إنّ المرأة في كل ثقافة هي نتيجة لمسار معياري لا تسيطر عليه. إنّ هويّتها حبل رقيق ممدود فوق هاوية لا يُسبر غورها تفصل بين «أنثى» الجسد و«نساء» المجتمع عبر قيود «المؤنث» النحوي. ومن ثمّ علينا أن نسأل بديّاً: أين هي الأنثى؟ هل هي في الجسد أم في اللغة؟ هل هي ماهية أم معنى ثقافي؟
إنّ «النساء» مقولة ينبغي أن نؤرّخ لها بشكل جديد حتى ندخل في النقاش حول «الأنثى» في ثقافتنا. وهو ما يعني إعادة تأويل مفهوم «المرأة» الحديث بوصفه نوعاً اجتماعيّاً طارئاً سوف يؤدّي إلى تغيير مفردات الخطاب حول «المؤنّث» بعامة. لا نلتقي بالنساء في ثقافتين مختلفتين بنفس الدلالة. وتتوهّم الأنثى غالباً أنّ جسدها يوجد قبل اللغة التي تتكلّمها. والحال أنّ مادّة الجسد، كما بيّنت ذلك جوديت بتلر، لا ماهية لها، بل هي فقط مفاعيل دلالية تتحدّد داخل ثقافة بعينها. إنّه بمجرّد أن تدافع «المرأة» عن مفهوم نسويّ معيّن حول «هويّتها» حتى تكفّ عن ادّعاء «الأنثى» التي توجد «خارج» اللغة (في جسد ما) وتتحوّل إلى نوع اجتماعي. وعلينا أن نسأل: ما هو الجانب الذي تتخلّى عنه «الأنثى» كي تصبح «المرأة»؟ كيف نفهم هذا الانتقال «النسوي» الإجباري من «الأنثى» بعامة إلى «المرأة» بخاصة في ضوء الحركات «النسوية» الحديثة، كما تبلورت في المجتمعات الغربية منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم؟

المرأة توقيع جندري
لا تصبح الأنثى امرأة إلاّ عندما تعتنق نوعاً اجتماعياً مخصوصاً: إذْ هناك برنامج إجباري على الأنثى أن تنخرط فيه حتى تتمكّن من الدخول في حلبة ما هو «نسوي» بوصفه مساحة معيارية هي التي تحدّد هوية المرأة في كل مرة. ثمّة فرق مزعج بين ما يُسمّى كتابة الأنثى وبين الخوض في مشكلة تحرير المرأة. وحده تحرير المرأة هو مشكل نسوي، أمّا تجربة الأنثى فهي مغامرة جمالية وأخلاقية حرة حول معنى «الذات» ليس بالضرورة أن تكون نزعة نسويّة. إنّ الانتقال النسوي من الأنثى إلى المرأة ليس قراراً «ذاتيّاً»: لا توجد «ذات» نسوية هي التي تقرر متى تصبح امرأة، أي متى تصبح نوعاً «نسويّاً». وحين تظهر المرأة يكون وقت الأنثى قد صار ماضياً جماليّاً. ثمّة فرق بين «الذات» الأنثوية و«الهوية» النسوية: بين إمكانيّة الأنثى وواقع المرأة. إنّ الأنثى وعد الكينونة أمّا المرأة فهي اختراع اجتماعي. وهذا يعني أنّ «هوية» المرأة هي مفعول لغوي (نحوي/‏‏‏‏‏‏ خطابي) تنتجه كل ثقافة.
إن تاريخ النساء لم يصبح وجهة نظر رسميّة إلاّ عندما ظهرت الحركات النسوية الحديثة بوصفها مقاومة صريحة وبنيوية للسيطرة الذكورية بعامة. لكنّ النسوية ليست مفهوماً متجانساً. ثمّة نسويات كثيرة ومتنافسة، وتنتمي إلى «موجات» مختلفة من التمرّد على سلطة «الرجال». كما أنّ التمرّد نفسه ليس له نفس الدلالة في كل مرة. وهكذا فإنّ معنى «المرأة» ليس هو نفسه في كل «موجة» نسويّة. لقد صارت «الأنثى» اليوم مساحة «جندرية» مفتوحة على مجموعة متعددة من «الموجات» النسوية التي «تعاقبت» على مسألة المرأة في المجتمعات الغربية منذ قرنين.

أربع موجات نسوية
في حالتها المثالية، كما وقعت في تاريخ النساء الغربيات، تمّ إحصاء «أربع موجات» نسويّة وتمّ التأريخ لها بشكل حثيث، حتى تم وصف القرن العشرين بأنّه «قرن النسويات»، بحيث إنّه لم يعد يمكن بلورة فهم المرأة لنفسها إلاّ وفقاً لتحقيب نسويّ رسمّي وواضح الملامح. واستعارة «الموجة الأولى» نفسها تعود إلى عنوان كتاب الأميركية إليزابيت صراح «تقويمات جديدة للموجة الأولى» المنشور سنة 1920.
كل تمرّد أنثوي هو مجرد ترجمة لموجة نسوية سائدة في وقت ما. وهكذا أمكن التمييز بين:
- موجة نسويّة أولى، ظهرت في أوروبا، بعد إرهاصات طويلة تعود إلى كتابات القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية، حيث كانت النساء تطالب بالحقوق الطبيعية الدنيا وخاصة «الحق» في الاقتراع والمساواة القانونية مع «الرجال»، بحيث يتمّ إرساء الحياد الجنسي للتشريعات والقيم الكونية. وهي تمتد تقريباً ما بين 1840 و1920. وقد وجدت مصادر إلهامها مثلاً في كتابات نيكولا دي كوندرسيه الذي دافع عن المساواة بين الرجال والنساء في مقالة نشرها سنة 1789 «عن قبول النساء في حق المواطنة»، أو أوليمب دو غوج صاحبة «الإعلان عن حقوق المرأة والمواطِنة» سنة 1791.
- موجة نسوية ثانية، حدثت في الولايات المتحدة الأميركية، دُشّن فيها نقد النظام البطركي والهيمنة الذكورية ومشاكل الجنسانية وتعنيف النساء والاغتصاب والطلاق. وهي موجة نسوية راديكالية عقبت الأزمات التي نجمت عن الحربين العالميتين، وامتدّت من سنة 1960 إلى أواخر السبعينيات. ويبدو أنّها وجدت إلهاماً فلسفيّاً لها في كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» المنشور سنة 1949، حيث أخذت النسويات الأميركيات في ترجمة مفاهيم الموجة الثانية في ورشات فلسفية وأدبية قويّة، كما نرى ذلك مثلاً في كتاب بيتي فريدان «اللغز الأنثوي» المنشور سنة 1963، حيث تنقد مؤسسة العائلة هناك من حيث هي النموذج الوحيد لتحقيق سعادة النساء. وتطالب بالمساواة في الأجور، وعدم التمييز القائم على الجنس.
- موجة ثالثة، ثبتت ملامحها في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، من أجل الإشارة إلى «نسويّة الأقلّيات» مهما كان نوعها: عرقية أو ثقافية أو جسدية أو جنسية. واستعارة «الموجة الثالثة» تم تداولها في سنة 1992 في مقالة ريبيكا ولكر «لنكنْ الموجة الثالثة» في مجلة نسوية تسمى «مس. ماغازين»، حيث أعلنت قائلة «أنا الموجة الثالثة». ورأس الأمر في هذه الموجة الثالثة هو إعادة استنفار تلك المناطق الإشكالية التي تركتها الموجتان السابقتان في الظلّ، حيث تقبع أقلّيات نسويّة لم تؤخذ في الاعتبار. لقد صار السؤال النسوي يدور حول المرأة التي وجدت نفسها «أقليّة» أخلاقية بسبب اختلاف «العرق»، أو «اللون»، أو «الهوية» أو «الميول» أو الانتماء «الثقافي»... ولذلك تتميّز هذه النسوية الثالثة بأنّها تقوم على مفهوم «التقاطعيّة» (intersectionality) حسب مصطلح الباحثة الأميركية كيمبريلي وليامز كرينشو في معنى أنّ الهيمنة على النساء ليس لها أصل واحد بل مجموعة من أشكال الاضطهاد تمسّ الجنس والجنسانية والنوع الاجتماعي والأصل القومي والهوية الثقافية، في تقاطع مركّب بين الميز العنصري والميز الجنسي -لكنّ الموجة الثالثة لا تبلغ أوْجَهَا حقّاً إلاّ مع دراسات الجندر التي دشّنت ما سمّته جوديت بتلر «النسوية التخريبية»: تلك التي تطول المعايير الجندرية التي ظلّت تنظّم الفرق بين الجنسين وتستغلّه سياسيّاً بوصفه مسلّمة طبيعية على كل أنثى أن تعتنقه بوصفه هوية جندرية لا فكاك منها. ويمكن اعتبار كتاب بتلر «اضطراب الجندر» هو مصدر الإلهام الأكبر لهذا الجيل من النسوية.
- موجة رابعة، أخذت في الظهور في ثنايا القرن الحادي والعشرين، وأخذت تحتدّ نحو 2012، في نطاق سجالات حول الاستغلال الجنسي لنساء ناجحات من الممثلات المشهورات، وهي تتميّز بأنّها ثمرة التطوّر التكنولوجي الفائق لشبكات التواصل الاجتماعي حيث تتحوّل مساحة الصداقة الرقمية إلى مجال فضح كل أنواع التحرّش أو الكراهية ضد المرأة في الحياة اليومية، ومن ثمّ إلى مجال تحقيق العدالة تجاه النساء: إنّها مقاومة افتراضية تستفيد من التكنولوجيا كي تحارب الاعتداءات الجنسية وثقافة الاغتصاب في كل الفضاءات الاجتماعية (الشارع، النقل، العمل، البيت، المدرسة، المستشفى، السجن،...) أكانت مختلطة أم غير مختلطة. فإنّ الإساءة الجنسية لا هويّة ولا جنس لها. وهي حركة أخذت شكل قضية رأي عام حول الفضائح الجنسية (ادعاءات الاعتداء الجنسي التي وجّهتها ممثلات هوليود ضد المنتج السينمائي الأميركي هارفي واينستين)، ثمّ تحوّلت بوتيرة سريعة منذ 2017 إلى هاشتاج «حركة أنا أيضاً» (#MeToo) بالإنجليزية، أو «بلّغ عن خنزيرك» (#BalanceTonPorc) بالفرنسية. وهي ظاهرة رصدتها كاتبات نسويات نشطات نذكر خاصة لورا بايتس التي أنشأت سنة 2012 منتدى افتراضياً مفتوحاً سمّته «مشروع الجنسويّة اليومية» (Everyday Sexism Project)، حيث بإمكان النساء التبليغ عن التجارب اليومية للتحرشّ والاعتداء الجنسي.

في نقد العقل النسوي
لا يجدر بالملاحظ «غير الغربي» أن يقبل بمقولة «الموجات النسوية» وكأنّها بنية تاريخانيّة، مسلّم بها. بل يحقّ لنا أن نتأوّل هذه الموجات النسوية الأربع بوصفها مجرّد مجموعة من التأويلات المفتوحة على عمليات بناء مطّردة لدلالة وإعادة دلالة «النساء» وفقاً لسياق سلطوي معيّن. صحيح أنّ المرأة المعاصرة قد وُجدت دوماً وتوجد ضمن نطاق موجة نسويّة تقدّم نفسها بوصفه المسرح الأخلاقي والمعياري المناسب لتحقيق الانتقال الجندري من استعداد الأنثى إلى هوية المرأة. ولذلك فإنّ معنى مقولة المرأة في الغرب هو معنى نسويّ مركّب ومتعدّد ولكن بشكل تعاقبي: هناك «المرأة» التي اختزلت هويتها في «المواطنة» (الموجة الأولى أو الحقوقية)، وهناك «المرأة» التي أسّست هويّتها على أطروحة بوفوار بأنّ الأنثى لا تولد امرأة بل تصير كذلك أو «اللغز الأنثوي» (الموجة الثانية أو الذكوريّة المضادّة)، وهناك «المرأة» التي بنت هويّتها على عرضيّة «الجندر» وهشاشته الإنجازية (الموجة الثالثة أو الجندرية)، وهناك، آخر الأمر، «المرأة» التي تقدّم هويّتها في سياق فضح أشكال التحرّش بالجسد أكان مؤنّثاً أو غير مؤنّث (الموجة الرابعة أو موجة «أنا أيضاً»).

«تعاقب» نضالي
كان تاريخ الحركات النسوية الغربية عبارة عن تاريخ تطور حرية المرأة منذ نهاية القرن الثامن عشر في شكل «تعاقب» نضالي لجملة من الحقب المتتالية كانت عناوينها الكبرى: - المطالبة بالحقوق، - نقد الذكورة، -تفكيك الجندر، - فضح ثقافة التحرّش. ومع ذلك ينبّه العديد من الدارسين إلى أنّ هذه الموجات النسوية لم تكن دوماً حركات تحرّر سعيدة بل قد شابتها عدة انحرافات وانزلاقات.
فقد تحوّلت الموجة الأولى في نظر البعض إلى نشاط «حقوقي» يتجاوز مطالب المرأة بمجرّدها إلى الدفاع عن التصوّر «الليبرالي» للفرد بعامة بوصفه نوع «الهوية» الوحيد المناسب للمواطن الحديث. ومن هناك جاء ظهور النسوية الماركسية أو المادّية بوصفها ردّاً سياسيّاً على التصوّر الليبرالي لمفهوم المرأة، وهي تدعو إلى هدم قيم الرأسمالية بوصفها قائمة على تصوّر بطركي وذكوري. أمّا الموجة الثانية فقد تحوّلت فيها النسويّة إلى نزعة ذكوريّة جذرية مقلوبة، تشبه الاستيلاء على منصب «الذكر» التقليدي الذي أصبح شاغراً بعد انهيار النظام البطركي، وظهرت النسوية الملوّنة التي تنقد نسويات الموجة الثانية بأنّها نسوية بيضاء، كما نرى ذلك في كتاب جماعي في نطاق «الدراسات النسوية السوداء»، عنوانه «كل النساء هنّ بيض، كل السود هم رجال، بل البعض منّا هم شجعان» الذي ظهر سنة 1982.
كما تحوّلت الموجة الثالثة من النسوية إلى اضطراب جندري ناجم عن انفجار أطروحة الفرق بين الجنسين وفتح المجال أمام مجموعة متكثّرة من الهويات الجنسية، كما أنّ التمييز بين موجة نسوية راديكالية وأخرى غير راديكالية هو موضع نزاع تصنيفي بين الموجتين الثانية والثالثة.
أمّا في الموجة الرابعة، فقد تحوّلت النسوية في بعض الأحيان إلى مكيدة افتراضية للرجل بوصفه حيواناً مفترساً، وهو موقف جرّد المرأة المعاصرة فجأة من مكاسبها النسوية السابقة، لأنّ العودة إلى فضح الرجل المتحرّش يقدّم المرأة وكأنّها تلعب دور «الضحية» الأبدية للذكور. والحال أنّ العكس صحيح أيضاً وتمّ تسجيل حالات تحرّش نسويّ بالرجال باعتبارهم ضحايا. ومن هنا جاء النقد النسوي لهذه الموجة الرابعة بأنّها تبقى رهينة الولوج إلى شبكات التواصل الاجتماعي وامتلاك التكنولوجيا، ومن ثمّ هي موجة محصورة في فئة معيّنة من النساء.

نزاع النسويات
تبدو الحركات النسوية لدينا راهناً وكأنّها ظاهرة متفجّرة، مرتبكة، متناقضة وتحمل ألقاباً ملتبسة. لكنّ النسوية «الليبرالية» هي التي استحوذت غالباً على مسرح النقاش. وبذلك تبدو النسوية لدينا وكأنّها انحصرت في «الموجة» الأولى غالب الأمر، نعني الموجة الحقوقية، ووضعت كل رهاناتها في خصومة «المساواة» بين الجنسين. وهذا يعني أنّ الخطاب النسوي لا يزال متردّداً في خوض رسميّ للنقاش حول المرأة وفقاً لمنطق الموجات الثلاث الأخرى إلاّ بشكل جزئي أو أداتي أو مدرسي. إنّ الموجات الثلاث الأخرى (نقد الذكورة، تفكيك الجندر، فضح التحرّش) لا تزال محتشمة.
علينا أن نلاحظ أنّ كل موجة نسوية هي بشكل أو بآخر تترك مساحة أو فئة من «النساء» خارج اهتمامها، ومن ثمّ تكون قد أجّلت جانباً من حرية «المرأة» إلى وقت آخر، وأهدرت بُعداً من أبعاد «الأنثى» في ثقافة ما وحقبة ما. وتاريخ النسوية في الغرب كان تاريخ استكمال تعاقبي مطّرد ومتواتر لجوانب حرية المرأة الواحد تلو الآخر في استجابة مخصوصة في كل حقبة لنوع التحدّي الذي عاشته النساء.
على خلاف ذلك، فإنّ ما هو طريف وربما استثنائي في حالتنا هو أنّ مجتمعاتنا تشهد تزاحم الموجات النسوية على جندر المرأة ومن ثمّ على أبعاد الأنثى، تزاحماً متزامناً ومتوازياً في نفس الوقت بشكل مربك. كانت الموجات النسوية في الغرب أعماراً تعاقبيّة مختلفة من قضية معيارية واحدة هي قضية المرأة، أمّا لدينا فهي موجات تتزاحم بطريقة تزامنية وتنافسية على نحو غير مسبوق. نحن نشهد ظاهرة لم يشهدها الغرب إلاّ لماماً (بين الموجة 2 و3): ظاهرة تعاصر الموجات النسوية وتنازعها المعياري حول هوية المرأة واستعدادات الأنثى بعامة، سواء في سياق تملّك ثقافتنا العميقة أو في اختبار مقتضيات الحياة الخاصة الحديثة والمشاركة السياسية (النقاش حول دور النساء في المجتمع المدني).
نحن لدينا نزاع نسويات في أفق فهم المرأة الراهنة لنفسها ومدى قدرتها على تطوير استعدادات الأنثى في ثقافتنا. إنّه نزاع تأويلي على هوية مؤنّثة أو مجندَرة قابلة للحياة يجري على قدم وساق بين المرأة/‏‏‏‏‏‏المواطنة (الموجة 1) والمرأة/‏‏‏‏‏‏المتمرّدة على النظام البطركي (الموجة2) والمرأة/‏‏‏‏‏‏الجندر التخريبي (الموجة3) والمرأة/‏‏‏‏‏‏المقاومة لثقافة التحرّش (الموجة4).
إنّ النزاع النسوي لدينا لا يدور حول إلغاء الذكورة أو الاستغناء الجندري عن الرجال، بل نواته هي التفاوض حول المعايير الجندرية المناسبة التي تجعل حقوق النساء والعلاقة مع الرجال والاضطلاع بالنوع الاجتماعي ومقاومة التحرش بالأجساد، أطراً معيارية موجبة تبني العيش المشترك دون تدمير هوية المرأة أو نبذ جانب من حياة الأنثى. وهنا صار علينا أن نميّز بين «نسوية سيّئة» (هي عبارة عن ذكورية مقلوبة تريد الاستيلاء على مكان الجندر المهيمن) وبين «نسوية جيّدة» (هي عبارة عن مراجعة نقدية وتفاوضية لجندر النساء من أجل تحقيق هوية المرأة الناجحة في اختيار ذاتها)، ومن ثمّ لا تبرّر وجودها بمعاداة جندر الرجال، بل تتقاسم معهم النقاش الندّي حول المعايير الجندرية الملائمة لبناء حياة مشتركة قابلة للحياة وغير إكراهية، في أجساد لئن كانت مجندَرة دوماً فهي غير منبوذة أو مستغلَّة أو مقصيّة.

اضطراب الجندر
إنّ ما تبحث عنه النساء هو «فاعليّة» (agency) معيارية، حسب تعبير بتلر، تمكّنهنّ من الانتقال الجندري من الأنثى إلى المرأة دون تدمير هويتهنّ الخاصة. ومن ثم ليست النسوية اعتراضاً على الفرق بين الجنسين أو على كينونة الذكور أو على دور الرجال -بل هي نقد للممارسات البطركية التي تكرّس سلطة ذكورية فقدت جزءاً كبيراً من قوّتها المعيارية بعد انفجار مفهوم الجنسانية التقليدي وظهور النقاش حول اضطراب الجندر. وما تسمّيه بتلر «اضطراب الجندر» (gender trouble) ليس تدميراً للنوع الاجتماعي المسمى «النساء» أو «الرجال»، بل هو فضح «الاضطراب» أو التشوّش أو القلق الذي أصاب هوية الجندر بعامة. وهي استعارة أخذتها من سارتر في كتابه «الكينونة والعدم» حيث يفسّر الرغبة بأنّها ضرب من «الاضطراب» ويمثّل لها بحالة «الماء المضطرب» أو «النظرة المضطربة». لكنّ الماء يظل ماءً رغم اضطرابه. واضطراب الجندر يعني أنّه هويّة صارت قلقة وغير مستقرة ومشوّشة بعد نقد النظام الأبوي وتعرية الأساس المعياري للسلطة الذكورية. ويبدو لنا أنّ أخطر موجة نسوية يمكن أن تهدّد التصوّر السائد لدينا لكلّ من الأنثى والمرأة والنساء في ثقافتنا العميقة أو اليومية إنّما هي الموجة الجندرية. وما عدا ذلك هي موجات نسوية محدودة الفعالية لأنّها تتعلق بالمواطنة ونقد بعض أنماط السلطة ومقاومة التحرّش، وليس بهوية المؤنّث.