كونفوشيوس (551-479 ق.م؟).. هو الاسم الذي أطلقه المبشّرون اليسوعيّون على هذا الحكيم الصّينيّ الشّهير بداية من القرن الخامس عشر، وكان في الحقيقة تحريفاً للتّسمية الصّينيّة «كونغ فوزي» التي تعني.. المعلّم كونغ. ولم يُعرف عن هذا المعلّم أنّه كتب بنفسه هذا النصّ الذي نحن بصدده، والذي يحمل مثل هذا الاسم الجامع: «محاورات» (لون يو). فالأمر يتعلّق بتأليف قام به مريدون لكونفوشيوس، ومريدو هؤلاء المريدين لـ «المحاورات»، التي يبدو أنّها قد تمحورت حول مواضيع متنوّعة كانت محلّ مطارحات بين المعلّم ومريديه.
بالنّسبة لإنسان غربي اعتاد بسط المسائل الفلسفيّة وفق قواعد فطنة ومنطقيّة، قد تبدو تلك المحاورات التي تبدأ دوماً بصيغ ثابتة من قبيل «قال المعلّم» أو «قال أحدهم» أو أيضاً «طلب أحدهم».. مزعجة ومملّة، وإن كنّا سنعثر على صيغ مماثلة عند أفلاطون وأرسطو، وفلاسفة آخرين، إغريقيين ولاتينيّين.
والمحاورات عبارة عن حكايات وحكم وأمثلة مختصرة، وكلام مألوف، جاءت جميعها موزّعة بصورة اعتباطيّة في 20 فصلًا. ومع ذلك.. فهي بالنّسبة للمفكّرة الصّينيّة آنّ شنغ، الكلمات الوحيدة التي يمكن أن تنسب إلى كونفوشيوس.
وقد مثّلت هذه «المحاورات» بداية لفلسفة صينيّة لن تنفكّ عن ممارسة تأثير بالغ في حياة الملايين من النّاس حتّى زمننا الرّاهن. ففي «المحاورات» ننصت، حسب آنّ شنغ، «لصوت أحَدٍ ما يتحدّث باسمه الخاصّ وبصيغة المتكلّم المفرد، ليبدوَ هذا الأخير على هيئة أديب مهيب.. وقور. وقد جاء كلام كونفوشيوس منذ البداية، مركّزاً على الإنسان وعلى فكرة الإنسانيّ، التي تشكّل الرّهان الرّئيسي في الفكر الفلسفي الصّينيّ».
محاور
ثلاثة محاور يمكن أن تُستخلص من تلك المحاورة، يكون من الصّعب أن نلمس فيها نظاماً ما، ولا حتّى مواضيع معالجة بصورة متكاملة:
- التعلّم،
- خُلُق الإنسان،
- الرّوح الطّقوسيّة.
ففي الفصل الأوّل، كان الهاجس منذ البداية هو هاجس التعلّم: «قال المعلّم: ألا يشعر بالارتياح ذلك الذي يتعلّم، ويضع ما تعلّمه موضع التّنفيذ في الوقت المناسب؟ ألا يشعر بسعادة غامرة ذلك الذي يفد عليه أصدقاء من أماكن بعيدة كيما يتلقّوا دروسهم؟ ألا يكون هذا الأخير جديراً بالإجلال، متى قوبل سعيه بالتّجاهل، فلا يخلّف فيه ذلك أيّما إحساس بالمرارة؟»، أو بصيغة أخرى (لأنّ هناك 30 ترجمة مختلفة للمحاورات): «أن نتعلّم شيئاً ما كي نعيشه في كلّ لحظة تمرّ، ألا يكون ذلك مصدراً لسعادة كبرى؟ أن نستقبل صديقاً آت من الأقاصي، ألا يشكّل ذلك مصدراً لفرح عظيم؟ أن نظلّ متجاهَلين من البشر الذين يحيطون بنا، دون أن يثير فينا ذلك أيّما إحساس بالامتعاض، ألا يتأتّى ذلك للخيّرين من العباد؟».
ولا يتعلّق الأمر بالنّسبة لهذا الفيلسوف الصّينيّ بتلقين ما يكون قد تعلّمه، وإنّما بحثّ الآخرين على التعلّم، طالما أنّه يخاطب في كلّ الأحوال مثقّفين يحفظون عن ظهر قلب تقريباً النّصوص القديمة. أن نتعلّم.. فإنّ ذلك يعني حينئذ أن نكون إنسانيّين، أن ندرك حالة الاستقامة، ونترك جانباً سلوك الإنسان المتصاغر والممتهن ذاته. وسوف يتكرّر ذكر ذلك التّعارض، بين المتعلّم حقيقة والمتغافل عن غايات التعلّم، تكرّر اللاّزمة في ثنايا تلك المحاورات، التي ينبغي أن لا ننسى أنّها كانت موجّهة أوّلاً وقبل كلّ شيء إلى طبقة النّبلاء والأمراء لتبصيرهم بسبل الحكم الرّشيد.. القويم.
جاء في المحاورات: «الإنسان الخيّر يعرف معنى الحقّ، فيما لا يعرف الإنسان المتصاغر غير الكسب والفائدة»، أو.. يقول المعلّم: «الإنسان الأمين ينظر إلى الأشياء من زاوية الحقّ، فيما ينظر الإنسان المبتذل للأشياء من زاوية المصلحة». أو أيضاً: «الرّجل الخيّر والنّزيه ينشد الكونيّ، فيما يغدو الإنسان المتصاغر المتغافل عن الكونيّ، أسير التعصّب»، وكذلك.. يقول المعلّم: «الإنسان الشّريف يتعلّق بالخير الذي يطال الجميع، ويزدري المصلحة الخاصّة، فيما لا يتعلّق الإنسان المبتذل بغير المصلحة الخاصّة ويترك جانباً ما يعود بالخير على الجميع».
تقول آن شينغ: «هكذا.. نكون على قيد التعلّم متى سعينا إلى تنمية الإحساس بالإنسانيّ (الرّان) داخلنا، فذلك الإحساس أو «الرّان» هو الذي يجعل من الإنسان كائناً متخلّقاً في علاقته بالآخرين، حدّ أنّ تلك العلاقة قد تغدو في ائتلافها بالغة الانسجام، وعلى صورة من التّوازن تذكّر بالتناغم الكوني. وبالتّالي، لا ينبغي أن يتعلّق التفكّر في الأخلاق بمعرفة أفضل أسلوب لبناء علاقة مرغوبة بين الأفراد، بل ينبغي على العكس من ذلك أن تحتلّ الوشائج الأخلاقيّة فيها.. المرتبة الأولى، لأنّها الوشائج المؤسِّسة والنّاظِمة لطبيعة كلّ كائن بشريّ ».
و«الرّان».. مثالٌ ينبغي أن يتبوّأ المكانة الأرفع في سرّ الإنسان، مكانة.. لا يدركها أحد. وهو (أي الرّان) القطب المغناطيسي الذي ينبغي أن يتوق إليه المرء بلا انتهاء لاستكمال إنسانيّته. وإذا كان كونفوشيوس يتحدّث باستمرار عن «الرّانْ »، فهو لم يعط لذاك الإحساس أيّ تعريف، وعلى أسئلة مريديه حول هذا الموضوع، كانت إجابته تتغيّر حسب المخاطب الذي يكون أمامه.
إن ممارسة الرّانْ، تفترض أن يبدأ كلّ منّا بنفسه، وأن يعمل على إيثار الآخرين قدر إيثاره لنفسه: «استمدَّ من ذاتك ما تريد تقديمه للآخرين، ذلك هو ما سوف يدلّك على وجهة الرّان» (المحاورات). فالتّسامح الذي تمليه المعاملة بالمثل، هو الذي يسمح بإدراك معنى «الرّان»، ويعطي لفكر كونفوشيوس بعده الحقيقي. والفضيلة الثابتة، الملزمة للذّات بلا حدّ، هي النّعمة الأسمى التي تتوق إليها كلّ نفس بشريّة. وتشدّد هذه المحاورات في كلّ أجزائها على أهميّة التّعاطي مع الذّات الذي ينبغي أن يعزّز في الإنسان إحساسه الإنسانيّ، ويُيَسّر له الإفصاح عن تعلّقه بقيمة التّسامح.
الإخلاص.. حجر الأساس
ثمّ إنّ العلاقة الطّبيعيّة التي يرتكز عليها انتماء كلّ فرد إلى العالم وإلى المجموعة البشريّة هي علاقة الابن بوالده، إذ يشكّل إخلاص الابن لوالده حجر أساس «الرّانْ». وإخلاص الابن لوالده ينبغي أن يكون بحجم محبّة الأب لابنه، كما ينبغي أن يكون إخلاص الرعيّة لأميرها بحجم محبّة الأمير لرعاياه.
وأن نتصرّف بمثل هذه الطريقة الإنسانيّة، فإنّ ذلك يعني أيضاً أن نتصرّف بطريقة تحترم الطّقوس والشّعائر.
«وسأل يان هوي.. كونفوشيوس عن مزايا الإحساس الإنسانيّ، فأجاب المعلّم: «أن تتوفّق في ترويض النّفس ونلتزم بقواعد التأدّب والاستقامة.. ذلك هو معنى الإحساس الإنسانيّ. فلو توفّقنا يوماً في ترويض أنفسنا واستعادة احترامنا لشعائرنا، فلسوف ينعم العالم من جديد بمزايا ذلك الإحساس الإنساني، وإنّ العمل في هذا الاتّجاه ليرتهن إلى إرادتنا نحن لا إلى إرادة الآخرين؟..، ثمّ سأل يان هوي: هل لي أن أسألك عن الطّريق التي ينبغي اتّباعها. فأجاب المعلّم: لا تنظر إلى شيء، لا تنصت إلى أيّ شيء يتعارض مع الطّقوس وقواعد الاستقامة..» (المحاورات).
ففي فكر كونفوشيوس، لا فصل بين الإحساس الإنسانيّ «الرّانْ» وروح الطّقوس. وتشير المفكّرة الصّينيّة آنّ شنغْ في هذا الصّدد، إلى أنّ البعد الطّقوسي للنّزعة الإنسانيّة عند كونفوشيوس «يمنح الإحساس الإنسانيّ قيمة جماليّة، لا من حيث الجمال الشّكلي للحركة وأناقة السّلوك فحسب، وإنّما لأنّه يتيح أخلاقيّة تجد تبريرها إي انسجامها الذّاتيّ.. من ذاتها. ومن هنا كان الجمع الطّبيعي في الكونفوشيوسيّة بين الطّقوس والموسيقى، والحال أنّ الموسيقى.. فنّ التّناغم بامتياز».
بالنّسبة لما هو فوق بشري، فإنّ المحاورات تؤكّد أنّ المقدّس لم يعد يكمن في التعبّد المنذور للآلهة، وإنّما في الوعي الأخلاقي الفردي، والإخلاص في كلّ الحالات هو الطّريق لـ (التّاو) الذي هو مصدر كلّ خير. فعلى الإنسان الخيّر أن يعرف كيف يضحّي بكلّ المنافع، ويتخلّص من كلّ العلامات الظّاهرة للنّجاح الاجتماعي والسّياسي، لفائدة التّاو، وقد تصل تلك التّضحية حدّ بذل النّفس. وتلك هي إرادة السّماء حسب كونفوشيوسّ. وسوف يطبّق كونفوشيوس ذلك أثناء أسفاره وبحثه عن أمير يجعله ينصت إلى ذاته (وكم يبدو مثل هذا الموقف متطابقاً مع ما جاء في محاورات أفلاطون).
ويلامس ذاك الانشغال في ذات الوقت، الحياة الشّخصيّة والحياة العامّة، ويكون الهدف منه، جعل الأمير إنساناً محبّاً للخير ومن الدالّين عليه:
«يقول المعلّم: بلا أدب.. تغدو الأخلاق مرهَقَة والتبصّر مخيفاً والجسارة تمرّداً والصّدق جارحاً. ليؤدّ ِالأمير واجباته نحو رعيّته بتفان، وسوف تكون الرعيّة توّاقة إلى الخير. ليتشبّث بأصدقائه القدامى، ولن تكون الرعيّة مهمِلة».
يتبين حينئذ.. أنّ الفكر الكونفوشيوسي كان يستهدف بعدين للتّربية: التربية الأخلاقيّة الذّاتيّة الضّامنة لطهارة الباطن، وتنظيم البلاد بشكل يضمن الاقتراب من المثال الأعلى للسّياسة، التي هي بالنّهاية سياسة النّفس.
مقومات الحكم الرشيد
وتشير آنّ شنغ في هذا الخصوص إلى «أنّ كلّ نصّ المحاورات، كان خلال الفترة المتوتّرة التي برز فيها، يهدف إلى بيان مقوّمات الحكم الرّشيد. والفضيلة التي تضعها المحاورات في المرتبة الأولى، بعيداً عن كونها تصوّر ثنائيّ الأبعاد، يتعارض فيه الخير مع الشرّ، هي على العكس من ذلك.. أشبه بحالة من الاستقامة تعكس ما قد نسمّيه بالسّيادة الطّبيعيّة، أي حالة من الوقار والهيبة تنبعث من الحاكم، فتجعله يملي أوامره دونما جهد، ودون لجوء إلى أيّ شكل من أشكال الإكراه».
أمّا في المجال السّياسي، فيكون للتّربية أيضاً دور مركزيّ يضاهي دورها في تنشئة الفرد:
«وسأل كي كانغ تسو: ما الّذي ينبغي فعله حتّى يحترم الشّعب أميره ويعامله بوفاء وإخلاص؟ فأجاب المعلّم كونغ: أن يكون الأمير كريماً.. شريفاً.. فيحظى بالاحترام، أن يجلّ والديه ويكون خيّراً مع مرؤوسيه، فيتعامل معه هؤلاء بوفاء وإخلاص، أن يرفع إلى المناصب السّامية من كان مشهوداً له بالكفاءة والاقتدار، فيحفز الشّعب بذلك إلى تنمية الفضيلة وإشاعتها بين النّاس». (المحاورات).
كما نلمس في أجزاء كثيرة من هذا النص الحرص على إعطاء الأولويّة لضرب الأمثال، وقد نتبين ذلك من خلال المحاورة التّالية:
«وقال كي كانغ تسو.. وهو يسأل عن الأسلوب الأمثل الذي ينبغي للحاكم أن يلتزم به في تدبير شؤون الحكم وسياسة العباد: ألا أكون مصيباً حين أقتل أولئك الذين يحيدون عن الطّريق، لأخلي المكان لأولئك الذين يتّبعونه؟ وأجاب المعلّم كونغ: وهل أنت بحاجة حقّاً إلى القتل حتّى تسوس العباد؟ لتقبل أنت على فعل الخير، وسوف يكون الشّعب خيّراً. إنّ فضيلة الأمير لشبيهة بالرّيح، فيما يشبه الشّعب في استقامته العشب، فعندما تنفخ الرّيح، غالباً ما ينحني العشب».
فالموائمة بين النّظام السّياسيّ والاجتماعي من ناحية، واستقامة الحاكم على المستوى الأخلاقي من ناحية ثانية، تعطي لوصيّة كونفوشيوس بـ«تصويب الأسماء» كلّ دلالتها الطّقوسيّة.
وتشير آنّ شنغ في كتابها إلى أنّ الانزعاج من الطّقوس، مردّه بالنّسبة لكونفوشيوس إلى اضطراب أوضاع الصّين في زمنه، وإلى توتّر علاقات القوى داخل المجتمع، وتفاقم الإقبال على المصالح الذّاتيّة، والتحلّل من احترام القدماء، وتلاشي كلّ العلامات والمعايير، بل وحتّى معاني الكلمات. فلا بد للّغة حينئذ أن تغدو مناسبة من جديد، حتّى يتحقّق الائتلاف بين الأقوال والأفعال، وتُستعاد علاقات الثّقة الضّامنة لسلامة العلاقات الاجتماعية.
الدليل إلى الرّان
ممارسة الرّانْ، تفترض أن يبدأ كلّ منّا بنفسه، وأن يعمل على إيثار الآخرين قدر إيثاره لنفسه: «استمدَّ من ذاتك ما تريد تقديمه للآخرين، ذلك هو ما سوف يدلّك على وجهة الرّان».. فالتّسامح الذي تمليه المعاملة بالمثل، هو الذي يسمح بإدراك معنى (الرّان)، ويعطي لفكر كونفوشيوس بعده الحقيقي.
.............................................
ترجمة - أحمد حميدة