روعة يونس (الاتحاد)
أصبح مسجد «مريم أم عيسى» في منطقة المشرف بأبوظبي، رمزاً إماراتياً كبيراً في التسامح والتعايش بين الأديان، ليرسخ من جديد الصلة بين المسلمين والمسيحيين، ويؤكد دور الإمارات في قيادة العالم في مجال التسامح، ونشر قيم التعايش الإنساني في المجتمع الإماراتي، وتقديم القدوة العالمية المشرفة في المحبة والتآخي، خاصة أن السيدة مريم لها مكانة كبيرة في قلوب المسلمين والمسيحيين معاً.
أكدت كوكبة من آباء الكنائس المسيحية، أن المبادرة التاريخية الاستثنائية لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، التي جاءت بالتزامن مع يوم زايد للعمل الإنساني تعكس قيم التسامح والإخاء والمحبة، التي كرستها دولة الإمارات بإطلاقها عام 2019 عاماً للتسامح، وأجمعوا على أن القرار يشكل بحد ذاته مثالاً عظيما في التسامح الديني، سوف يتذكره الجميع في كل مناسبة.
توأمة الاسم والجوهر
كان المسجد قد سُمّي عند إنشائه عام 1985 باسم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ويقع في منطقة المشرف بأبوظبي، ويتكون من مصلّى كبير للرجال يتسع لقرابة 2000 مُصلّ، ومُصلّى النساء، ومجموعة من المرافق الخدمية والمراكز الملحقة به. إلى أن وجه سموه في 14 يونيو 2017، بإطلاق اسم «مريم أم عيسى» على المسجد الذي يحمل اسمه، في دلالة واضحة على التسامح الديني الذي تشهده الدولة، وعلى ما يحمله قرار سموه من ترجمة للتسامح الديني، حاملاً رسالة عالمية للتسامح من أرض الإمارات إلى العالم.
ويصادف أن إحدى أعرق كنائس دمشق التاريخية تحمل أيضاً اسم الكنيسة المريمية «مريم أم عيسى» كما تحمل هذا الاسم عدة كنائس في المشرق العربي تحديداً في لبنان وفلسطين، بما يضفي بعداً رائعاً، يقارب «التوأمة الروحية» في الاسم والجوهر، إذ تعتبر الكنيسة المريمية في دمشق من الكنائس الأثرية السورية القديمة ويعود تاريخ بنائها إلى القرن الرابع الميلادي مع بداية انتشار المسيحية في دمشق، وبنيت على سورها مئذنة إسلامية شاهدة في شكلها الشامخ على جوهر المحبة والإخاء والتسامح بين الأديان.
نجل قائد متسامح
يقول رئيس الكنيسة المريمية في دمشق القسيس ريموند مسعد إن توجيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد بتغيير اسم المسجد الذي يحمل اسمه إلى «مسجد مريم أم عيسى»، كان هدية محبة، فسموّه نجل المغفور له الشيخ زايد حكيم العرب الذي علم كل من عاش يوماً على أرض الإمارات معنى المساواة والتعايش السلمي والتسامح، فبنى الكنائس في دولة الإمارات منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، واستقبل على أرضها مئات الآلاف من مختلف الأديان والأعراق، ولم يفرّق بينهم في المعاملة والحقوق، وكان فكره المتسامح المتعاطف مدرسة لأنجاله، ويؤكد قرار صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، أنه سليل قائد متسامح، يتابع ما نشأ عليه، وما تكرّس في ضميره وفؤاده من قيم التسامح والتآخي، فهذا ما يكون عليه القائد القوي والإنساني الذي يبني مجتمعه على أسس تنبذ التطرف وتكرّس تسامحاً لا ينتهي.
صورة الإسلام الحقيقي
أكد القسيس وليم بولس، من الكنيسة الكاثوليكية، أن الإمارات تجسد صورة الإسلام الحقيقي التي يجب نشرها في العالم أجمع، وهذا التوجيه يحمل رسالة إلى العالم أجمع تؤكد أن دولة الإمارات هي مركز التسامح وقلب التعايش الإنساني، والأرض القادرة على احتضان مختلف الأديان والثقافات في تناغم كبير نشكر الله عليه، فقلما نجد مثل هذه المحبة في عالم هو في أشد الحاجة إلى مثل هذه النماذج والمبادرات التي تحمل بعداً قيمياً يثبت تسامي النفس النبيلة وإصرارها على ضم الناس داخل عالم مسوّر بالمحبة والخير والإنسانية، فهذا البعد القيمي للتسامح هو أصلاً الغاية من إنشاء دور العبادة.
تكريم للمرأة
تشير مها نورالله- مدرّسة التربية الدينية في الكنيسة الأرثوذكسية، أن الاسم الجديد للمسجد له دلالات إنسانية عظيمة ترسخ في وجدان المجتمع الإماراتي مبدأ المحبة والتقدير والاحترام للسيدة مريم عليها السلام، وتحمل هذه الخطوة رسالة إيجابية عن التسامح وعن تقدير المرأة الأم، إذ لم يقتصر الاسم على النبي عيسى عليه السلام فقط، بل كان خياراً إنسانياً وحضارياً يحمل نصرةً للمرأة، فالسيدة مريم عليها السلام وتتبوأ مكانة عظيمة في الإسلام والمسيحية على حد سواء.
دين السماحة
يرى د.جوزيف كامل -مؤرخ وأستاذ تاريخ صدر الإسلام بجامعة دمشق- أن الإمارات تحتل مكانة عالمية على كل الأصعدة بسبب التعايش والتسامح الذي تعيش فيه أكثر من مئتي جنسية على أرضها، فتخطت حدود المنطقة بفضل السياسة الحكيمة الواعية التي تنتهجها قيادة الدولة لنشر تعاليم الإسلام الصحيحة التي تدعو للتسامح بين أصحاب الديانات كافة، وترسيخ مفاهيم وقيم الدين الإسلامي بمنأى عن الغلو والتطرف، لنجد أنفسنا أمام نموذج للاقتداء بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) فقد نقلت لنا الأحاديث الشريفة تاريخ دين السماحة، وكيف أنزل وفد من مسيحي نجران إليه فسمح لهم بإقامة صلاتهم في المسجد، فكانوا يصلون في جانب منه، ورسول الله والمسلمون يصلون في جانب آخر.
ترسيخ أسس التعايش
أكد القسيس يوسف خليفة -من الكنيسة المعمدانية- أن الإمارات تقود العالم في مجال التسامح الديني والتآخي والسلام، من خلال فكر وأسس مهمة عززتهما من خلال القوانين التي أصدرتها الدولة، فإلى جانب إطلاق اسم السيدة «مريم أم عيسى» على المسجد، فالدين الإسلامي يؤمن بالتعايش والتاريخ الإسلامي زاخر بالقصص التي تعبر عن تقبل الآخرين، والإمارات ترسخ ضوابط مجتمعية نشأت وسادت في المجتمع الإماراتي، وتنشر مبادرة غير مسبوقة تعبر عن سماحة القيادة الرشيدة التي نتطلع إلى أن يقتدي العالم بها، فالعالم الآن في أمس الحاجة إلى التسامح والتعايش مع الآخر بالسلام والمحبة والقيم التي نزلت من أجلها جميع الديانات السماوية.
درس في السلام
تقول د.هدى ميشال (عميدة جامعة الشام الخاصة) مؤرخة وأستاذة في كلية التاريخ إن العالم يشهد موجة كبيرة من التطرف والشعبوية، أدت إلى العديد من حوادث الكراهية، لذلك حرصت الإمارات على تقديم درس مهم في المحبة والتسامح والتعايش السلمي، فكان قرار تغيير اسم المسجد إلى «مريم أم عيسى» عليهما السلام، اللذان لهما قدسية كبيرة لدى كل مسيحي على وجه الأرض، كما قدمت الإمارات مبادرة عالمية مهمة خلال زيارة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، لتؤكد أن الأديان كلها تلتقي في أن «المؤمنون أخوة» والإنسانية في أمس الحاجة لهذه الأخوة لتتجنب ويلات الكراهية ويعيش الناس في مجتمع سالم آمن تلتقي فيه كل الانتماءات الدينية دون استقطاب وإقصاء وتعصّب.
مبادرة الإخاء
أعرب القسيس نجيب شاهين- خريج جامعة الروح القدس- عن تقديره لمبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ويقول «تعكس إعادة تسمية المسجد باسم السيدة مريم العذراء عليها السلام، فضائل البر والإحسان والإيثار، فالأديان تأمرنا بنشر السلام والمحبة بين الناس، ونحن أمام مبادرة في الحب والسلام نتمنى أن يقتدي بها جميع العالم، فصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد قام بلفتة إنسانية تؤكد القواسم المشتركة بين الديانات السماوية وتحمل في طياتها المحبة والتقدير للسيدة مريم عليها السلام، وهذا دليل على مناخ الإخاء والمحبة الذي يعيشه مجتمع الإمارات».
في ذاكرة التاريخ
أوضح د.بشير يونس -كلية التاريخ بالجامعة العربية- أن التاريخ سوف يذكر أنه في الوقت الذي كانت بلدان كثيرة تضج بالتعصب والعنف والاقتتال والإرهاب، كانت الإمارات ترفع التسامح راية خفاقة في سماء هذا العالم، وكان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، يوجه بتغيير اسم مسجده، تأسيساً لقيم التسامح، وتكريساً لمفاهيم الإنسانية، فضرب سموّه بذلك مثالاً واقعياً للتسامح، وكما يذكر التاريخ الخليفة عمر بن الخطاب الذي رفض هدم بيت امرأة مسيحية لبناء مسجد، سيذكر التاريخ مسجد «مريم أم عيسى» آلاف السنين، فها نحن بعد نحو 1500 عام مازلنا نذكر مآثر عمر بن الخطاب، وليس كثيراً على تاريخنا أن يجود على الأمة بقائد مثل محمد بن زايد، ونذكر مآثره لتُحفظ في ذاكرة التاريخ.
أرض الأمان
أقامت د. جهينة جرجس -أستاذة التاريخ بجامعة حلب- في أبوظبي 20 عاماً، وغادرتها عام 2000 للدراسة في جامعة حلب والحصول على الدكتوراه، وتقول «غدت الإمارات أرضاً وفضاءً للتسامح، منذ خطّ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، نهجاً للتعايش والتسامح وتوفير الأمان والسلام لشعبه والمقيمين على أرضه.
وأشارت أن منطقة المشرف التي يقع بها المسجد تعد من المناطق المميزة في أبوظبي، حيث يوجد فيها العديد من دور العبادة التي تشهد على التعايش والإخاء الذي تعيشه الإمارات، تؤكد الرسالة الحضارية التي تحرص القيادة الرشيدة على نشرها في العالم أجمع.