«كريستي برودي»... النسخة الروسية لـ «احتلوا وول ستريت»!
إنه يشبه جزئياً حركة "احتلوا وول ستريت"، وجزئياً ركنَ التعبير في حديقة "هايد بارك"، لكنه يمثل شيئاً جديداً بالنسبة لروسيا. المخيم الصغير الذي أقامه بشكل عفوي قبل نحو أسبوع بضع مئات من النشطاء الشباب بإحدى الحدائق في وسط موسكو، بالقرب من محطة ميترو كريستي برودي، تطور إلى "محمية للديمقراطية" تُلقى فيها محاضرات مجانية حول المواطنة من قبل أساتذة جامعيين، وتحتضن مناقشات دون قيود في الهواء الطلق، وتوفر نظرة عن كثب إلى الطيف المتنامي للقوى المعارضة التي يبدو أنها تتفق فقط على مطلب تنحي بوتين المنصب حديثاً عن الحكم.
وحتى الآن تركت الشرطة المخيم في سلام، رغم أنها ضربت واعتقلت المئات خلال مظاهرات احتجاجية على تنصيب بوتين الأسبوع الماضي. ويوم الأحد، شارك نحو 15 ألف شخص، من بينهم زعماء معارضة وكتاب ومشاهير آخرون، في مسيرة عبر وسط موسكو للتعبير عن تضامنهم مع المخيمين. لكن، هل ظهور مخيم دائم للمعارضة في قلب موسكو وسيل الدعم الاجتماعي الذي أثاره، هو السبب وراء ما يبدو تصرفا غريبا من جانب بوتين الذي تم تنصيبه وسط احتجاجات اجتماعية غير مسبوقة؟ بعد أيام قليلة على وصوله إلى سدة الحكم، أعلن بوتين أنه لن يشارك في قمة مجموعة الثمانية المرتقبة في وقت لاحق من هذا الأسبوع في كامب ديفيد بالولايات المتحدة، ما يمثل عملاً غير مسبوق بالنسبة لرئيس دولة روسي وربما يعد ترفعاً مباشراً على أوباما.
بوتين قال إنه "جد مشغول" بتشكيل حكومته الجديدة لدرجة لا تسمح له بالمشاركة في القمة السنوية لزعماء مجموعة الثمانية، وإنه سيرسل الرئيس السابق ورئيس الوزراء الحالي ميدفيديف لينوب عنه. قد يكون هذا كل ما في القصة؛ لكن الخطوة أثارت سيلاً من النقاشات في موسكو لأنه أمر غير مسبوق أن يتجنب زعيم الكريملن مناسبة لاقتسام المنصة الكبيرة مع نظرائه الغربيين ويعقد اجتماعاً وجهاً لوجه على هامش القمة مع رئيس الولايات المتحدة.
ويشار هنا إلى أن صحيفة "كوميرسانت" الصادرة من موسكو كانت قد أفادت يوم الأحد الماضي بأن أول زيارة لزعيم الكريملن إلى الخارج ستكون إلى بيلاروسيا المعزولة والمناوئة للغرب، متبوعة باجتماع لـ"منظمة شنغهاي للتعاون" في الصين أوائل يونيو المقبل.
البعض يجادل بأن بوتين، العارف بتاريخ بلاده الذي عرف انهيار دولتين روسيتين قويتين تحت تأثير الاستياء الاجتماعي في القرن الماضي فقط، قرر توخي الحيطة والحذر والبقاء في الوطن إلى أن تتضح الوجهة التي ستتخذها الحركة الاحتجاجية الحالية. وفي هذا الإطار، يقول سيرجي دافيديس، أحد زعماء حركة "سوليدارنوست" المعارضة: "الجميع كان يقلل من شأن الاحتجاجات الشعبية"، مضيفاً: "الكثير من الناس كانوا يعتقدون أن كل شيء سيهدأ (بعد التنصيب)، لكن ذلك لم يحدث، بل بدأ الناس يجدون طرقاً جديدة للتعبير عن معارضتهم. الأشياء مثل هذا المخيم تعتبر جديدة بالنسبة لروسيا، والسلطات حائرة ومرتبكة لأن قمع الناس واعتقالهم لا يوقفها. فالناس يقولون إنهم لا يريدون الانتظار لست سنوات أخرى (حتى نهاية ولاية بوتين) من أجل رؤية التغيير".
ظهور هذا المخيم الاحتجاجي الصغير، والصدى الاجتماعي الواسع الذي لقيه، يشير إلى أن الحركة الاحتجاجية المعارضة لبوتين، والتي بدأت ببضع مظاهرات ضخمة ضد التزوير الانتخابي في ديسمبر الماضي، أخذت تتحول بسرعة إلى مظهر ثابت ودائم في المشهد السياسي الروسي. لكن أعداد الأشخاص المنخرطين في المخيم مازالت صغيرة نسبيا، والمزاج احتفالي أكثر مما هو ثوري. وفي هذا السياق، تقول أولجا رامانوفا، وهي صحفية أصبحت إحدى أبرز وجوه المعارضة وواحدة من سكان مخيم كريستي برودي الدوريين: "هنا لا يوجد اختلاف بين اليسار واليمين. فالجميع يعيش معاً في الخيام ويعيش في وفاق لأنهم جميعا يدافعون عن النزاهة والاستقامة"، مضيفة: "حتى في حال تم تفكيك المخيم -وهو ما سيتعرض له بدون شك- فإننا سنذهب إلى أماكن جديدة وسنجد طرقاً جديدة للتعبير عن أنفسنا". وتضيف أولجا قائلة: "إن هذه لم تعد حركة احتجاجية للطبقة الوسطى، وإنما أخذت تتحول على نحو متزايد إلى حركة للمواطنين الغاضبين من الطبقة الوسطى الدنيا أيضا... فالمزاج العام أخذ يزداد جدية ويميل أكثر إلى اليسار. وأعتقد أننا سنرى سيلا ضخما للاحتجاجات، عندما تنظم المظاهرة الكبيرة المقبلة في الثاني عشر من يونيو القادم".
بعض الخبراء يشيرون إلى أن قرار بوتين بتجنب قمة مجموعة الثمانية لا يتعلق بالبقاء في موسكو من أجل رؤية ما سيحدث خلال الأسابيع القليلة القادمة فقط، لكنه يؤشر أيضاً إلى تحول كبير في السياسة الخارجية، حيث يقولون إن "إعادة ضبط" العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي بدأها أوباما، اصطدمت بجدار من الخلافات بشأن الدفاع الصاروخي، وإن بوتين سيكون مرتاحاً أكثر -لأسباب داخلية ودولية- مع حالة شبح الحرب الباردة التي كانت قائمة بين روسيا والولايات المتحدة في عهد بوش الابن.
لكن هذا الاختيار في السياسة الخارجية، إذا كان ذلك هو ما يقوم به بوتين، لديه تداعيات مباشرة على "محمية الديمقراطية" الصغيرة في كريستي برودي حيث يقول سوسلوف: "أما في ما يخص التعاطي مع المعارضة، فمن شأن علاقات أسوء مع الولايات المتحدة أن تكون بمثابة هدية لبوتين، لأن ذلك سيمنحه العذر المثالي لقمع المعارضة وسيتيح له فرصة القول: إننا محاصَرون بالأعداء، وعلينا أن نتحد. لذلك، أخشى أن الرئيس الروسي الجديد القديم مازال عالقاً في ذلك الأسلوب القديم".
فريد وير - موسكو
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"