ليس المكان ولا الزمان ولا السكون مطلقاً ثابتاً، بل هو نسبي يتحدد وفق معطيات المكان والزمان وموضع الراصد، وليست كل الأجسام في الكون لابد لها من قوة، لتحركها على خط مستقيم، فالنجوم تتحرك دون مؤثر في فضاء السماء، في حركة دائرية، كما أن مصدر الجاذبية ليس في الأرض، بل من ارتداد موجات في الفضاء، كذلك لا تتحدد إحداثيات هندسة الكون بقياس الطول والعرض والارتفاع فحسب، بل لها بعد رابع هو (الزمكان - spacetime) بدمج الزمان مع المكان دون فصل بينهما.
كل هذه الاكتشافات التي ابتكرها العالم أينشتاين، في أوائل القرن الماضي، وهز بها البشرية بأسرها، بعدما ترسخت كمسلمات يقينية، منذ قدمها العالم إسحق نيوتن من قرون، أثرت في حركة الفنون والآداب، لاسيما في أوربا، فقوضت الأنماط الدرامية المتكلسة، وجعلت الشك يحل محل اليقين في ما ترمي إليه رسالة العمل الفني، ولم تعد النهاية للخير دائماً، فبعد أن تزعزعت مكانة الدين عندهم مع الاكتشافات العلمية، لم يعد دعاء الإنسان الطيب يجدي، ولا يوجد مخلص يخلص البشرية من همومها، وصار الخواء الروحي هو أزمة بطل العمل... إلخ، ولا ننسى دور الحربين الأولى والثانية المدمرتين، فكان انعكاس كل ما سبق ملحوظاً بقوة، في تكوين الفنان الفرنسي الشهير كريس ماركر (1921- 2012 ) مخرج وكاتب الفيلم الفذ (رصيف المطار- 1962) الذي لا يزال على قمة أهم الأفلام التجريبية والطليعية، ومحط انبهار الأجيال الحالية.

الفيلم له شكل الخيال العلمي*، لكن مضمونه وغايته البحث في لعبة الزمن عبر ذاكرة الإنسان، وانطلق مخرجنا من تقنية سردية تعتمد على حركة أدبية عُرفت بتيار الوعي، حيث الذاكرة مسرح الحدث، والزمن مائع ما بين ماض وحاضر وقادم تخيلي بلا حواجز بينها، في تداع مرسل للأفكار، والتهيؤات في دهاليز اللاوعي، وهو ما تجلى في شكل/‏‏‏‏ مضمون الفيلم.

المشهد الافتتاحي
بلوحة سوداء تتكرر كثيراً في الانتقالات المشهدية، يستهل العمل أول كادراته، ليفتح صفحات الذاكرة بعدها على صور ثابتة بالأبيض والأسود «وما بينهما من درجات لونية»، هي محور الفيلم بصريا، وتقنياً، في كل مشاهده، وهي أبرع ما في الفيلم، وأساس تفرده، يجرب بها فنان الفيلم محاولة تثبيت سيولة الزمن الجاري بطبيعة شريط الفيلم المتحرك، فالصورة الثابتة تمكننا من الإمساك باللحظة الزمنية واستيعابها، في عقل المشاهد.
لذا نجد أن توظيف الصور الثابتة طوال كل الفيلم (عدا لقطة واحدة) له دلالته الفلسفية والجمالية معاً. بعدها نرى أول لقطة (زووم) يتسع معها الكادر في (لقطة عامة جداً) لرصيف مطار أورلي مع مؤثر صوتي لأزيز محركات الطائرات المزعج، يجعلنا نستشعر الجو النفسي المُقبض لأزمة البطل، ثم تصرخ الموسيقى بطابعها الأوبرالي مع بداية عناوين الفيلم، فتشحن المتفرج بالشعور التراجيدي، حيث صراع الإنسان الدائم مع ذاته، وزمنه، ووجوده المجتمعي، كما نستنبط فيما بعد.
وتتوالى الصور الثابتة في تكوينات موحية، مع صوت المعلق المحايد، يحكي هامساً عن قصة البطل الذي بقي في ذاكرته صورة لا تغادره، وقتما كان طفلاً، يتفرج على الطائرات بالمطار، مع والديه، فانطبعت في وعيه صورة لوجه فتاة جميلة، بآخر ممر الانتظار بالمطار، ومع (لقطة مكبرة) للفتاة يخبرنا المعلق/‏‏‏‏ السارد بأن البطل لا يعرف إن كان الوجه الذي رآه وقتذاك في طفولته، حلماً أم حقيقة، ونلمح خلفية رمادية للسحاب في الصور، وباستخدام واع لعدسات (التليفوتو) تحيل عناصر المكان مثل: برج المراقبة بالمطار، إلى تكوينات أقرب للتجريد، يجاورها الحس الواقعي بجو المكان، فنسمع صوت المذيعة الداخلية بالمطار، وننسى تدريجيا أننا نتفرج على عرض لصور ثابتة تتحرك وراء بعضها، فالحس المونتاجي خلق من الصور الثابتة شريطا متحركاً ببراعة، ثم مع هذا التوظيف التقني، يبلور لنا الفيلم - بكلمات المعلق- عن إحدى أفكاره الجوهرية:
«لاشيء يميز الذكريات عن اللحظات العادية، إلا فيما بعد، إذ نتذكرها، بسبب الجروح التي تركتها فينا».
ولا زلنا في نفس «اللقطة المكبرة» لوجه الفتاة، بابتسامتها البريئة، ونفهم من بقية التعليق حيرة البطل متسائلاً: ماذا عن الرجل الذي رآه مقتولاً بجوارها؟! إذ قطع الفيلم قطعا حاداً (مونتاج/‏‏‏‏ جون رافيل)، مع تصاعد صوت أزيز الطائرات، لصورة طائرة تحلق عالياً في (سلويت)، كأنها طائر الموت، مستغلاً بذكاء قدرات الصورة التعبيرية، والإيحاء بالهيمنة من زاوية الكاميرا السفلية، فتفزع الفتاة في تعبير إيمائي جيد، وتتشتت وجهات نظر الباقين على رصيف المطار، ليمهد للانتقال نحو آثار الحرب الثالثة، كأنما المخرج كان يتنبأ بحدوثها، في زمن قادم مرعب.

بدء الرحلة الزمنية (أربع عشرة) صورة مؤثرة ومتنوعة، أوجز بها مبدع العمل آثار دمار الحرب في باريس، ثم يأخذنا بعدها إلى داخل أطلال قصر (شايوة)، بعد نهاية الحرب الثالثة، في زمن قادم تخيلي يضعنا في حاضره، فنرى المحتلين الألمان (كما يبدو من همهماتهم)، يجبرون الأسرى الباريسيين، على الخضوع لتجربة مجنونة، ليرحلوا بعقولهم وذاكرتهم إلى الزمن المنقضي، ثم المستقبل، ظناً منهم أنهم قد يجدون حلاً لإنقاذ البشرية من المجاعة، والانتشار الإشعاعي، بعد الحرب، فيكون البطل أحد ضحايا هذه التجربة العلمية، بعدما فشلت محاولات مع أسرى آخرين، وكانت نهايتهم إما بالجنون أو الوفاة، ثم في إضاءة تعبيرية، أقرب إلى (أسلوب رمبرانت)، حيث الوجوه نصف معتمة أو تكاد، ومثلث الوجه يتوسطه الأنف مضاء، بمصدر إضاءة أساسي وحيد، وبقية عناصر الكادر في إضاءة خافتة، فيشي بالجو النفسي للمشهد الكابوسي. واستطاع المخرج أن يعبر عن التوتر بين العلماء المحتلين، والرعب في وجه البطل، من زوايا مختلفة، وأحجام متباينة، خاصة (اللقطات المكبرة) للعيون المرتقبة لبداية الرحلة، مع القطع المونتاجي السريع بينهم، وقت عملية الحقن، قبل رحلة البطل إلى الزمن الماضي، مع استعمال صوت دقات القلب الرتيبة المقلقة كمؤثر صوتي، يدعم الإحساس المتوتر في نسيج المشهد، ويعبر عن الإحساس الزمني البطيء لطول التمهيد للرحلة، فجعل عدة لقطات ثابتة للطبيب المرافق للبطل وهو يخضع للنوم، فينام، ثم يصحو، مع القطع المؤثر على وجه البطل النائم، انتظاراً لولوج وعيه في زمنه الطفولي، حتى نرى (لقطة مكبرة جداً) للبطل، وقد وصل لقمة الألم وهو يكز على أسنانه، من زوايا عليا وجانبية، فكدنا نسمع - لمهارة المخرج - صراخه، حيث قَدرَ مبدع الفيلم أن يدخلنا في أتون اللحظات النفسية الخاصة، بهذا المشهد، في حركة متصلة مشحونة، حتى يصل للمشهد التالي...
حيث نرى ما في عقل البطل «بإضاءة نهارية مريحة»، من أشياء الماضي الحقيقية، مثل: الحجرة المنزلية، والأطفال، والطيور والقطط.... وفي اليوم التالي يقابل الفتاة صاحبة الصورة، في حديقة وسط الأطفال، مع لحن رومانسي شجي ناعم للوتريات للمؤلف الموسيقي/‏‏‏‏ تريفور دونكان، فيرسم جواً من الخيال في أنحاء الشعور، وبعض الغموض الذي نحسه مع آلة الفلوت الخشبية، أوما يماثلها. وفي لقطات أكثرها (عامة واسعة)، يكشف لنا المخرج جوانب الحديقة بطريقة (champ contre champ) أي مدى الصورة وخلفيتها، يقابلها المدى المصاحب بنفس الزاوية والحجم للشخصية الأخرى أمامها، في زمن منبسط، أو اللازمن الذي يعيشه البطل والفتاة في المشهد، كما يصفه صوت المعلق الهادئ، ثم يقطع المخرج حالة التماهي مع الجو الشاعري الغنائي، على عيون الطبيب الخبيثة بالمخبأ، فيعيدنا فجأة إلى الزمن الحاضر في سياق السرد الفيلمي، حيث لا يزال البطل غائباً عن الوعي، يخضع كفأر التجارب للتجربة العلمية المجنونة، ثم يحرك عقولنا المعلق مع بطله الذي يلتبس عليه إن كان لقاء الحديقة قد تم بالفعل، أم كان حُلماً حَلم به يوماً ما، فالتباس الحقيقة بين ماهو مجاز وماهو واقع ملموس، من أبرز سمات فلسفة الفيلم.

مشهد اللقطة الوحيدة
في مشهد بديع ومبتكر تطل علينا مجموعة من اللقطات «المكبرة» المصورة بكاميرا الفوتوغرافيا، مثل سابق أحداث الفيلم، لوجه الفتاة وهي مستغرقة في النوم، مع مزج ناعم للإيحاء بحركة حلم منامها، وانعكاسه على ملامحها الوديعة، يلوح عليها بوادر الابتسام والاستمتاع اللذيذ، فيصبح وجهها كأنه هو الحلم ذاته، بتصوير (خمس عشرة) صورة ثابتة لها، في عدة أوضاع، تتغير فيها يسيراً وضع يدها، ورأسها، ومما أضاف شاعرية للمشهد صوتُ العصافير خارج الكادر فقط، دون أي موسيقى...
ثم تأتي اللقطة الوحيدة في كل الفيلم، المصورة بكاميرا سينمائية، عندما تفتح البطلة عينيها أمام الكاميرا، بإضاءة حالمة، مع استغلال خلفية الوسادة البيضاء، بثنياتها الرقيقة، مثل طبيعة الشخصية، فعندما يرف رمشها، وتفتح أجفانها برقة، تظهر لنا عيناها، بنور نهارها، فلم يجد صانع الفيلم أفضل من كاميرا السينما، لنقل جمال الحركة الطبيعية، وللتعبير عن كونها حقيقة حية، وليست صورة ثابتة متجمدة، وبما أن السينما حركة، فلا فن يرينا جمال الحركة في هذه اللحظة، مثل فن السينما، ويبدو لنا هنا ثقافة المخرج التشكيلية، فكأننا نرى لوحة للفنان التشكيلي السينمائي/‏‏‏‏ ادوارد هوبر، خصوصاً في تعامله مع ضوء الشمس وانعكاساته على الوجوه، وخلق الجو المعنوي، بنسب ضوئية جمالية في حدود الإطار الواقعي.
واختيار المخرج للممثلة (هيلين شاتيلان) كان إيجابياً، ومَثّل وجهها بتعبيراته العفوية، طيف البطل في سماء تجربته الإنسانية الحالكة، في حين لم يوفق المخرج في اختيار الممثل (دافوس هانيش) لدور البطل، بوجهه الصارم، وإيماءاته الأحادية - غالباً- دون تلوين، فزاد - على نحو ما - من قتامة الفيلم، وتجهمه.

المحطة الأخيرة
وبعد تلك اللقطة السينمائية، يرجعنا المخرج إلى صُورِه الثابتة الفوتوغرافية في مشهد للفتاة مع البطل في متحف (الحيوانات الأبدية)، فنتأمل البطلين في ألفة نظراتهما الرومانسية، نحو عيون القطط، ومجموعة الطيور المحنطة التي تحيط بهما، فمن زاوية (عليا جداً) نرى البطل أسفل الكادر، ينظر فوقه إلى نسر كبير محنط، يحلق بجناحيه المفرودين، كأنما نشعر أنه يلهم البطل فكرة الطيران، بعيداً عن الواقع البائس للإنسان، في هذا العالم الدموي العبثي، لكن الأمر يبدو من صميم المحال، فالنسر آلت حركته أيضاً إلى الفناء، ولم يعد له أي ملمح للطيران سوى في الشكل لا الروح!
ثم ينتقل الفيلم لمرحلة دخول البطل في رحلة للمستقبل الذي نراه ماثلاً، حيث الوجوه الإنسانية التي يبدو على جبهتها علامة غريبة، وفي تكوينات رمزية، ثم بعد رفْض البطل العيش في الزمن القادم، وبعد نجاح التجربة العلمية، كما يبدو من ابتسامات الأطباء، وتعابير الفرح عليهم، يعود البطل باختياره، مهرولاً، لزمن طفولته، على رصيف المطار الذي رأيناه بأول الفيلم، لعله يقابل الفتاة التي رآها بالصورة القديمة، فيجدها تنتظره، لكن سرعان ما يوقفه الطبيب الذي قام بالعملية، فيقتله، ليدرك البطل أن لا مناص من الهروب من قبضة الزمن، وأن اللحظة التي تعلقت بها ذاكرته، نحو صورة طفولته وحبيبته هي لحظة موته. وأن الرجل المقتول الذي رآه في طفولته بالمطار، لم يكن سوى.. ذاته!
...............................
* أُنتج فيلم الخيال العلمي الطويل (12 قرداً -1995)، عن قصة فيلم (رصيف المطار).