قال عليّ بن الجهم القرشي: دخلت على المتوكل يوماً، وهو جالس وحده، فسلمت عليه فردّ السلام، وأجلسني فحانت مني التفاتة فرأيت الفتح بن خاقان واقفاً في غير رتبته التي كان يقوم فيها، متكئاً على سيفه مطرقاً، فأنكرت حاله، فكنت إذا نظرت إليه نظر إليّ الخليفة، فإذا صرفت وجهي نحو الخليفة أطرق· فقال: يا عليّ، أنكرت شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين! فقال: ما هو؟ قلت: وقوف الفتح في غير رتبته التي كان يقوم فيها! قال: سوء اختياره أقامه ذلك المقام· قلت: ما السبب يا أمير المؤمنين؟ قال: خرجت من عنده قبيحة آنفاً، فأسررت إليه سراً، فما عداني السر إذ عاد إليّ! قلت: لعلك أسررته إلى أحد غيره يا أمير المؤمنين! قال: ما كان هذا؟ قلت: فلعل مستمعاً استمع إليكما! قال: ولا هذا أيضاً· فأطرقت ملياً، ثم رفعت رأسي فقلت: يا أمير المؤمنين، قد وجدت له مما هو فيه مخرجاً! قال: ما هو؟ قلت: حدثنا الفضل بن دكين، قال أبو الجوزاء: طلقت امرأتي في نفسي، وأنا في المسجد، ثم انصرفت إلى داري، فقالت لي امرأتي: اطلقتني يا أبا الجوزاء؟ قلت: من أين لك هذا؟ قالت: خبرتني جارتي الأنصارية! قلت: ومن خبرها بذلك؟ قالت: ذكرت أن زوجها خبرها بذلك! فغدوت على ابن عباس فقصصت عليه القصة، فقال: علمت أن وسواس الرجل يحدّث وسواس الرجل، فمن هاهنا يفشو السر· قال أبو نعيم: فكان في نفسي من هذا شيء حتى حدثني حمزة الزيات، قال: خرجت سنة من السنين أريد مكة، فلما جزت في بعض الطريق ضلت راحلتي، فخرجت أطلبها، فإذا باثنين قد قبضا عليّ، أحس حسهما، وأسمع كلامهما، ولا أرى شخصيهما! فأخذاني وجاءا بي إلى شيخ قاعد على تلعة من الأرض، حسن الشيبة فسلّمت عليه فرد السلام فأفرخ روعي، ثم قال: من أين؟ وإلى أين؟ فقلت: من الكوفة أريد مكة· قال: ولم تخلفت عن أصحابك؟ فقلت: ضلت راحلتي فجئت أطلبها! فرفع رأسه إلى قوم على رأسه، فقال: زاملة فأنيخت بين يدي، ثم قال لي: أتقرأ القرآن! قلت: نعم! قال: هاته! فقرأت حتى انتهيت إلى هذه الآية: ''وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين''· ''الأحقاف: الآية ''29 فقال لي: على رسلك! تدري كم كانوا؟ قلت: اللهم لا! قال: كنا أربعة وكنت المخاطب لهم فقلت: ''يا قومنا أجيبوا داعي الله''· ثم قال لي: أتقول الشعر؟ قلت: اللهم لا! قال: أفترويه؟ قلت: نعم! قال: هاته! فأنشدته قصيدة: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدرّاج فالمتثلم فقال: لمن هذه؟ قلت: لزهير بن أبي سلمى! قال: الجني، قلت: بل الإنسي! مراراً· فرفع رأسه إلى قوم على رأسه، فقال: زهير! فأتى بشيخ كأنه قطعة لحم، فألقي بين يديه فقال له: يا زهير! قال: لبيك! قال: ''أمن أم أوفى'' لمن؟ قال: لي! قال: هذا حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى الإنسي، قال: صدق هو، وصدقت أنت! قال: وكيف هذا؟ قال: هو إلفي من الإنس، وأنا تابعه من الجن، أقول الشيء فألقيه في وهمه، ويقول الشيء فآخذه عنه، فأنا قائلها في الجن، وهو قائلها في الإنس· قال أبو نعيم: فصدّق عندي هذا الحديث حديث أبي الجوزاء إن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل! فمن ها هنا يفشو السر! فاستفرغ المتوكل ضحكاً، وقال: إليّ يا فتح! فصب عليه خلعاً وحمل على شيء من الظهر، وأمر له بمال، وأمر لي بدون ما أمر له به· فانصرفت إلى منزلي، وقد شاطرني الفتح ما أخذ، فصار الأكثر إليّ، والأقل عنده· العجب نام المنصور ليلة - وكان في قصره في بغداد - فانتبه مرعوباً، ثم عاوده النوم فانتبه كذلك فزعاً مرعوباً، ثم راجع النوم فانتبه كذلك، ثم قال: يا ربيع! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: لقد رأيت في منامي عجباً، قلت: ما رأيت، جعلني الله فداك! قال: رأيت كأن آتيا أتاني، فهينم بشيء لم أفهمه؛ فانتبهت فزعاً، ثم عاودت النوم فعاودني يقول ذلك الشيء، ثم عاودني يقوله حتى فهمته وحفظته وهو: كأن بهذا القصر قد باد أهله وعري منه أهله ومنازله وصار رئيس القوم من بعد بهجة إلى جدث تبنى عليه جنادله وما أحسبني يا ربيع إلا حانت وفاتي، وحضر أجلي، ومالي غير ربي! قم فاجعل لي غسلا· ففعلت فاغتسل وصلى ركعتين، وقال: أنا عازم على الحج، فهيء لي آلة الحج، فخرج وخرجنا، حتى إذا انتهى إلى الكوفة، ونزل النجف أقام أياماً، ثم أمر بالرحيل، فتقدمت جنوده، وبقيت أنا وهو القصر، فقال لي: يا ربيع؛ جئني بفحمة من المطبخ، وقال لي: اخرج فكن مع دابتي إلى أن أخرج، فلما خرج وركب رجعت إلى المكان كأني أطلب شيئاً، وجدته قد كتب على الحائط بالفحمة: المرء يهوى أن يعيـــــــــــش وطول عيش قد يضره تفنى بشاشته ويبـــــــــــقى بعد حلـــــــو العيش مره وتخونــــــــه الأيـــــام حـــتى ما يرى شيئــــــــاً يســـره كم شامت بي إن هلكــــت وقائل: لله دره!