عبد الدائم السلامي

على حُدودِ فضاءِ مَعْقُولاتِنا، على أقْصَى أطرافه، تُوجَد منطقةٌ عَمْياءُ، وغيرُ محدودةٍ، لا يَبْلُغُها من قُوَى الإنسانِ إلاّ خَيالُه، ولا يخرجُ منها إلى الناسِ إلاّ ما هو مُتَحرِّرٌ من شروط مَنْطِقِهم، وباعثٌ فيهم، بفضلِ مَنْطِقِه الخاصِّ، إعجاباً وإغْراباً، فلا يملِكُ العقلُ، حين يَعْجِزُ عن تفسيرِه بأسْبابِه، إلاّ أن يَسِمَه بوَسْمِ «اللاَّمعقول». والحقُّ أنّ تاريخَ هذا اللاّمعقولِ بين الناسِ إنّما هو تاريخُ احْتِكاكِهم به: يَحْتكُّون به إمّا بدَحْرِه وإسكاتِ صَوْتِه من أجل اِسْتِنْباتِ مَعْقولاتٍ يَقْضَمون بها جسدَه قطعةً قطعةً كيْ لا يَظَلَّ عَقَبةً أمام كُنْهِهم حقائقَ العالَمِ بجميعِ أَشْيائِه وأَحْيائِه، وإمّا بالهَرَبِ فيه احتجاجاً منهم على مظاهرِ عَجْزِ معقولاتهم ذاتِها عن فَهْمِ ما يطرأ على معيشهم من وقائعَ خارقةٍ ذاتِ رَهْبةٍ تُشْبِهُ الرَغْبةَ. ولعلّ في هذا الهَرَبِ ما جَعَل اللاَّمعقولَ كلّما قَضِمَ منه العقلُ قطعةً أنْبَتَ هو مكانَها أخرى، ومَكَّنه في الآن ذاتِه من القُدرةِ على تَغْييرِ أَشْكالِ تَجَلّيه بين الناس وإظهارِ طاقاتِه السِّحْريّةِ عليهم. ونُقدِّرُ أنّ هذا الجانبَ السِّحْريَّ الإيحائيَّ في اللاّمعقول هو ما حوَّلَه إلى مَعِينٍ تخييليٍّ ثَرِّ الوُعُودِ، مَتَحَتْ منه الشعوبُ، وما تزالُ تمتَحُ، رَواءَها الإبداعيَّ، بل ومَثَّلَ بالنسبة إليها نَمَطاً من التفكيرِ لاذَتْ به سَبيلاً إلى صناعةِ أبطالِها الميثولوجيِّين الذين لا تَعْتَوِرُهم أحوالُ العَجْزِ الآدميِّ وهم يُواجِهون مصائرَهم، فإذا هي تنتصرُ على عَجْزِها الماديِّ بانتصاراتِ هؤلاء الرَّمْزيّةِ.

1- تفلُّتُ الدَّلالةِ
حظيت دراسة المصطلحات في الفعل الإبداعيّ عامّة، والنقديّ منه خاصّةً، باهتمام الباحثين من جهة أنها في كلّ علمٍ من العلوم «بمَنْزِلة النَّواة المركزيّة التي يمتدُّ بها مجالُ الإشعاعِ المعرفيّ ويترسّخُ بها الاستقطابُ الفكريِّ » على حدّ قول عبدالسلام المسدّي، ودون ذلك تختلطُ معاني الكلام وتتفلَّتُ من الضَّبط دَلالاتُ مصطلحاته. وهذا التفلُّتُ الدّلاليُّ هو ما هَيْمن على قراءتِنا لمُتونِ ثقافتِنا العربيةِ التي تتضمّن مظاهرَ الغَرابةِ والعُجْبِ والخَوَارقيّةِ، وما جرى مجراها من الظواهر الأخرى، مثل «رسالة الغفران» للمعرّي (ت449هـ)، و«تحفة الألباب ونخبة الإعجاب» لأبي حامد الغرناطيّ (ت565هـ)، و«خريدة العجائب وفريدة الغرائب» لابن الورديّ (ت749هـ)، و«جامع كرامات الأولياء» للنبهانيّ (ت1350هـ)، إضافة إلى كتابات المتصوّفة على غرار «التشوّف إلى رجال التصوّف وأخبار أبي العباس البستي» لابن الزيات التادلي (ت617هـ). وقد مثّلَ هذا التفلُّتُ الدّلاليُّ حافزًا لنا لأنْ نضبطَ مظاهرَ العُجْبِ والغرابةِ والخوارقيّةِ، وغيرها مما تكتظُّ به تلك المصنَّفاتُ الأدبيّةُ والفلسفيّةُ، وأن نتبيَّن دائرةَ اشتراكِها الدّلاليِّ، وغايتُنا أنْ نرُدَّ تلك المظاهرَ جميعَها إلى مصطلح واحدٍ يحتويها ويُنبئُ بها، فلا تملك معه إلاّ أن تذوبَ فيه أو تسبحَ في فلكه.
ويبدو أنّ تلك المظاهرَ قد تعاضدتْ مع بوادر ترجمة أدبِ اللاّمعقول الغربيّ وفلسفاته منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، لتُثيرَا معًا انتباهَ الباحثين العرب إلى ضرورة التفكير في اللاّمعقول، والتساؤل حول حضوره في معيش الناس على غرار ما جاء في قول الباحث عبدالوهّاب بوحديبة:«هل يجب اعتبار اللاّمعقول خطراً يهدد البشريّةَ في أعقاب هذا القرن العشرين بعد أن أصابتها الألفيّة بالخرف؟». وقد ظهرت في الغرض بحوثٌ عديدة حاول أصحابُها إمّا تبريرَ ظهور اللامعقول في عصر العقلانية الحديثة، على حدّ ما ذهب إليه زكي نجيب محمود في قوله:«إنّ هناك كثرة من أصحاب الرأي في عصرنا، تَسِمُ هذا العصر باللاّمعقولية، برغم ما فيه من علوم، أو ربّما بسبب ما فيه من علوم أنتجت آلات خنقت الإنسان فأراد أن يتنفّس بعض الهواء الطّلق في مجال اللاّعقل واللاّعلم»، وإمّا نقد اللاّمعقول ذاته كما فعل عاطف العراقي وحجّتُه «أنّنا كعرب قد ارتضينا لأنفسنا للأسف الشديد الانسحاب من الحياة، وذلك حين أسرفنا في الحديث عن اللامعقول وارتضيناه دستوراً لنا في حياتنا التي نحياها»، وهناك آراء أخرى وجدت في اللامعقول نمطاً من نَمَطَيْ إدراك العالَم «وهما الإدراك بالعقل والإدراك بالحدْس، فالأول هو طريق العلم وما يدور مدارَه من معارف، والثاني هو ما يقول المتصوّفةُ ومَن لفّ لفّهم إنّه طريقُهم إلى الحقّ »وَفْقَ ما ذهبت إليه الباحثة رجاة العتيري.
ومهما يَكُنْ من أمرِ رؤية هؤلاء الباحثين للاّمعقول، فإنّهم حين يباشرون الكتابة فيه إبداعاً نقديًّا أو تعريباً لأعمال نقدية غربية، يذكرونه ويذكرون معه مجموعةً من المرادفات ذات الصلة به. فتارةً يذكرون في عملهم الواحد وضمن السياق الواحد ألفاظًا مثل اللاّمعقول والمحال والأسطوري وغيرها، وتارة يتخيّرون لفظةً بعينها يستخدمونها في كامل عملهم، مثلما هو حال الباحثة نجوى الرياحي القسنطيني في تعريبها الفصلَ الأوّلَ من كتاب تزفيتان تودوروف الموسوم بـ«مدخل إلى الأدب الفنتاستيكي»، حـيث وازتْ بين اللامعــقول والفانتاستيكي مـوازاةً دَلاليةً تامّةً صار فيها عنوان كتاب تودوروف معرّبًا كما يلي «مدخل إلى أدب اللامعقول». وإذا كان شعيب حليفي قد حافظ على مصطلح «الفانتاستيك» في كتابه «شعرية الرواية الفانتاستيكية» وكَتَبَه بأصله الغربيّ، فإن سناء كامل الشعلان قد فصلت بين العجائبيّ والغرائبيّ في كتابها «السرد الغرائبي والعجائبي في الرواية والقصة القصيرة في الأردن (1970 ـ 2004)». كما نُلفي الباحث منير الحافظ في كتابه «المعيار الجمالي في فنّ اللامعقول» يُسمّي اللامعقول «مذهبًا»، ثم يعود ويُسمّيه «منهجًا»، دون وعيٍ منه بما لمثل هذه الألفاظ من اختلافاتٍ في الدَّلالةِ كبيرةٍ يصعب معها أن تجتمع بسهولة في مصطلحٍ واحدٍ دون أن تُشظّيه. وصورةُ ذلك إقرارُه بأنه قد تبيّن «من خلال البحث في المسائل والقضايا الأعمّ التي يتناولها مذهب اللامعقول أنّه يشمل في رؤاه أو معالجاته أهمّ القضايا الكونية الناجمة عن مختلف أشكال النشاط الإبداعي الإنساني». وبعد الإقرار بمذهب اللامعقول، يعود هذا الباحث إلى تأكيد أنّه يرى «في منهج اللامعقول تفسيراً منطقياً يتبدّى في أنّ الروح هي الوعي بما هو كائن»، وهو إقرار يزيد إلى وساعةِ مفهوم اللامعقول وساعةَ مفاهيم الوعي والروح والكينونة.

2- دوائر اللامعقول
أَوْقفنا بَحْثُنا في المراجع والدراسات التي أمكنَنا الاطلاعُ عليها على ما يزيد على اثنتيْ عَشْرةَ عبارةً تُضارِعُ اللاّمعقول. من هذه العبارات عباراتٌ تُفيدُ النفيَ أو التجاوزَ، حيث تتضمّن الواحدة منها في جزئها الأوّل إمّا حرف النفي «لا» وإمّا «ما لا» أو أحدَ الظرفَيْن « فوق» و«ما وراء»، وتتضمّن في جزئها الثاني لفظةً دالّة على الممكن والطبيعيّ والمنطقيّ والمألوف والمعقول. ومنها عباراتٌ حافظت على اللفظِ الأجنبيّ مثل «الفانتاستيكي». ومن تلك العبارات نذكر العبثيّ واللامنطقي واللاواقعي والاستثنائي والفوق إدراكي والفوق طبيعي والخارق والعجائبيّ والغرائبي والفانتاستيكي والمُحيِّر والمُحالُ.
وما نلاحظه من أمر هذه المرادفات، هو أنّها تختلف فيما بينها مرّةً لتأتلِفَ مرّاتٍ كثيرةً أخرى، بحيث يتضمّن تعريفُ بعضِها ذِكْراً لما جاء بتعريف البعض الآخر، وهو ما خلق منها دوائر دلالية متقاطعة. وإنّ تدبيرَ هذا التضمُّنِ الحاكِمِ لدلالات هذه المرادفاتِ هو ما سيكون سبيلَنا إلى جمعِ شتاتها في مدوّنتنا النقدية العربية، وسيمنحنا الجرأة على أن نقترح في شأنها حَدًّا قد يكون، من وجهة نظرنا الراهنة، جامِعًا لها ومانعًا لتنامي فوضى استعمالها.

3- مُحاولةٌ في الحَدِّ
أمام إقرارِ الباحثين بوجودِ ظواهرَ لامعقولةٍ في مُتونِ ثقافتنا العربية، وتنامي فوضى المصطلحات المتصلة بها، تَخَيَّرَت الدراسةُ لفظةَ «اللاّمعقول» مصطلحاً يُسمّي تلك الظواهر، بفضلِ مَا لهذه اللفظة من قدرةٍ على استيعابِ كلّ ما يخرُجُ عن منطِقِ النّاس ومعقولاتهم، وذلك لإيمانها بأنّ اللامعقولَ لا يوجد في ذاته وبذاته، وإنّما هو يتشكلُّ عندما يُعلِنُ العقلُ عن عجزِه إزاءَ تفسير ظاهرةٍ من ظواهر العالَم، ومن ثَمَّ تبلغُ حدودُ اللامعقول اللغويّةُ والفلسفيةُ محلَّ الصِّفةِ لكلِّ هيئةٍ أو حدثٍ غامضٍ ومستَغْلِقٍ على معناه، يكتنفه الوهمُ من كلّ جهاته، فلا يترتّب عليه غرضُه أبدًا، كما لا يستطيع العقلُ الإحاطةَ به والبرهنةَ عليه، لأنه خارجٌ عن ثنائية الصدق والكذب والفِطْرة السليمة. ولئن كان اللاّمعقول يُصرّ في بعض تجلّياته على محاكاة ظواهر الواقع، فإنّه لا يُعبّر عن شيءٍ منها حقيقيٍّ من جهة كونه يظلّ في تشكّله، مُعْجِزةً كان أو كرامةً أو تصوّفاً أو مردّةً أو أطيافاً، مُخالِفاً دوماً لمنطق الطبيعة. لا بل إنَّ جانبَ المتخيَّل فيه يخترق واقعَ الأشياء والكائنات ويُعيد تشكيلها في هيئات جديدة تغمر فهمَنا لها بالحيرةِ والتردُّدِ والاضطرابِ. وإنّ ما تقدّم من أمر اشتراكِ دَلالاتِ تلك المصطلحات في مُخالفة منطِقِ الطبيعةِ والعقل هو ما نَمَّى ميلَنا إلى تسميتها جميعا باللاّمعقول، وذلك لكون اللاّمعقول يمثّل ملتقى (carrefour) دَلاليًّا تتقاطع فيه باقي المصطلحات، ويرقى إلى مرتبة «المفهوم الجمع» الذي يتوفّر على بنيةٍ دَلاليةٍ تنهض على دعامةِ مُقوّمات مرجعيّةٍ وشكليةٍ ومضمونيةٍ سنحاول تبيّنَها في الآتي من عملنا.
وبالتلخيص نقول إنّ اللامعقول نمطٌ من التفكير واتجاه في الفنّ والكتابة لم تخلُ منه ثقافة من ثقافات الشعوب قديمةً كانت أو مُعاصرةً، وهو مفهومٌ تصنيفيّ يُكوّن، متى تحقَّقَ في النصوص، جهازاً تنظيميّاً يحكم مجموعةً من المفاهيمِ ويُظَلِّلُها بظِلالِه الإيحائيّةِ، خالقاً في ذِهْنِ المتلقّي إرباكاً لمنظومة العالَم المعقول، عبر جُنوحِه إلى الخروج عن المُتعارَفِ عليه من أشراط السلوك الاجتماعيّ والأخلاقيّ والثقافيّ بين أفرادِ مجموعةٍ بشريّةٍ مَّا، ومن كيفيّةِ نظرتهم إلى حالِ الأفْضِيةِ المكانية والزمانيّة وهيئات الكائنات والأشياء ووظائفِها عندَهم. ذلك أنّ تلك الأشياءَ والكائناتِ لا تكون في اللاّمعقول إلاّ عجيبةً غريبةً، فيها من المُحالِ والخارق ما به تخترق قوانين العقلِ ومنطِقه حالاً وأفعالاً وأقوالاً، حيث تنشأ بينها علاقاتٌ غيرُ معهودةٍ لا تخضعُ لمبادئِ الفِطْرة السليمة المألوفة، ولا تلتزمُ بمبدأ الهُويّة، لا بل هي تُشوِّش تلك العلاقاتِ لتؤسّسَ منطِقًا فنّياً جديداً يحكُم حضورَ تلك الأشياء والكائنات وَفْقَ نِظاميّةٍ في التشكُّلِ فريدةٍ وبليغةٍ. ويبدو أنّ بلاغةَ هذا المَنْطِقِ الفنيِّ وتحرُّرَه من بلاغةِ المَنْطِقِ العقليِّ هما اللَّذان أَكْسَبَا اللاّمعقولَ صفةَ التقنيةِ السرديةِ الناجعةِ التي مالَ إليها نفرٌ من الروائيّين العربِ يستعملونَها جِسْرًا للعبورِ من توصيفِ الواقعِ المرْجعِ إلى توصيفِ الواقعِ المتخيَّلِ عبر ما يُبيح لهم استعمالُها ذاكَ من حُريّةٍ في صَوغِ شكلِ المعنى ومادّتِه.