شاكر نوري
بعد أن فازت توني موريسون بجائزة نوبل للآداب عام 1993، التقيت بها في باريس وأجريت معها حواراً في مكتبة «شجرة الأدب» الواقعة في شارع فوبورغ سانت أنطوان في الدائرة الثانية عشرة من باريس، بمناسبة ترجمة روايتها «الفردوس» إلى اللغة الفرنسية. ولعل أهم ما قالته لي إنها لم تطلع على الرواية العربية سوى على أعمال نجيب محفوظ بترجمتها الإنجليزية، الذي تعتبره المبدع الذي «أخرج لنا أحشاء الحارة المصرية، ووضعها على طاولة التشريح، إنه كاتب في غاية الأهمية لأنه يشتغل على المساحات المظلمة من وعينا». ولا تزال نظراتها الذكية شاخصة أمامي وهي ترحل عن عالمنا هذه الأيام عن عمر الـ 88 عاماً.
على مدى أكثر من ستة عقود، ألفت الروائية الراحلة توني موريسون 11 كتاباً، 5 منها للأطفال، ومسرحيتان، وأغانٍ وأوبرا. وعملت كناشرة وأستاذة جامعية، ودربّت أجيالاً شابة من الكتّاب والروائيين. وعاشت في الظل سنوات طويلة إلى أن أضاءت جائزة نوبل للآداب وميدالية القلم وجائزة سول بيلو للإنجاز الروائي وجائزة بوليتزر، طريق شهرتها.
وبعد مرور خمسة أعوام على فوزها بجائزة نوبل، تعود الكاتبة الأميركية السوداء بقوة إلى الساحة الأدبية بصدور روايتها الجديدة «الفردوس»، وهي تشكّل ثلاثية مع روايتيها الأخيرتين «محبوبة» و«جاز» وهي، أي رواية «الفردوس» من أقوى الروايات التي كُتبت حول قضية العبودية، بينما اتخذت رواية «جاز» من حي هارلم في العشرينيات مسرحاً لأحداثها، وإذا عدنا إلى روايتها «الفردوس» نرى أن أحداثها تجري في مدينة «روبي»، وهي مدينة صغيرة يبلغ عدد سكانها 630 نسمة ضائعين في سهول أوكلاهوما، ويتكوّن معظم سكانها من السود، إذ إنهم وصلوا إليها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما قررت مجموعة صغيرة من العائلات ترك منطقتهم «هيفن» التي أسسها العبيد الذين هربوا في نهاية القرن إثر تهديد البيض لحياتهم، وبعيداً عن كل شيء كانت عائلات الزنوج في مدينة «روبي» تحلم بالانفصال عن بقية العالم، لكن قُدّر لأحلام هذه العائلات الفشل، ذلك لأن النمو والازدهار والتوسع حمل في طياته بذور الظلم والفوارق الطبقية، حيث تحوّل الرواد إلى أصحاب بنوك أو ملاك أراضٍ، وأبادت حرب فيتنام أبناءهم، ومن تبقى منهم عاش آلام سنوات الستينيات· وتتكشف لنا عند قراءة هذه الرواية أن توني موريسون كتبت أسطورة محكمة حول التعصب، وربما ما يميّز رواياتها أنها لا تتطرق إلى هوية شخصياتها العرقية، لذلك فهي حريصة على ألا تظهر أية إشارة في لغتهم تمت بصلة إلى مسألة لون بشرتهم.
وهناك صراع في روايات موريسون، خاصة بين «محبوبة» و«جاز»، وهذا الصراع ليس بين البيض والسود، بل على العكس بين السود أنفسهم. وفي روايتها الشهيرة «الفردوس» هناك صراع بين ذوي البشرة السوداء وبين ذوي البشرة الأكثر سواداً. وهكذا يعتقد أبناء مدينة روبي أنهم عثروا على الفردوس بعيداً عن البيض، لكن هذا الفردوس ولد صراعاً آخر، وتحول إلى عزلة.
ومن المعروف أن موريسون دخلت عالم الأدب متأخراً، أي بعد عمر الأربعين بكتابة روايتها الأولى «العين الأكثر زرقة» لأنها انشغلت بعمل النشر والتدريس. وعلى الرغم من أنها نشرت كتباً عن أنجيلا ديفيس ومالكوم إكس دون أن تكون مناضلة سياسية، لكنها حاولت التعبير عن غليان سنوات الستينيات. ولم تلق رواياتها الشهرة اللازمة؛ إذ بيعت من روايتها الأولى «العين الأكثر زرقة» 700 نسخة، لكن روايتها «الفردوس» والتي توجتها لجائزة نوبل باعت منها أكثر من 700 ألف نسخة.
حافظة للقصص المهمشة
روايات موريسون أشعلت المباهج والأحزان في نفوس الأميركيين السود. وتعتبر موريسون حافظة للقصص المهمشة، من خلال طرح شخصيات عميقة، ونظرة متفهمة للتاريخ والانعطافات في التاريخ الأميركي. وقد أضافت جذورها الأفريقية السوداء بعداً آخر للأدب الأميركي، وأثرت في جيل من الكتّاب والروائيين. في عام 2003 قالت لمجلة نيويوركر الشهيرة: «ما كان يدفعني للكتابة هو الصمت لأن هناك كثيراً من القصص المختفية التي لا تُروى ولا يُلقى عليها الضوء الكافي».
وقد استوحت رواياتها من حياتها الخاصة التي أثرت على إبداعها. فقد عانى والداها من العنصرية، وظلت تحتفظ بتلك الصورة الحزينة وهي في الثانية من عمرها، كيف أضرمت النار في الشقة التي كانوا يسكنونها لأن عائلتها لم تتمكن من دفع الإيجار. وهكذا بدأت الرواية من تلك النقطة الملتهبة. وبدأت القصص تترى الواحدة تلو الأخرى من لهيب لاوعيها.
للكتابة جذور في طفولتها، وهي تصغي لأبيها ولأمها وهما يرويان لها قصص العبيد وما يعانيه الأميركيون الأفارقة من اضطهاد وتعذيب وظلم. وكذلك ما كانت ترويه جدتها، التي كانت تعيش معهم في كنف العائلة. «كانت جدتي تروي لنا القصص من أجل أن تجعلنا نعمل في مهمات عسيرة»، كما كتبت موريسون عن جدتها في مقدمة كتابها «طفل القطران». وتضيف: «كانت بسرد قصصها، تسعى لإسعادنا وإخراج الهموم من رؤوسنا».
وكانت موريسون منذ صباها قارئة نهمة، تلتهم قراءة روايات جين أوسن وريتشارد رايت ومارك توني وآخرين. وفي مدرستها الثانوية، كمراهقة، راحت تناقش أساتذتها وزملائها، ولكي تكمل دراستها كانت تعمل في تنظيف بيوت البيض، ومن ثم انتقلت إلى العمل في مكتبة لوريان العامة. وعندما التحقت بجامعة هاورد، اضطر والدها إلى العمل الإضافي من أجل دفع الرسوم الجامعية. وبعد تخرجها في عام 1953 أكملت الماجستير في اللغة الإنجليزية، وكتب أطروحتها عن وليم فولكنر وفيرجينيا وولف.. ومنذ تخرجها التحقت بالتعليم في جامعة تكساس. وهناك التقت بهارولد موريسون، وهو مهندس معماري جامايكي، وتزوجت منه في 1958، وأنجبت منه فورد وسلاد قبل الطلاق منه في 1964. وبعد طلاقها انطلقت في عالم كتابة الرواية. نشرت روايتها الأولى «العين الأكثر زرقةً»، وعالجت فيها موضوع فتاة تقع ضحية هوس الولع بمعايير جمال البيض، وكانت تدعو في صلواتها أن يحول لون عينيها إلى الأزرق. «كنتُ أريد أن أقرأ هذا الكتاب لأن لا أحد كتب مثله، لذا فكرتُ بأنني سأكتب هذه الرواية من أجل قراءتها».. كما صرحت إلى صحيفة «الجارديان» في 2015.
أرادت أن تكتب رواية بعيدة عن نظرة البيض، لأن كتاباً شهيرين سبقوها إلى ذلك الطرح أمثال رالف ايليسون وفريدريك دوغلاس: «لقد أمضيت حياتي كاملة لأتأكد من أن نظرة البيض ليست العنصر المهيمن على أي رواية من رواياتي». قالت ذلك في فيلم وثائقي عنها بعنوان «توني موريسون: الأجزاء التي تكونني».. لكن روايتها الأولى لم تحدث الضجة اللازمة، رغم أن مجلة نيويورك تايمز كتبت عنها بصورة إيجابية، وأطلقت عليها «الكاتبة التي تمزج بين القدرة والرقة». ولكي تجني الأموال لتربية ولديها عملت في دار راندوم الشهيرة كمحررة، وقد شجعت الكتّاب السود لنشر أعمالهم من أمثال جايل جونز وأنجيلا دافيس. وقد كتبت حينها: «إن الطريقة التي يكتب بها المؤلفون السود أو يتحدثون بها تختلف كثيراً عن المعايير النحوية واللغوية الثابتة لأنهم يلجأون إلى التلاعب بالاستعارات والتعابير الرمزية».. كما قالت في مقابلة أجراها معها بيللي ماككي في 1994.
في عام 1974، نشرت «الكتاب الأسود»، وهو عبارة عن أنطولوجيا للحياة الأفريقية الأميركية والتاريخ لفهم أنثروبولوجيا السود وثقافتهم؟ وهي رواية عن قصة عبدة هاربة قتلت طفلتها، ويلقي مستعبدوها القبض عليها، وتصدرت هذه الرواية على رأس قائمة أفضل المبيعات لـ 25 أسبوعاً، ودخلت في المناهج الدراسية. «شعرت بأنني أعبّر عن عالم النساء بكل عناصره الذي كان إما أن يكون صامتاً، أو لم يحصل على رخصة النشر بسبب المؤسسات المهيمنة». كما صرحت لمجلة «التايمس» في 1994.
«الكنز الوطني»
بما أن موريسون كانت تعمل في وظيفتين وتربي طفلين، لذا كانت تقتنص الوقت من أجل الكتابة في أوقات فراغها، حتى أنها كانت أحياناً تضع دفترها على مقود السيارة وتكتب أثناء ازدحام المرور والطريق، أي أنها كانت تستفيد من أية فرصة للكتابة، كما لو أنها تسرق الوقت. وهكذا ونشرت روايتين في السبعينيات «سولا» 1973 التي تعالج فيها جيران سود من أوهايو من خلال عيون أفضل الأصدقاء، ورواية «أغنية سليمان»1977، وهي ملحمة تغطي عقوداً في حياة رجل أسود. روايتها«محبوبة» نشرت في 1987، وهي رواية استندت على قصة حقيقية.
وبعد أن حصلت على جائزة النقد الوطني، كرست حياتها للكتابة وفي 1981، نشرت روايتها الرابعة «طفل القطران»، وكانت أول امرأة تظهر على غلاف مجلة نيوزويك منذ ظهور زورا نيلا هارتسون في 1954. وكما قالت موريسون: «الكتابة تحررني من الألم، إذ في الكتابة لا أحد يقول لي ماذا أفعل، ويصبح خيالي أكثر خصوبةً ونضارةً وأجد نفسي في أفضل حالاتي حقاً. عندما أكتب لا شيء يؤثر علي في هذا العالم، لا همومي، ولا آلام جسدي، ولا أي شيء آخر».
وبعد أن تبوأت موريسون مركزاً مرموقاً، أخذت روايتها لمحتواها الجريء، يثير المخاوف والشكوك، من خلال معالجتها لموضوعي العنف والجنس، لذلك تم رفع كتبها من المنهاج الدراسي، وحُجبت روايتها «الفردوس» من قراءة سجون تكساس، خشية أن تحدث الاضطرابات والتمرد. «أثبت التاريخ على الدوام بأن الكتب كانت الساحة الأولى التي تقوم عليها الحروب»، كما قالت في الفيلم الوثائقي عنها. وقد ساعد برنامج «أوبرا» في شهرة رواياتها بعد دخولها إلى نادي الكتاب، واستوحت فيلماً من روايتها «محبوبة».«من المستحيل أن نتخيّل الأدب الأميركي من دون توني موريسون»، كما قالت وينفري.
ومع النجاح رافقت التراجيديا حياتها. فقد احترق بيتها في روكلاند كاونتي في 1993 كما حصل لبطلتها إيفا في روايتها «سولا». وتوفيت والدتها في أقل من عام على ذلك الحادث. وفي 1998 ظهرت موريسون على غلاف مجلة التايم، وتحدثت في حوارها عن روايتها «الفردوس» عن جذورها «لم يتوقع عالم السود الكثير من تلك الفتاة الصغيرة السوداء، لكن أبي وأمي توقعا الكثير مما ستنجزه ابنتهما».
وبعد ذلك أصدرت أربع روايات، وبدأت التدريس في جامعة برنستون حتى تقاعدها في 2006. وفي عام 2008، قامت بأول عمل سياسي وهو تأييد انتخاب باراك أوباما، رئيساً للولايات المتحدة. وقد منحها ميدالية الرئاسة للحرية. وقال فيها: «أتذكر وأنا أقرأ رواية ـــ أغنية سليمان ـــ عندما كنتُ صغيراً، لم أكن أتصور كيف يمكن لي أن أكتب، بل حتى كيف أفكر». هكذا قال أوباما وهو يقلدها الميدالية التشريفية. وأضاف: «إن نثر موريسون خلق لنا نوعاً من الروح المعنوية والعاطفية التي لم يحققها سوى القليل من الكتّاب في عالمنا». وبعد رحيلها وصفها أوباما في تغريدة له في تويتر بـ«الكنز الوطني».