المسرح.. «ذهب إفرنجي» لم يحسن العرب سبْكَهُ
كان من الخطأ ربط الهوية العربية بمحاباة أذواق الجمهور بشكل دائم وبالتالي بطبيعة الفن المسرحي، الذي أصبح ينطلق من الجمهور، وليس النظرية أو التقليد المرتبط بالفن! ومقولة الرائد الأول مارون النقاش في خطبة تقديمه لأول نص مسرحي عربي، تؤكد ذلك “فهو يقدم ذهباً افرنجياً مسبوكاً عربياً”. هذه الروح من المحاباة لمزاج المتلقي العربي، وضعت اللبنة الأولى لتقاليد جامدة استمرت حتى يومنا هذا.
إذا كنا نتلمس العذر للرائد مارون النقاش لأسباب عديدة منها الريادة وروح العصر، ربما لا يمكننا غض البصر عن المقولة النفعية الخطيرة “الجمهور عايز كده”، لأنها تعبر وفي زمننا المعاصر عن ترجمة هدامة لهذا المزاج!، فهي مقولة المسرح الاستهلاكي الآلية، التي ترعرعت في أجواء من تضاؤل الروح القومية العربية ومفاهيمها الثقافية، وابتعاد الشارع في البلاد العربية عن الأثر الدائم للروح العربية، كانت الفرصة قوية ومواتية، لانعكاس هذه المفاهيم وخاصة من خلال وسائل الإعلام ومن أهمها لتلفزيون الذي كرَّس هذا المفهوم، وما زال، وذلك بتقديمه للمسرح كنوع للترفيه، واختياره نماذج تنتمي إلى الكوميديا الهابطة، بدعوى أن “الجمهور يريد ذلك”، وتجاهله لأنواع المسرح الأخرى التي تتكدس على أرفف مكتباته الأرشيفية! بل إن التلفزيون مثلاً قام بنقل واقع المسرح الترفيهي الجديد إلى البيت الكويتي مثلاً، وذلك بتقديم مسرحيات كوميدية حية داخل استوديوهاته، وتسجيلها وعرضها من وقت إلى آخر، كذلك ساهمت محال بيع وتأجير أشرطة الفيديو بشكل جنوني وهدّام في تخريب ذوق وثقافة أفراد المجتمع، فتكريسها للثقافة الترفيهية الهابطة، وما ينتمي لها من أعمال المسرحيات الكوميدية العربية، والتي تداولها الجمهور بشتى طبقاته في بيوتهم، وبين أولادهم وأقاربهم وضيوفهم وربما حتى خدمهم!.
لقد كان وما زال هناك أثر بالغ على مدخلات ثقافة الفرد، ليس فقط كونها تمنحهم الترفيه والضحك الوقتي، ولكن أيضاً أثرت في مفرداتهم اللغوية اليومية، وانحدرت بها إلى تركيبات لغوية غريبة عن روحهم العربية ذات الأصول العربية، مما حدا بالمسرح الكوميدي، إلى المبالغة في توظيف ذلك، بهدف الإضحاك الوقتي أولاً، والاعتماد عليها لجذب أعداد كبيرة من (جمهور الشباب) إلى غيبوبة المسرح الاستهلاكي الكوميدي، ولم يقتصر تأثير رسائل الإعلام في خلق ثقافة الصوت والصورة على التلفزيون والفيديو، بل تعدها إلى المؤثر الأكبر وهي السينما، التي برزت في السنوات الأخيرة، كواحد من أهم العوامل المنافسة للمسرح وفي الأثر الثقافي على الجمهور، إضافة بالطبع إلى الأثر الواسع لثقافة الإنترنت، ووسائل الترفيه والاتصال الحديثة.
الموسمية
من التقاليد السلبية التي ساهمت بتدمير الواقع المسرحي في أغلب بلاد الوطن العربي، الموسمية (وقوع الفن المسرحي في تقاليد فنون المناسبات) وربما يرجع ذلك إلى عدم وجود الموسم المسرحي المستمر والدائم، الذي تقدم الفرق المسرحية فيه عروضاً للجمهور بشكل يتحول إلى تقليد دائم ضمن منظومة النشاط الثقافي والفني.. وربما يكون السبب أن المسرح لم يعد مرفقاً ثقافياً وفنياً مقبولاً وجوده في المجتمع بشكل دائم ومنتظم طوال العام، أسوة بالمرافق الحياتية وحتى الفنية الدائمة مثل السينما، كما ساهم تحول الشارع إلى خليط بعيد عن الروح والهموم العربية المشتركة، إلى إحداث خلل في طبيعة تلقي الخطاب الثقافي والتجاوب معه.
يبدو ضرورة وجود استراتيجيات دائمة تشرف عليها الدولة تخطط للفن المسرحي، ضمن تصور دائم لخلق الجهود والمحاولات الإيجابية لإنعاش الحركة المسرحية، من خلال إنشاء مهرجان سنوي للمسرح المحلي، وإدخال العروض المحلية والزائرة ضمن أنشطة مهرجان مستمرة طوال العام، وتقديم الأنشطة الثقافية التي تتضمن عروضاً محلية يقدمها الفنانون الشباب، كجزء أساسي من أي مخطط جذري للمسرح، إضافة إلى وجود المشروعات القومية للفن المسرحي، مثلما وجد في مصر ودولة الكويت خلال ستينيات القرن الماضي، الذي ما زالت معالمه النظرية الداعمة قائمة مثل سلسلة من المسرح العالمي وعالم الفكر ومجلة العربي في دولة الكويت، مع وجود التواصل الدائم والتبني الرسمي للتجارب المسرحية العربية بشكل شمولي، وإنشاء الفرق القومية والوطنية للمسرح كمرفق مسرحي دائم، وكبديل وقتي لغياب العروض المسرحية الموسمية الدائمة والتوسع في بناء دور المسرح، وخاصة في المناطق البعيدة عن العاصمة المركزية للدولة، ضرورة إدخال هذه الاستراتيجيات المسرحية في صميم عمل الوزارات المعنية بالفنون والآداب، وتعميمها على لقاءات المجالس العربية، التي تقدم توصيات ملزمة لجميع الدول التي تقوم بتنفيذها أسوة بالاتفاقيات العربية المشتركة.
سيطرة فكرة المخرج التشكيلية على الكتابة والعرض وإلغاء أهمية المؤلف وبالتالي النص المسرحي، أدّى على مدى طويل إلى تراجع الكتابة بسبب وجود الهوة بين الكتاب والمخرجين (المبدعين) الذين يفضلون تفصيل النص حسب توجهاتهم الإخراجية التشكيلية، وهو ما يمثل إلغاء لفكر وشخصية المؤلف، ومع وجود إيحاء بأن المؤلف المسرحي لم تعد هناك ضرورة لوجوده الآن، وخاصة في بعض المحاولات العربية التي طغى فيها الجانب الراقص مع صمت مطبق يشمل النص بأكمله - الذي يستبدل عادة بالموسيقى المرافقة لحركات الراقصين - وتصل فيه الدلالات إلى مرحلة من الغموض بسبب الربط غير المبرر فنياً بين جسد الراقص (ولا أقول الممثل)، وتلك الدلالات، وفي عالمنا أصبح هذا مدخلاً مشروعاً وسهلاً للقائمين على الفن الراقص، وإحلالهم مكان مبدعي المسرح الذين يوظفون جسد الممثل كأداة تحمل لغة مسرحية أخرى عدا اللغات المنطوقة التي يخلقها المؤلف المسرحي!. والحقيقة أن ما حدث لم يكن أكثر من تبادل للأدوار بعد ظهور مسميات جديدة في الحقل المسرحي (خاصة بعد ثورة الفن التي أعلنها الفرد جاري عام 1896)، وهي مسميات وألقاب ذات صبغة وظيفية خالصة، مثل المخرج المؤلف، والمنظر المؤلف، ونص العرض بدلاً من نص الأدب المسرحي.
هذا الواقع المسرحي الجديد أثار جدلاً إيجابياً وطرح العديد من الأسئلة حول طبيعة الكاتب والكتابة للمسرح، واتضح أن المشكلة ليست في وجود الكاتب، ولكن في طبيعة ما يكتبه ومدى مطابقته للواقع المسرحي المتطور، الذي يتأثر بكل تلك العوامل، المتحكمة في جمهور يعيش ضمن عالم معاصر، تحول بفعل الإعلام إلى قرية كبيرة، وتقنياً أصبحت تتحكم فيه فنية الآلة، ومن الناحية الإنسانية فقد عزل هذا الإنسان المعاصر نفسه عن الكتاب، وفر إلى عوالم المشاهدات السهلة ومقاهي الإنترنت.
المثلث العتيد وكيان المسرح
إذن لن يكون مسرح دون وجود أدبه الخاص وهويته المميزة، وهما مرتبطان أولاً بالمؤلف المعاصر ورجل المسرح الحقيقي، المتصل جذرياً بالمخرج المبدع والجمهور الراقي، الذي يفهم دور المسرح ويقدر مكانته وأهميته. وهذا ما يمكن تسميته بالمثلث العتيد، الذي يتكون من النص والممثل (العرض) والجمهور، ولكل من هذه العناصر الثلاثة دور أساسي في خلق وتطوير وتلقي العملية المسرحية، أما موضوع التخوف من طغيان عنصر منها على آخر، فإنه بالضرورة خاضع لمؤثرات تختلف من ناحية طبيعة البيئة، في نواحيها الأدبية والفنية، وانعكاسات توجهات العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مجتمع ما عن الآخر، ومع ذلك فإن دور كل من هذه العناصر الثلاثة الأساسية (المؤلف والمخرج والجمهور) يظل قائماً، وله طبيعته الخاصة، المرتبطة بدوره في مجمل العملية المسرحية.
دور الحكومة ومؤسساتها
بدأ هذا المسرح يتجاوز الشكل التقليدي لفكرة الستارة، وحدود حائط البروسينيوم “إطار المسرح”، كما أصبح هناك ميل واضح لاستعمال الديكور التجريدي الحديث، بدلاً من الديكور المبني المجسم، كما أصبحت أساليب التمثيل تتجه إلى الأداء الحديث، البعيد عن المدارس الصوتية وأساليب الالقاء الرومانسي، غير المبرر فنياً وإنسانياً، كما تنوعت المدارس الفنية، من خلال العروض المسرحية، فوظف أسلوب مسرح بريخت الملحمي، وطبقت عناصر نظريته في “التغريب المسرحي”.
ورأينا لمحات من مسرح الكباريه السياسي، ومسرح الجريدة ومسرح التراث القائم على أساليب الفرجة المسرحية، سواء المحلية أو العربية، كما أدخلت الوسائل الفنية الحديثة، على عناصر العرض المسرحي، وكمثال لفكرة التقارب الأدبي والفني، وبين هذا الزخم من التجارب الناضجة، والمحاولات الرائدة لأولئك الفنانين المسرحيين الذين ساروا بخط متواز لسنين طويلة، ظهرت مؤثرات الاتجاهات التجريبية الجديدة، وخاصة التي أسسها المسرح الطليعي، على المسرحيات، سواء العربية أو المحلية، وقد نتج عن هذا التأثر، نوع من التزاوج الحميم، بين أدب المسرح المتمثل في النص، وبين الجوانب التشكيلية والجمالية، التي ارتبطت بعناصر العرض المسرحي، وهذا المزاج الفني انعكاس طبيعي للروح الجدلية التي شهدتها أدبيات المسرح وندواته ومهرجاناته العربية الرسمية والخاصة، والتي أفردت فيها مساحات كبيرة لماهية العرض المسرحي، وعناصره التشكيلية والجمالية، ودلالاتها العامة والخاصة، ومدى ارتباطها بالمتلقي العربي.
وربما كانت هذه الجدليات المسرحية الفنية، هي التي أفرزت هذا التمازج بين أدب المسرح، وبين عناصر العرض المسرحي، وبالتالي، أطَّرت القيمة الفنية في المسرح، بربطها بالأثر الذي يتركه العرض المسرحي، على المتلقي العربي. هذه النتيجة المؤسسة على التنظيرات الطليعية في المسرح الأوروبي، أفرزت نوعاً من التمرد على أدب المسرح ذي المنطلقات التقليدية، مما فرض بدوره تغيراً أساسياً في أسلوب كتابة النص المسرحي، الذي حمل بين طياته العديد من الإرهاصات الواضحة، ببعده التشكيلي المرتبط جدلياً بقوة مع القضية الرئيسية في المسرحية، والملزم لمبدع العرض بشكل صارخ.
المسرح النوعي
ويعني الاهتمام بدور المسرح النوعي بشتى أنواعه وأنشطته، وخاصة المسرح المدرسي الذي يهتم بالتأسيس الجيد لفناني وجمهور المستقبل، ومشاركته الفاعلة والدائمة، في أنشطة المسرح داخل وخارج نطاق المدرسة. وتنمية مواهب المتعلمين وقدراتهم في مجال المسرح، والتوعية بمشكلات المجتمع والمساهمة في اقتراح حلول لها، وتنمية حاسة التذوق الفني والقدرة على التخيل والتعبير، وتنمية روح العمل في فريق واحد، وإتاحة الفرصة للمتعلم للانتفاع بأوقات الفراغ، وتنتمية فرق المسرح النوعي الأخرى إلى عدة جهات مثل الجامعات، ومسرح الشباب، وفرق معاهد الفنون المسرحية.
المسرح الخاص
وهو ينقسم إلى نوعين مختلفين، ويفترض أن يكونا متناقضين، هما مسرحيات الأطفال، والمسرح الشعبي الكوميدي، وتركيزنا على هذين النوعين بعمومية مقصودة، لما سيسببانه لاحقاً من تخريب متعمد، وغير مسؤول في المسرح الكويتي، ابتداء بمرحلة أواخر الثمانينيات، وخلال مرحلة التسعينيات، وإلى زمننا المعاصر، وإلى مدى لا يعلمه إلا الله!. والمسرح الخاص أو ما يسمى بالمسرح التجاري، يتضح من مسماه ما فيه من خصوصية في مكوناته الذاتية، واستقلاله عن الدعم الحكومي، وهو شكل جديد من النشاط الفني، أنتجته مرحلة منتصف السبعينيات، في سعيها للحد من بيروقراطية الوزارة وسيطرتها!، وهو شكل حديث، اعتبر من التجديدات المهمة في المسرح العربي، لاختصاصه بهذين النوعين، الفرق المسرحية الكوميدية الخاصة، وبدايات المسرحيات المنتجة خصيصاً للأطفال، وهما من الناحية العملية، مثلا بلا شك إنجازان بارزان آنذاك، دفعا بعملية تطوير مرافق المسرح وإغنائها، بما كان لهما من أثر بارز، في اتساع آفاق إمكانيات المنتوج المسرحي، وبالتالي تنوع قدرات فناني المسرح، وارتفاع دخولهم المادية، بسبب طبيعة الأجور المرتفعة التي تدفعها هذه الفرق الخاصة للفنانين العاملين معها!، إضافة إلى ما يمثله ذلك من فتح قنوات إنتاج جديدة مستقلة عن الدولة الراعية الأساسية للمسرح!.
مسرحيات الأطفال
لقد تعمدنا تسميته بمسرحيات الأطفال، وليس بمسرح الأطفال، فالجهد في إنشائه حدث خارج نطاق مشروع الدولة، إنه ببساطة يمثل امتداداً طبيعياً لمسرح موجود منذ الخمسينيات، وهو في أساسه وتقاليده أصلاً مسرح للكبار، ولذا فبداية مسرحيات الأطفال أيضاً تركت للصدفة، ولم تؤسس على فلسفة فنية، أو تقاليد ثابتة، أو تنظيرات، أو قواعد راسخة سابقة على هذه التجربة، وربما كان هذا هو السبب الرئيسي، في ما وصل إليه حال هذا النوع من المسرحيات في مراحل التسعينيات من تدن وازدياد انحطاطه خلال الألفية الجديدة، ومع ذلك فقد كان هناك تأثير واضح لبداية مسرحيات الأطفال في تنوع التجربة المسرحية، ربما يأتي أبرز هذه التأثيرات من خلال خلق جمهور جديد للمسرح، بتعويد الأطفال على الذهاب للمسرح خصيصاً لمشاهدة عروض مسرحية مخصصة لهم، كما اتضح هذا التأثير على طبيعة النص الذي أصبح يكتب خصيصاً للأطفال، وكذلك على طبيعة العرض المسرحي، ومجموعة الفنانين القائمين على إنتاج هذا النوع الخاص من المسرحيات، كما انعكس على إرساء خطاب مختلف في مستواه، عما كان سائداً في مسرح الكبار، وهو ما أثر بدوره على وظيفة مخرج العرض، وأسلوب الممثل الذي أصبح يخضع فنه لمستوى خطاب تحكمه قواعد حازمة، من ناحية الجوانب التربوية والأخلاقية ومفردات الحوار، وربما الدرس الأبرز في هذه التجارب الجديدة في مسرح الأطفال، هو الأثر الذي خلفه، بالاعتماد على كتاب عرب متخصصين في هذا النوع من المسرح. الذين أسست نصوصهم تقاليد الكتابة لمسرح الأطفال وسارعت في بلورة توجهاته، كما جذبت العديد من المخرجين البارزين للتعامل مع هذا القادم الجديد، كما شجعت بعض شعراء الأغاني على المساهمة في كتابة نصوص جديدة لهذا المسرح، وفرضت تسابقاً على شركات الإنتاج الخاص للدخول في هذه التجربة التجارية المربحة!.
المسرح الكوميدي الخاص
أول مميزات الكوميديا الشعبية هو اعتمادها على النقد الاجتماعي الواقعي واستخدامها اللغة العامية، وتفرعاتها الحياتية اليومية، من ناحية تطور النطق اللغوي العامي والدلالة!!. وإن كان هذا التكنيك، هو أكثر ما يقربها من ضمائر الجماهير الواسعة، فإن بناء حبكاتها البسيطة، واتكائها على جميع العناصر الشعبية، ابتداء من اللهجة، ومروراً بالمثل الشعبي، وانتهاء بمصطلحات الحديث اليومي، والتلاعب بألفاظه ودلالاته. إضافة - بالطبع - إلى الموروث الغني من تركيبات الكوميديا القديمة، وخاصة ما أسسه بلاوتوس الروماني، وموليير الفرنسي من تقاليد عريقة، إضافة إلى عناصر كوميديا ديلارتي المؤثرة. وكذلك من ناحية استعارتها لأنواع محددة من الكوميديا مثل كوميديا السلوك وكوميديا الأمزجة، وتجلياتهما في (تكنيكيات) الأخطاء غير المقصودة، وسوء الفهم، والتنكر، وما ينتج عنها جميعاً من مواقف كوميدية عظيمة، إضافة إلى الاعتماد على الشخصيات النمطية، الموجودة في التراث الإنساني، والمجتمع العربي أو المحلي المعاصر. وطبيعي أيضاً، أن سبب هبوط هذه الكوميديا الشعبية المحلية، ليس مرجعه فقط ما تحتويه من ألفاظ سوقية هابطة كما أوردنا، ولكن أيضاً (لتطويرها) أسس كوميديا (ديلارتي) وعصر النهضة من ركل ومطاردات، وسخرية من هيئة الإنسان وإعاقته!!. إضافة إلى الارتجال الوقتي غير المحدود، الذي أصبح سمة يتسابق عليها الممثلون، ولا تكاد تخلو منها مسرحية، من إنتاج القطاع الخاص أو ما أشرنا إليه (بالمسرح التجاري) أو الاستهلاكي في أي من عواصم الوطن العربي!!. وهذا الارتجال بالطبع - وإن عبر عن قدرة الممثل الكوميدي وسرعة بديهته وحضوره - إلا أنه يلقي دور المؤلف، الذي يفترض أن يكون صاحب الإبداع الأول، الذي بني عليه كل هذا الكيان الذي أصبح يموج حياة، وهو المسرحية أو العرض المسرحي!!.
ببساطة، في هذا النوع من المسرح الوقتي، لا يوجد ما نسميه بالأدب المسرحي، أو القيم الأدبية المتمثلة في النص المسرحي الرصين، كمضاد للقيم الجمالية أو الإخراجية، إنه ببساطة في غالبه يمثل موروثاً حياً لفن (الفودفيل) المصري القديم، وأقرب ما يكون إلى ما يشبه (السيناريو)، الذي يحدد الأدوار والخطوط العامة في المسرحية، والباقي من مدة العرض الطويل جداً، يبتدعها الممثلون كل حسب موهبته في الارتجال، والباقي يسد بالغناء والموسيقى، اللذين يكونان بدورهما - وفي الغالب - إبداعات أخرى، سابقة على هذا العرض، ولم تؤلف خصيصاً لهذه المسرحية!!.
إننا نحس أحياناً، بأن غالبية ما نشاهده في المسرح التجاري، هو أقرب إلى ما يمكن تسميته بعروض (النمر) الترفيهية في ملاهي ما بعد الحرب (في مصر مثلاً)، حيث يدخل كل فنان المنصة ويقدم (نمرته) في عروض تختلط فيها النكات، والآفيه، والمنولوجات والغناء الرخيص، والرقص الخليع، وهو ما يحبه الجمهور، الذي حضر أساساً ليقضي وقتاً ممتعاً، وينسى همومه، من خلال هذه اللذات الحسية، القاتلة لعقله وروحه، والتي تساهم في تغييب حضوره الإنساني الفعال!!. وإن كان الجانب الأدبي لا يراعى احترامه والالتزام به، فإن الأدهى هو إلغاء أهمية الإطار المادي للعرض المسرحي، أي تحويل العناصر الفنية المؤسسة لبلورة عملية الإخراج، والخالقة للإيهام الخاص بالجو المسرحي، وعناصر زمان العرض ومكانه ومزاجه النفسي، بحيث تحولت ديكورات أغلب العروض المسرحية إلى خلفيات جامدة ومسطحة، لا علاقة جدلية لها بالجانب الفني والفكري في العرض المسرحي، خاصة بعد صعود الممثل الكوميدي، وبروز دوره في الإضحاك ودغدغة العواطف القادمة أساساً للضحك الرخيص، ولذلك فإنه وفي بعض البلاد العربية والخليجية وعلى مدى العديد من المواسم، رأينا سيطرة الكوميديا الشعبية، وكادت تصبح النوع المسرحي الوحيد، في مجمل النشاط المسرحي العام.
وهو ما يشكل بالضرورة خللاً في التوازن النوعي لإنتاج المسرحيات، في القطاعين العام والخاص!، ولأن هذا المسرح الخاص يقوم بتمويل نفسه، ويعتمد على بيوعات شباك التذاكر، وبالتالي ما يريده الجمهور، فإنه لم يتوقف، ورصيده المالي والجماهيري في تزايد مستمر، ضمن انخفاض معدلات الثقافة وأزمتها الخانقة، وتراجع دور الجهات المعنية بتطويرها ودعمها!!. ومع قناعتنا بأهمية تعدد أنواع المسرح، ومشروعية وجود الكوميديا الشعبية إلا أن عدم إيجاد أنواع أخرى من المسرحيات، ضمن ما يسمى بالمسرح النوعي أو المسرح الموازي، ساهم بترسيخ العرف الخاطئ، بأنه لا ضرورة لأي نوع آخر من المسرحيات، فالمسرح مكان للتسلية فقط، وحبذا لو كانت من نوع الكوميديا الشعبية الهابطة، والتي يقاس مدى نجاحها الآن بمقدار ما فيها من نكات سمجة، وتعليقات ساقطة، وتلميحات لا أخلاقية لا تراعي جلال أهداف المسرح ومكانته، بل هدفها الأول والأخير هو الإضحاك وبأي ثمن!.. المهم أن يعيش الجمهور في غيبوبة الإضحاك الرخيص!!.. ويبدو أنه، وضمن حمى التسابق للسيطرة على جيوب الجمهور، برزت عدة فرق خاصة، أهَّلتها للتسيد في الساحة المسرحية، عدة عناصر منذ تراجع المشروع الثقافي العام الذي تبنته الدولة منذ الستينيات، وقدرتها المالية التي يشكو من عدمها مسرح القطاع العام، الممول من الدولة!!. والتسهيلات في حجز المسارح، واقتصار فناني كوميديا معينين، في التعامل معها منذ بدايات التجربة!.
التلفزيون والانتقائية
ولا أقول الإعلام، فالتلفزيون وسيلة لا تحتاج إلى كل ما يرافق عملية القراءة من مشاكل، إنه جهاز بصري مسموع، وضيف ثقيل على كل منزل، لقد مارس التلفزيون حديثاً دوراً رئيسياً في تخريب المسرح، وطبيعي أنني لا أقصد دوره الترفيهي العام، بل أقصد انتقائيته في اختيار نوعية محددة سلفاً من أنواع المسرحيات، وهي الكوميديا وخاصة العربية التي تنتمي إلى مسرح البوليفار الاستهلاكي، الذي يسخر غالبها من كل ما هو إنساني وثقافي وحضاري، ويعيدنا إلى فن الفودفيل (مسرح النمرة) والفرانكو أراب، وما يشبه فن (الآفية) المصري الكوميدي القديم، ثم عدم اكتفائه بهذا الأسلوب التخريبي المخيف، بل أكد هذا الاتجاه المخرب بعناد، عندما وافقت إدارة التلفزيون على نقل الأسس التي خربت المسرح وثقافته إلى التلفزيون، على شكل مسرحيات تلفزيونية لإحكام قبضتها على المسرح وعقل المشاهد وذوقه، الذي أوهم إعلامياً وأصبح يعتقد، أن هذا هو النوع الوحيد الموجود من المسرح!، وهذا تكرار طبيعي لنهج أسس في الستينيات، إضافة إلى السينما الحديثة، وميل الجيل الجديد إلى الوسائل المرئية السهلة، التي تعتمد على الإثارة والوسائل التقنية الحديثة، والتي لا تحتاج إلى قراءة وبحث وتفكير في حل الرموز والدلالات، كما هو الحال في المسرح الرصين، الذي ما زال يعتمد على كم من الجدية والفن. والسينما الحديثة في الحقيقة، لديها القدرة على التطور السريع والمنافسة، والتحول إلى جزء من منظومة متواصلة، تعتمد على إيصال الإثارة خاصة، من خلال فن بصري بارع، تبدأ من المأساة التي حجبت الناس عن المسرح وهي أجهزة الفيديو، التي أتاحت العزلة والاختلاء للمشاهد، في روح انتقائية لمستوى هابط من الأعمال الكوميدية، التي تمثل الأعمال الوحيدة المعروضة في المتاجر، وأكدت بالتالي مكانتها في العقل الباطن للمشاهد الحديث، بارتباطها بجميع أشكال الإثارة البصرية السهلة بما فيها ألعاب الفيديو!.
النقد المسرحي والصحافة الفنية
رافقت حركة النقد المسرحي المسرح العربي، منذ مرحلة بداياته الأولى، وخروج الأنشطة المسرحية إلى النوادي والجمعيات الأدبية، فقد ورد العديد من تلك المقالات النقدية في مجلات تلك الفترة مثل، مجلة الهلال المصرية، ومجلة البعث، والشعب وكاظمة التي كانت تصدر بالكويت في خمسينيات القرن الماضي، ولكن بعد إنشاء المسارح في العصر الحديث، انتظمت حركة النقد الذي انتقل كي يتحول إلى نقد صحفي، تتبنى الجرائد اليومية نشره بدلاً من المجلات، ويتولاه نقاد معروفون.
هذه الحركة النقدية استمرت بجهود هؤلاء الكتاب الرواد، ولكنها بدأت تتضاءل عندما تحولت استقلاليتهم إلى تبعية لأقسام الثقافة في الجرائد، واختلت مساحة الكتابة عن المسرح، لتتبدل مساحتها بأخبار النجمات وآخر صرعاتهن!، وربما يكون العذر لهم أنه في ظل ظروف المسرح المتهاوية، لا يوجد ما هو جدير بالكتابة عنه، خاصة إذا تذكرنا المبدأ الأساسي في عملية النقد، وهي أن النقد هو المرحلة التالية للعمل الفني، ومع ذلك، فما زال هناك دور بارز وإيجابي لبعض النقاد في الصحف، الذين ما زالوا يمارسون دوراً مهماً، في المحافظة على حركة النقد المسرحي. وإضافة إلى ذلك، فإن لكتب الثقافة المسرحية ونشر نصوص المسرح دوراً بارزاً قامت به بعض الدول العربية منذ الستينيات، مثل وزارات الثقافة والإعلام في مصر والكويت وسوريا والعراق، ودائرة الإعلام في إمارة الشارقة التي تبنت نشر كل ما يتعلق بالثقافة والفنون، وخاصة الفن المسرحي بشتى فروعه.