في عام 2008، شهدت الولايات المتحدة أزمة مالية حادة فجرتها فضيحة إفلاس شركتين كبيرتين للاستثمار العقاري هما فريدي ماك، وفاني ماي، وسرعان ما أفلست بنوك أميركية حسنة السمعة تورطت في تمويل مشروعات الشركتين، واضطرت الإدارة الديمقراطية آنذاك إلى التدخل بكل قوة لتحاشي حدوث متوالية مفزعة من الانهيارات في القطاعين المالي والمصرفي من أثر ما عرف حينها بفقاعة العقارات الأميركية، ويعني هذا المصطلح توافر عدد هائل من المنازل في السوق، وعجز أصحابها عن سداد الأقساط المستحقة عليها، فتتعثر الشركة العقارية المالكة، ويتبعها البنك الممول للنشاط.
وأرجع الخبراء تلك الأزمة لسياسات الحزب الديمقراطي يسارية الطابع التي قدمت تيسيرات غير مسبوقة للحصول على المساكن منها منح قروض ميسرة للراغبين من ذوي الدخول المتوسطة، وتقديم الدعم المالي لهم عند الضرورة.
ورغم متابعة العالم لأبعاد الأزمة وسبل مواجهتها لحظة بلحظة قبل 11 عاماً، يعود أعضاء بارزون في الحزب الديمقراطي من التواقين للفوز بترشيح الحزب لهم في انتخابات الرئاسة العام المقبل، إلى طرح المفاهيم ذاتها باعتبارها الطريق الأمثل لمواجهة الاختلالات الاجتماعية، خاصة في أوساط الأقليات الأميركية.
ولننظر إلى جانب من هذه الآراء المثالية، شديدة الخطورة. تطالب السناتور إليزابيث وارين، عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي بتخصيص نصف تريليون دولار على مدار 10 أعوام لأغراض بناء مساكن منخفضة التكاليف في إطار برامج خاصة مدعومة مالياً من الدولة، وتدعو خطتها المقترحة الحكومة الفيدرالية إلى تقديم منح مالية تسدد كمقدمات للمساكن لمن يشترون عقارات لأول مرة ويعيشون في أوساط اجتماعية عانت من التمييز العنصري في الماضي.
وتشتمل الخطة على إحياء العمل بتشريع يمنح الوكالات الفدرالية الأميركية الحق في الضغط على شركات الرهن العقاري لتخفيف حدة اشتراطاتها في الإقراض للتيسير على جماعات عرقية تعاني التهميش الاجتماعي.
وأما السناتور كوري بوكر، عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي، فيدعو إلى توسيع دور الحكومة الفدرالية في سوق إيجار المساكن، وتنص خطته على خفض أعباء السكن من خلال اعتمادات خاصة قابلة للاسترداد وتقدم للمستأجرين، فإذا ما كان المستفيد يسدد نسبة تتخطى 30% من إجمالي دخله لغرض إيجار السكن، فيصبح مؤهلاً بذلك لتلقي مساعدة مالية مناسبة من العم سام. ويرى بوكر أن فكرة الدعم قد نجحت فعلياً في تخفيض أعباء التعليم الجامعي على الطلاب، فلماذا لا تطبق في قطاع الإسكان؟
وتتبنى السناتور كمالا هاريس عضو مجلس الشيوخ الديمقراطية خطة طموحة لتمليك المساكن بتكلفة تقدر بنحو مائة مليار دولار، وتهدف الخطة إلى الحد من صور الظلم الاجتماعي الناجمة عن التمييز لدواعي الجنس والعرق داخل المجتمع الأميركي بتقديم السكن اللائق للأقليات، ويتلقى المستفيد من الخطة مبلغ 25 ألف دولار لمساعدته في تغطية مقدمات المسكن ودفعة التسلم.
وبغض النظر عن الأرقام الفلكية التي تتكلفها هذه الخطط، وما يستتبع ذلك بالضرورة من زيادات كبيرة في الضرائب لتوفير التمويل اللازم، فإن السؤال الأهم هو: هل يمكن أن تنجح أي منها عملياً؟ يسود اعتقاد في أوساط اليسار الأميركي (ومنه الديمقراطيون) بأن الدعم الحكومي وإعادة تنظيم القطاع الخاص سيؤديان إلى الحد من التفاوت الكبير في الدخول بين الأميركيين، إلا أن سجلات أزمة عام 2008 تثبت العكس، فقد تسببت التيسيرات الإدارية واسعة النطاق آنذاك في جانب لا بأس به من الأزمة نتيجة للتغاضي عن اشتراطات لا مناص منها، وضمانات قبل تقديم القروض للمستفيدين، ورغم هذا يصر الديمقراطيون على اتهام الشركات العقارية بالجشع البالغ ما فجر الأزمة، ناهيك عن صور التمييز المتعارف عليها ضد الأقليات!
من جهة أخرى، لا يشكل العثور على مسكن بسعر معقول مشكلة حقيقية في الولايات المتحدة باستثناء أماكن بعينها منها أريزونا، وفلوريدا، والشريط الساحلي من ولاية كاليفورنيا، وتطبق هذه الولايات اشتراطات بناء صارمة إرضاء لجماعات الدفاع عن البيئة. وبالتالي، تقل المساحات المطروحة للبناء فترتفع أسعارها، وتزيد تكلفة المساكن في نهاية المطاف.
كما تقلصت أعداد المستفيدين من نظام الرهن العقاري طويل الأجل ثابت القسط بصورة ملحوظة خلال الفقاعة العقارية السابقة، بينما زادت أعداد المستفيدين بالقروض ذات أسعار الفائدة المعومة بصورة ملحوظة. ومن ثم ارتفعت المخاطرة.
وختاماً، فإن تملك مسكن حلم يراود كثيرين بلا شك، ولكن لكل حلم تكلفته، ويتعين أن تضع أي إدارة أميركية هذه الحقيقة نصب عينيها قبل المخاطرة بانتهاج سياسات تؤدي إلى أزمة كفقاعة 2008.
بقلم: جيسون ل. رايلي