ثورة يوليو: أصداء الذكرى
في يوم من أيام عام 1966 كان ثلاثة صحفيين سودانيين قد التقوا بزكريا محيي الدين نائب الرئيس عبدالناصر، وكان الصحفيون السودانيون هم الذين بادروا بطلب الالتقاء به.
وقالوا لمدير مكتبه آنذاك: بداية إنهم لا يريدون لقاء السيد زكريا لإجراء حديث صحفي معه، وإنما يريدون بصفاتهم ومواقفهم السياسية أن يتحاوروا معه باعتبارهم أشقاء ومؤمنين بوحدة وادي النيل، ويطمحون أن يستمع إلى وجهة نظرهم ورؤيتهم المخلصة لسياسة مصر نحو السودان. كان هذا الموقف الذي ربما بدا آنذاك لمدير مكتب السيد النائب غريباً. وسأل مستغرباً (يعني أنتم مش عايزين مقابلة صحفية مهنية يعني عايزين اجتماع سياسي...)؟!
وقد كان... وتقبل محيي الدين وتفهم طلب "أشقائه" السودانيين، ودار الحديث أولاً - كالعادة - بشكاوى السودانيين المتكررة، التي تدور دائماً حول (عدم فهم إخواننا المصريين للسودان وللسودانيين والأسباب التي أضاعت الفرصة التاريخية لتحقيق وحدة وادي النيل)، وهذه المقولة السودانية أو قل "العقدة السودانية" ما تزال حتى يومنا هذا ويتوارثونها جيلاً بعد جيل.
وتحدث زكريا كما يتحدث الرجل المسؤول، وكان من بين ما قاله إن "الفرصة التاريخية" التي ضاعت ليست مسؤولية فرد أو جماعة، فالسودانيون قرروا أن يحققوا استقلالهم ومصر بكل رضا قبلت واحترمت قرار السودان.
وعندما يتأكد شعب السودان وشعب مصر أن الوحدة هي مصلحتهما وأنها ستحقق لهما طموحاتهما وآمالهما فسيفرض علينا وعلى المسؤولين في السودان الوحدة ...
ثم تحدث محيي الدين إلى أشقائه حديثاً مركزاً ومرتباً بشكل مدهش عن أحوال مصر الآن وكيف أن أولية مصر السياسية اليوم وهمها الأساسي أن تحقق وتنجز "الخطة الخمسية" الطموحة التي ستعبر بها وبشعب مصر إلى مرحلة التقدم وتحقق لها الكفاية الذاتية من أرضها وفي أرضها، وأن القاعدة الصناعية الكبيرة التي جاهدت الثورة لبنائها ووضعت أساسها المتين ستظهر نتائجها في هذا العقد من الزمان، يقصد (الستينيات).
ولكن -وذلك هو الأهم- فإن بلدان الغرب وإسرائيل لن يسمحوا لمصر أن تنهض من جديد. هم دائماً يريدون مصر ضعيفة لأنهم يعرفون أن قوة مصر هي قوة للأمة العربية ولأفريقيا. وسيفعلون كل شيء ليعطلوا مشروع النهضة العربية، وسيفعلون أكثر مما متوقع للإيقاع بين مصر وأشقائها العرب، وسيعملون المستحيل لعزل مصر عن عالمها العربي وعزل العالم العربي عنها"!
تذكرتُ ذلك اللقاء مع محيي الدين وحديثه الرزين والمسؤول، ونبوءته التي حققتها الأيام، خاصة مع مرور الذكرى الثامنة والخمسين لقيام ثورة 23 يوليو التي قادها عبدالناصر ووهب روحه وحياته ليحقق بها ويستعيد مصر العربية، فأصبحت ثورة يوليو بحق ثورة القومية العربية، وأصبحت مصر بزعامته قاعدة لحركة التحرر العربي والأفريقي. وبفضل وعيه التاريخي امتدت مشاعل النور التي خرجت من القاهرة من أقصى شمال القارة الأفريقية إلى أقصى جنوبها، ووجدت حركات التحرير الوطني الوليدة في القاهرة الملاذ والملجأ الآمن .
في سنوات النهوض القومي السابقة لهزيمة يونيو أصبح لـ"العروبة" صوت، وللعرب مكانة في المجتمع الدولي. وبات الشباب العربي في بلاد الغرب يفخرون ويعتزون بقوميتهم "الجامعة الشاملة".
ودار الزمان دورته، وبدأت الخلافات والمشاحنات صغيرة الأهداف والوخيمة النتائج هي سيدة الموقف العربي. وبدا كأنما كل ما حققته وأنجزته ثورة يوليو لمصر وللعرب قد طواه الزمان. وأصبحت الساحة العربية ملاعب يلعب فيها الآخرون.
وأخطر من كل ذلك أصبح بيننا "مفكرون ومنظرون" همهم أن ينشروا بين الناس روح اليأس، ويحسبون أن "التاريخ" سيتوقف عند لحظة الهزيمة هذه، وأن مصير الأمة أصبح معلقاً بإرادة سادة العصر الجديد، وكأنما الأمة العربية هي الوحيدة بين الأمم التي ذاقت مرارة الهزيمة، ولكن كان دائماً حكم التاريخ أن يخرج المهزوم من الهزيمة بالإرادة والعزيمة الصادقة.
عبدالله عبيد حسن