أسماء الزرعوني.. والانقلاب على الاسم المستعار
أقلام نسائية إماراتية (5)
تحتل الكتابة النسوية مكانة استثنائية في المشهد الثقافي الإماراتي. فهي غنية بأقلامها واسمائها. مبادرة في موضوعاتها. غزيرة في انتاجها. متنوعة في إبداعاتها ما بين الشعر والقصة والرواية والريشة. هنا إطلالات على “نصف” المشهد الثقافي الإماراتي، لا تدعي الدقة والكمال، ولكنها ضرورية كمدخل للاسترجاع والقراءة المتجددة.
حاصلة على جائزة الشرف من دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة في مجال الكتابة للطفل عام 1996.. إنها القاصة الإماراتية أسماء الزرعوني، التي تجمع بين كتابة القصة والرواية والشعر والبحث وأدب الأطفال، إنها ابنة عاصمة الثقافة الشارقة التي عرفتها الساحة الثقافية بغزارة الإنتاج وتنوعه وثراء قيمته الفكرية والأدبية، نتاج أصيل وممتع في الوقت ذاته، فصدرت لنا ديوانها الشعري الأول بعنوان: “هذا المساء” 1997، ومن ثم مجموعتها الشعرية “بوح الحمام”، وديوان “هذا المساء لنا”، ومجموعتها القصصية “همس الشواطئ” 1995، ومجموعتها القصصية المهمة بعنوان “نشيد الساحل”، ولها قصة منشورة بعنوان “عندما يجف النبع”، ثم روايتها بعنوان “الجسد الراحل”، وروايتها “شارع المحاكم”. ولها تحت الطبع مجموعتان قصصيتان الأولى بعنوان “لافتات الوداع”، والثانية بعنوان “الشواطئ الفارغة”، بالإضافة إلى سلسلة قصص مخصصة للأطفال منها: “العصفورة والوطن”، و”أحمد والسمكة”، و”غابة السعادة”، و”دانة والجدة”. وفي جانب الدراسات صدر لها دراسة قيمة بعنوان: “الطفل في الإمارات”.
عن تجربتها مع الكتابة، تقول الزرعوني عضو مجلس إدارة رابطة أديبات الإمارات، عضو جمعية حماية اللغة العربية: “أول الكتابة حرف ينبت بالرعاية، وعند النظر إلى هذه المسافات البعيدة التي حفرت في الوجدان رسالتها الأولى ونبضها الأول حين فتح لي الوالد ـ رحمه الله ـ كوَة الدهشة على العالم، فاصطحبته في سفرياته إلى دول عديدة عربية وأجنبية، فكانت الصياغات الأولى كيف أخطَها تعبيراً عن هذا الإنسان وسحر المكان والعوالم الجديرة بالملاحظة والاهتمام.
ثم كان الكتاب الذي وجدته أيضاً لدى الوالد الذي كان عاشقاً للشعر الأصيل والآداب، فاستمتعت من خلاله بموسيقى الكلام، وأخذت بسحر اللغة، وبدأت أنهل من هذه الموسوعة التي لا تنضب. ورويداً رويدا كبرت وكبر معي الشغف والمتابعة ومداومة الاتصال بمنافذ المعرفة الزاخرة بها المكتبات.
وحينما بدأت استشعر أنني قادرة على الصياغة، دفعت بإنتاجي إلى الصحف باسم مستعار.. وحينما وجدت استقبالاً حسناً وتشجيعاً من الصحافة المحلية بدأت رحلة المثابرة نحو تجويد الإنتاج، ونحو الظهور باسمي الحقيقي، وخلعت اسمي المستعار، ولقد دفعتني الكتابة إلى برنامج درامي في تلفزيون أبوظبي، وبدأت أكتب لبعض الدوريات والإذاعات الخليجية، حتى أصدرت أولى مجموعاتي القصصية لتبدأ رحلتي الحقيقية نحو هذا الفن الجديد”.
معنى السجن
ضمن مجموعتها “نشيد الساحل”، الصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ثمة قصة مهمة بعنوان: “احتضار كلمة”، تكتب فيها التجربة الشخصية لبطلتها مع السجن.
وفي القصة تصف مكاناً مفترضاً هو عبارة عن سجن متخيل تقول عنه: “تأملت المكان جيداً، لم تكن مساحته تتجاوز أربعة أمتار، أفق من العتمة يسكن إحدى زواياه، وثمة نافذة صغيرة تسرف ملامح نور خفيف ينفذ من الخارج، وجدران مبللة بالرطوبة...”.
هنا تستطيع أن تلمح تلك المشاهد والصور الباطنية، وقد برعت القاصة، كما يبدو في تصوير سلوك البطلة المنفصل تماماً عن المكان، في مقارنة بين تلك الأبعاد الداخلية التي تعانيها الشخصية في مكان محدود وضيق، يتماشى مع تماهيات مما هو موجود في الحياة من خلال حدث سردي ممتلئ بالتفاصيل وخواء الروح، وذلك الصراخ الذي تطلقه البطلة ويكاد يشبه الصدى: “جربت أن تصرخ، أن تقول شيئاً، لا جدوى، فالصراخ تحول إلى صوت رعد مخيف”.
والمتلقي الذي يتوقع أن يتحول صراخ البطلة إلى صمت مطبق، يفاجأ بهذا التحطيم المنطقي لتركيبة العبارة السردية المبنية ضمناً على ارتباط السبب بالنتيجة، أو عنصر التأزم. كما تبرز هنا جماليات اللغة السردية في المشاهد التي تكشف لنا عن الحالات النفسية لبطلة القصة، إنها شاعرية اللغة التي تتمتع به الكاتبة وتتقنها على درجة عالية من المهارة وكأنها ترسم الكلمات على لوحة ملونة.
مع الطفل
في اتجاه الكتابة للأطفال، تفتح فاطمة الزرعوني صفحة رائدة في المجال الكتابي لهذه المرحلة السنية الخطيرة وحمل رسالة وريادة هذا الحقل المهم في التكوين المعرفي للأجيال الجديدة، حقق ذلك لها امتيازاً تمثل في اختيار قصتها “سلامة” الموجهة للأطفال من أعمار ما بين 9 إلى 12 عاماً ضمن مقررات وزارة التربية والتعليم، ولعل ذلك من أهم ما يطمح إليه كاتب في أن يتوجه إنتاجه الإبداعي إلى ملايين القراء الصغار وبصورة ممنهجة ومدروسة.
كما حصل كتابها “مرزوق ومزنة وقصص أخرى”، الصادر عن منشورات وزارة الثقافة وتنمية المجتمع على جائزة أفضل كتاب محلي في معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة بسبب أهمية محتواه ضمن اصطلاح أدب الطفل، وأيضاً بسبب الجانب الاحترافي والمهني في صياغة مضمون حديث، مرتبط بشكل قريب من روح القارئ الصغير. كتب الشاعر والناقد جهاد هديب حول هذا الكتاب يقول: “ويدفع الكتاب الطفل إلى أن يكون تفاعلياً مع مجتمعه عبر المناخات التي تشيعها القصص، وما يشتمل عليه من دعوة مبطنة لممارسة الفرح والبهجة بطيبة قلب تناسب توجه إنساني لطفل وهو يخطو خطواته الأولى، وتنأى به عن التأثر بأية أحاسيس قد تثير لديه كآبة أو حزناً، الأمر الذي هو من الاشتراطات الأساسية في الكتابة لأدب الطفل، تضيف وتقدم حكايات الكتاب للطفل ولأول مرة معلومة اجتماعية وليست علمية عبر جملة قصيرة وخاطفة ومباشرة في معناها ولغة لا تحتمل التأويل أو الجمل المعترضة أو الطويلة في بنيتها التركيبية أو النحوية، وذلك أيضاً عبر خط سردي أفقي للحكاية، خط يخلو من الانعطافات والتعقيدات التي تحتاج إلى قدرات تخييلية من خارج منطق الخيال واشتغاله لدى طفل في مرحلة عمرية محددة”.
تتحدث القصة عن “سلامة” ذات الأربعة عشر ربيعاً التلميذة في إحدى مدارس قريتها، ترعرعت بين الرمال الذهبية والعشب الأخضر، جمعت في شخصيتها بين الشموخ والبداوة والكرم، كانت تعشق المغامرة وتبحث عن كل جديد في العلم والمعرفة، التصاقها ببيئتها لم يمنعها من استثمار عطلاتها المدرسية في رعي الأغنام. كانت “سلامة” متوقدة الذكاء تحلم بأن تصبح يوماً طبيبة، كانت تتردد كثيراً على مستشفى القرية، وعملت مساعدة لتتعلم فنون الرعاية الطبية. في رحلة مدرسية إلى إحدى المزارع، أُصيبت صديقتها “موزة” بلسعة سامة، فأُصيب جميع من بالرحلة بالذعر والهلع عدا سلامة التي قامت بعمل الإسعافات الأولية لزميلتها التي نقلت إلى المستشفى لاستكمال العلاج. ذاع الخبر في القرية، ونالت سلامة الشكر والتشجيع والتقدير، وأصبحت عنواناً لافتاً للفتاة القروية الصغيرة، المحبة للعلم والعمل والمحافظة في الوقت ذاته على تراثها وعادات وتقاليد مجتمعها.
كتبت الباحثة ليلى البلوشي حول قصة “سلامة”: “قصة سلامة ركزت على محاور ثلاثة هي: الأسرة والبيئة والعادات، ومن خلال هذه المرتكزات تمضي أحداث القصة بتسلسل وترابط تتخللها العقدة، ثم يسدل ستار النهاية بحل هادئ ترك أثراً طيباً في نفس القارئ الطفل. أما التسلسل المنطقي في بناء القصة، فقد أكسبها ثوب الواقع، وان اتباع القاصة لأسلوب السرد المباشر كان مناسباً لرسم الشخصيات بصورة يتعايش معها الطفل بسهولة ويسر.
أما أسماء الشخصيات الواردة في القصة، فتتناسب والبيئة الريفية، فشخصية أم خلفان مثلاً يمكن القول إنها تقليدية ووجودها طبيعي ومنطقي فرضته بيئة الريف، أما الأسماء الأخرى فمنتقاة من أجواء البيئة الصحراوية مثل عفراء ويازية وموزة ونورية وغيرها”.
حضور اللغة
ما يميز القاصة الزرعوني في صياغة هذه القصة هو تلك اللغة البسيطة الرفيعة التي خاطبت بها الأطفال، لغة تمتلك جمالها الفني من حيث الصور المعبرة عن ثقافة الصحراء وتراكيب الجمل ونوعية الكلمة والتركيز البالغ في حساسيتها وتأثيراتها على عقلية الطفل وثقافته.
والقصة بهذا النموذج إنما تعقد لنا مقارنة بين الاجتهاد والمثابرة وبين الكسل والاتكالية، وبذلك ساهمت اللغة البسيطة الثرية والسلسة في الوقت ذاته في تحقيق سهولة القراءة، ومع تعدد صيغ السرد في القصة إلى تنويعات المناظر التي تدور فيها الأحداث في وحدة موضوع واحدة “بيئة القرية” ساهم في تسريع وتيرة السرد وجذب القارئ الصغير وربطه بشخصية البطلة التي تترسخ في الأذهان بأنها النموذج المنطقي للإرادة القوية لتحقيق الهدف المنشود، فكانت شخصية “سلامة” بعاداتها وتقاليدها وملامحها البسيطة وتأثيراته المحلية الخالصة خير نموذج وأمثل قدوة للأطفال في هذا العالم الذي بات فيه الأطفال محاصرين بثقافات وشخصيات مستوردة هي خطر على ثقافتهم ومزاجهم.. وفي السياق القصصي، تعتبر بيئة المكان واحدة من أهم العناصر التي تؤطر لهوية الأحداث والشخصيات وتحقيق مفهوم المحلية في إطاره الشمولي.
في هذا السياق وفي حوار مع أسماء الزرعوني نائب رئيس اتحاد كتاب وأدباء الإمارات حول تركيزها في الكتابة للطفل قالت: “شعرت بأن هناك ندرة في مجال الكتابة لثقافة الطفل، كما أنني أحب مخاطبة عقول الأطفال عن طريق ما أكتبه خصيصاً لهم، وعندما أنجح في هذا المسعى تتملكني سعادة غامرة. فأنا لا أنظر للطفل على أنه عقلية محدودة أو سطحية، ومعظم كتاباتي أركز فيها على النواحي العملية والوجدانية، وهذا ما أعتبره منهجاً جديداً في الخطاب الثقافي الموجه للطفل، على عكس ما كانت تقدمه قصص الأطفال في الماضي “حواديت” الجنيات والساحرات والحيوانات المفترسة في الغابة. أما الكتابة بالنسبة لي، فهي متنفس ومساحة للخلاص اليومي من رتابة الحياة، هي حريتي لإعادة السجال بكل الأفكار والمسلمات الإنسانية والقناعات الجاهزة في حياتنا، والكلمات هي نافذة بوح ونقاش لصراعاتي النفسية والذهنية التي أعلنها للقارئ ليعيش معي في دائرة هذا الصراع الكتابة والورقة البيضاء هي مكان أسمح فيه لشخصياتي أن تتحرك لاستعارة صوتي والتحدث من خلاله”.
الثيمة المحلية
تتطرق أسماء الزرعوني في بعض قصصها إلى ثيمات محلية تختص بالقضايا النسائية في إطار شمولي وتتعلق بمسألة الزواج الثاني، على نحو قصتها “الجسد الراحل” الصادرة عام 2004، والتي تدور أحداثها في فترة ما قبل النفط، فتنقل صوراً من المد القومي الناصري حتى انسحاب بريطانيا من الخليج عام 1971، وقيام الاتحاد في دولة الإمارات. قامت الرواية على أسلوب تكنيك الحدث الاسترجاعي من خلال بطلها “عيسى” أثناء الوقت الزماني لعودته من رحلة ما بين لندن والإمارات، لكن عيسى العائد مع أبنائه الأربعة يملأ الساعات بما امتلأت به السنوات منذ كان في السادسة عشرة من عمره، حين صفعه والده فهرب حاملاً ذكرى زواج أبيه بعدما رحلت أمه، وذكرى حبه لـ”بدرية”، وذكرى مقامه عند أهل “ليلى” التي تتعلق به، لكنه هاجر إلى مدينة الضباب وتزوج من ابنة رئيس عمله الباكستاني، لكن يدفعه الحنين أخيراً للعودة إلى الوطن: “عيسى: أبوي يتزوج يا جدَة، أنا ما أتحمل أشوف حد مكان أمي ـ ص 15 من الرواية”.
تناقش الرواية كما يبدو قضية فراغ الجسد من الروح، حين يترك البطل أهله وأرضه ووطنه، مستخدمة ضمير الغائب عند بداية كل وحدة من وحدات الرواية الأربع، وكأنها بمثابة تلك الفواصل أو الإرهاصات التي نجدها في بناء المشاهد المسرحية، وكأن الكاتبة قد حددت أربع حركات للرواية تستجمع فيها دفعات متتالية تحقق هدفاً أصيلاً هو الوطن.
في حين نتلمس عنصر الاغتراب واضحاً من خلال هذا المعنى الذي أكدته الكاتبة في الكثير من المواضع مثل التركيز على ألاماكن والعادات والتقاليد العربية وغيرها.
تبقى أسماء الزرعوني عبر رحلتها المتنوعة والثرية في الوقت ذاته في مجال الكتابة والإبداع من الأصوات النسائية التي ثابرت كي تصنع تجربتها وتحفر اسمها في السجل الذهبي لمبدعات الإمارات لتحقيق ذلك الامتداد المستقبلي للقصة الإماراتية التي تسجل اليوم حضوراً واعياً على الساحة الثقافية العربية من خلال جملة الأقلام المنتشرة عبر أجيال متلاحقة منذ أن تصدرت شيخة الناخي رائدة القصة القصيرة في الإمارات طريق الكتابة لهذا النوع من الأجناس الأدبية، وبعد تلك التحولات التي طرأت على المنطقة وجدنا كاتبات واعيات ومنهن الزرعوني التي نجحت في إيجاد صيغة جديدة للكتابة والتعبير، في خصوصية على مستوى اللغة والصورة الفنية ومن ثم الاتجاه بقوة نحو المستقبل بخطاب فكري إنساني ينحو صوب مشروع وحدة الثقافة العربية، المشروع الحلم، المعلق أو المؤجل، والمختزن في ذاكرة كل الأجيال العريضة من المثقفين العرب.