الكلمة الطيبة تؤلف بين القلوب
يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء *تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء)، «سورة إبراهيم، الآيات 24 - 27».
الكلمة الطيبة هي التي بعث الله بها رسله الكرام - عليهم الصلاة والسلام - وأنزل كتبه لهداية الناس إلى الحق، طلباً لسعادة الدنيا والنجاة في الآخرة، فالكلمة الطيبة حولت البشرية من حال إلى حال ونقلتهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جوْر الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام، وللكلمة مكانة عظيمة في ديننا الإسلامي، لذلك جاء الهدي النبوي معلماً المسلمين بضرورة أن يُؤَذَّن في أُذن المولود اليمنى، وأن تُقَام الصلاة في أذنه اليسرى، وذلك حين الولادة مباشرة، كما جاء في حديث أبي رافع قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَذَنَّ في أُذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة»، (أخرجه أبو داود والترمذي)، كي تكون أول كلمات تصل إلى مسامعه هي كلمة التوحيد، كما أنها آخر كلمة يقولها المسلم، كما قال - صلى الله عليه وسلم-: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، (أخرجه البخاري).
لقد علم رسولنا - صلى الله عليه وسلم - البشرية كلها أثر الكلمة الطيبة، الكلمة الصادقة الثابتة كالجبل الأشم الذي لا تهزه عواصف هوجاء ولا رياح عاتية، فيوم أحاطت به الأشرار تحاول أن تطفئ جذوة الإيمان، قال كلمته المشهورة التي طالما اهتزت لها أعواد المنابر، ووصل رنينها إلى أعماق القلوب، قال بلسان الحق: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه!».
الكلمة الطيبة ترفع قدر صاحبها
إن الكلمة الطيبة ترفع قدر صاحبها وتعلي شأنه، فهذا بلال - رضي الله عنه - كانت نفسه تهون عليه في الله عز وجل، وكان الذي يتولى كِبْرَ تعذيبه أُمية بن خلف وزبانيته، فقد كانوا يُلهبون ظهره بالسياط، فيقول: أَحدٌ أَحدٌ...، وَيُطْبقون على صدره الصخور، فيُنادي: أَحدٌ أَحدٌ...، ويشتدون عليه في النَّكال، فيهتفُ: أَحدٌ أحدٌ...
لقد كان بلالٌ - رضي الله عنه - يستعذب العذاب في سبيل الله ورسوله، ويردد على الدَّوام نشيده العُلوِيَّ: أَحدٌ أَحدٌ... أَحدٌ أَحدٌ، فلا يَمَلُّ من ترداده، ولا يشبعُ من إنشاده.
هذا الموقف المشرف لبلال - رضي الله عنه - من المواقف المشرفة له، والتي أهلته ليكون أول مؤذن في الإسلام، كما وورد في كتب السيرة أنه لمّا دخل - صلى الله عليه وسلم - مكة المكرمة فاتحاً كان معه داعي السماء بلال بن رباح - رضي الله عنه-، ولما حانت صلاة الظهر كانت الألوف المؤلفة تحيط بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان الذين أسلموا من كفار قريش، يشهدون ذلك المشهد الكبير، عند ذلك دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلال بن رباح - رضي الله عنه، وأمره أن يَصْعدَ على ظهر الكعبة، وأن يُعْلِنَ من فوقها كلمة التوحيد، فَصَدَعَ بلالٌ بالأمر، وأرسل صوته النديّ بالأذان، فامتدت آلاف الأعناق نحوه تنظر إليه، وانطلقت آلاف الألسُنِ تُرَدِّدُ وراءه في خشوع.
إن الكلمة الطيبة مطلوبة في كل المجالات وعلى مستوى كل العلاقات، فالكلمة تكون مؤثرة إذا خرجت من قلب مؤمن بها، ويكون لها الأثر السحري في نفوسهم، لقوله - صلى الله عليه وسلم-: «الكلمة الطيبة صدقة»، (أخرجه البخاري)، وقوله أيضاً: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة»، (أخرجه البخاري)، لذلك يجب على المسلم أن يكثر من الكلام الطيب الذي يتفق مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، وأن يبتعد عن الكلام السيئ المخالف لشرعنا وديننا، فمن المعلوم أن الكلام السيئ يكون سبباً مباشراً لهلاك صاحبه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظنُّ أن تبلغَ ما بلغَتْ، فيكتبُ اللهُ له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإنَّ أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظنُّ أن تبلغ ما بلغت، فيكتب اللهُ عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه»، (أخرجه الترمذي).
فنحن محاسبون على كل كلمة نقولها، ومما يورد الإنسان المهالك أن يُطْلِقَ للسانه العنان يقول ما يشاء، لذلك يجب علينا أن نعلم بأن كل لفظ يخرج من الإنسان سيحاسب عليه أمام ربه، فإن كان صالحاً صعد إلى الملأ الأعلى لقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، «سورة فاطر، الآية 10»، وإن كان غير ذلك فمأواه جهنم وبئس المصير، لما روى عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: كُفّ عليك هذا وأشار إلى لسانه، قال يا نبيَّ الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟ قال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم»، (أخرجه الترمذي).
إن ديننا الإسلامي دين الصدق، فالإسلام لا يقبل من أتباعه أن يكونوا كذابين لما ورد في الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل: (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، أيكون المؤمن كذاباً، قال: لا)، (أخرجه مالك)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم-: «كبرت خيانة أن تُحَدِّثَ أخاك حديثاً هو لك به مُصَدِّق وأنت له به كاذب»، (أخرجه أحمد والترمذي).
الكلمة الطيبة تقرب القلوب
وتطيّب النفوس
الكلمة الطيبة تطمئن القلب، وتؤلف بين القلوب، وتحول العدو إلى صديق بإذن الله، كما وتحببك إلى الآخرين، فهي مفتاح الدعوة والقبول، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه أن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم-: هل أتي عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً»، (أخرجه البخاري).
لقد بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة من خلال الكلمة الطيبة، فها هو - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى الطائف لعله يجد الأنيس والنصير، فسبوه وشتموه ورجموه، فجاءه الملك يعرض عليه أن يطبق عليهم الأخشبين، فقال - عليه الصلاة والسلام-: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحد الله»، لم يشتمهم ولم يلعنهم، بل دعا الله أن يهديهم، وفعلاً استجاب الله دعاءه، وخرج من صلب أبي جهل - عدو الله اللدود - الصحابي الجليل عكرمة، وخرج من صلب أمية بن خلف - الكافر - الصحابي الجليل صفوان، وخرج من صلب الوليد بن المغيرة - الكافر - سيف الله خالد.
فعلى الداعية أن يعامل الناس بلطف، وأن يرغبهم في دين الله، بالكلمة الطيبة والقدوة الصالحة والنية الخالصة، حتى يوفقه الله ويشرح صدور الناس لقبول دعوته بفضله سبحانه وتعالى، فليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء.
إن الواجب علينا جميعاً أن نسير على هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - فمن صفات المؤمنين الصادقين أنهم ملتزمون بالكلام الطيب مع الناس جميعاً.
الدكتور يوسف جمعة سلامة
خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك
www.yousefsalama.com