قال الطفل لأمه: أماه، أضيئي القمر لكي تتبدد عتمة الليل.
هذا القمر في مخيلة الطفل، هو الذي خصص له «الاتحاد الثقافي» عدده الأسبوع الماضي (1/8/2019)، لكي يستعيده معنى مضيئاً رافق البشرية في طفولتها وبلوغها، قبل أن تغيّب إشعاعاته كشوفات العلوم الحديثة.
القمر الذي تستطيع يد أم أن تشعل قناديله، هو نفسه الذي خطا فوقه نيل أرمسترونغ، تلك الخطوة العملاقة باسم البشرية، قبل خمسين عاماً، فجعل منه مادة لفتوحات العلم، واستثمارات المال، وتجاوزات السياسة، وأطماع العسكر..
كان القمر صديقاً للسهارى، والمستوحدين، والذاكرين، والمفرّجين عن كرب الصدور بتلاوة المسطور: «والقمرَ قدّرناه منازلَ حتى عاد كالعُرجونِ القديم» (يس 39). ذلك هو «قمرنا» الذي يراودنا ونراوده.
قال المفسّر: هي ثمانية وعشرون منزلاً للقمر في ثمان وعشرين ليلة من كل شهر، ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوماً، وليلة إن كان تسعة وعشرين يوماً، فهو من محاق يبزغ وإلى محاق يكون.
قال الفلكي: القمر هو القمر الوحيد الطبيعي للأرض، وهو خامس أكبر قمر طبيعي في المجموعة الشمسية، إذ يصل قطره إلى ربع قطر الأرض، وهو الثاني الأعلى كثافة بعد قمر (إيو).
قال الجغرافي: تشكّل القمر قبل أكثر من 10 مليارات سنة، بفرضية انشطاره عن القشرة الأرضية، بسبب القوة الطاردة المركزية خلال فترة امتدت بين 30 و50 مليون سنة، فيما ذكرت فرضية أخرى أن القمر ولد نتيجة اصطدام عملاق بالأرض.
قال الشاعر: يا قمَرَ اللّيل، إذا أظلَمَا/ هل يَنقُصُ التّسليمُ من سلّمَا (أبو نواس).
قالت «فتاة العرب»، (الشاعرة الإماراتية الراحلة عوشة بنت خليفة السويدي): «حلمت في صباي بأن القمر نزل من السماء وابتلعته»، فأزهر على ثغرها قوافٍ وقصائد.
قالت جدتي: إنها من علامات الساعة، اللهم ارفع غضبك عنّا، وأعد إلينا القمر من بطن الحوت.
كان القمر قد احتجب في غيبة غير متوقعة، طمس نوره الخسوف، فذهب روع الناس إلى أن الحوت ابتلعه كعقاب ربّاني على إثم ارتكبوه. فتبعنا الحشود في الشوارع وهم يقرعون الأواني بالأواني، علّهم يصدّعون بقرقعتهم أسماع الحوت فيقذف المحجوب من جوفه.
يردد الناس، أن نيل أرمسترونغ (5 أغسطس 1930 ـ 25 أغسطس 2012)، هو رائد البشر في الهبوط فوق سطح القمر، استرجعوا الواقعة طيلة خمسين عاماً، أصبحت مقولته عن الخطوة العملاقة شعاراً للعلماء والعامة. لكن الجميع، لسبب أو بغير سبب، تجاهلوا «لايكا» (1954 ـ 3 نوفمبر 1957). تبدو «لايكا» في سيرة ملحمة الإنسان القمرية ضحية نكران مقصود، بعدما كانت ضحية فعلية لمغامرة الاكتشاف الأولى.
و«لايكا»، أو «النبّاحة» بحسب الترجمة الحرفية لاسمها، هي كلبة نابت عن الإنسان في الرحلة المأهولة الأولى إلى الفضاء (قبلها فكّر الأميركيون بإرسال قرد شمبانزي). كانت «لايكا» أول كائن ثديي يخرج إلى الفضاء ويدور حول الأرض، وأوّل من فقد حياته جرّاء هذه التجربة، انطلقت «لايكا» مع مركبة الفضاء السوفييتية (سبوتنك 2) في 3 نوفمبر 1957، وماتت بعد بضع ساعات من الإطلاق، لكنها علّمت الإنسان الكثير عن غزواته المقبلة خارج الكوكب الأرضي.
كان الزمن زمن سباق في الفضاء وعلى الأرض. تقدم الروس (السوفييت) خطوات لكن الأميركيين كانوا أسرع وأمضى. فقد فرضوا على غرمائهم تنافساً مرهقاً إبان الحرب الباردة، وصلت خواتيمه إلى برنامج «حرب النجوم» خلال عهد الرئيس رونالد ريغان (بين 1981 و1989)، واستمد هذا البرنامج قوامه العلمي والعسكري من خبرات الولايات المتحدة الفضائية. ويقوم بالأساس على استخدام الأرض والنظم الفضائية لحماية الولايات المتحدة من هجوم بالصواريخ البالستية النووية الاستراتيجية.
ويقول الاستراتيجيون إن هذا البرنامج كان تحدياً للاتحاد السوفييتي، أكثر منه خطراً حقيقياً، لكن جرى توظيفه ضمن عوامل أخرى في تفكيك الإمبراطورية الشيوعية.
اليوم، يتحدث الرئيس دونالد ترامب عن مشروع للاستيطان والاستثمار في القمر، ويتحدث الروس عن استئناف رحلاتهم إليه خلال عشر سنوات، وهذه المرة لن يكون السباق بين قرد وكلبة..
***
يتنافسون على القمر، على اقتناصه، أو السيطرة عليه، أو ربما التحكم بمداره، وبالتأكيد الاستئثار بما يختزنه، لكننا نتنافس على ضوئه أو ما يصلنا منه، إذ تؤكد دراسات علمية، أن ضوء القمر كان في الماضي أكثر سطوعاً، يصل طازجاً جلياً برّاقاً إلى أحضان الليالي، لكن الأنوار الكهربائية التي انتشرت في المدن وبينها، أوهنت البريق السماوي. ففي الأميال الأربعة الأخيرة تتضعضع تلك الأشعة المجانية فتصل خجولة.
لكننا ما زلنا نحلم بالقمر، ومنّا من يطلب تفسيراً لحلمه من لدن ابن سيرين: فمن رأى القمر في منامه فإنه سوف يصبح ذو مكانة مرموقة، والرجل ـ أو المرأة ـ الذي يشاهد القمر في حجرة نومه، فإنه سوف يتزوج أو تتزوج.
«قمرنا» يكتشفنا قبل أن نكتشفه، لم ننشغل كثيراً كيف تكوّن ومما تكوّن، نعرف أنه يقف على أعتابنا، يطل من شبابيكنا، نغني له، ويستمع لشكاوينا. نكتب على صفحته شعراً، وننسج تحت أنظاره حكايا لم تحدث، أو ستحدث، أو نتمنى أن تحدث.
لكل منّا قمره الخاص. هو له وحده، صنعه من حفنة ضوء، ونثار من عواطف، ودفقات من أخيلة وأمنيات. قمر يسعى في مدار الوشوشات، يكتم ويفصح، يبوح ويلجم، يفرح ويتوجع. هو القمر الذي لم ولن يكتشفه الأميركيون أو الروس، ولن يستقبل مركبة فضائية، ولن يطأ هيبته أحد.
هو قمرنا المستعصي على المصادرة، نتعرف فيه على وجه من نحب، على نحو ما فعل ذو الرمة بقوله: وقد ظهرت فما تخفى على أحد/ إلا على أحد لا يعرف القمرا.
أو الذي يجعلنا نتأوه على من فارقنا، على نحو ما فعل ابن زيدون الأندلسي بقوله:
ما جال بعدكِ لحظي في سنا القمر/ إلا ذكرتكِ ذكر العين بالأثر.
أو نرى فيه ما بان وما خفي، على نحو ما فعل المتنبي بقوله:
واستقبل قمر السماء بوجهها/ فأرتني القمرين في آن معا.
أو نستقرئ سيرة الحُسن والخَفَر، على نحو ما فعل أبو العلاء المعري بقوله:
مع القمر الساري تلق ودّها/ فما بذلت للخلل إلا خمارها.
هذا القمر، سيصبح مع نزار قباني، مرثية لبلاد البسطاء «ماضغي التبغ وتجَّار الخدَرْ..»، فيقول في قصيدته «خبز وحشيش وقمر»:
«عندما يولدُ في الشرق القمرْ..
فالسطوحُ البيضُ تغفو
تحت أكداس الزَهَرْ..
يترك الناسُ الحوانيت ويمضون زُمَرْ
لملاقاةِ القَمَرْ..
يحملون الخبزَ.. والحاكي.. إلى رأس الجبالْ
ومعدات الخدَرْ..
ويبيعونَ.. ويشرونَ.. خيالْ
وصُوَرْ..
ويموتونَ إذا عاش القمر..».
***
تغنّى شعراؤنا بـ «قمرنا»، فأغناهم عن قمر الناس أجمعين، فباتوا وكأنهم لا يعنيهم من وطِئَه ومن استوطنه، ما دامت أغراض القصيدة قد اكتملت، وأعراض الأولين والوارثين قد حُفِظَت.
ومثلهم فعل الموسيقيون والمطربون.
غنّت فيروز، وقالت (نعم يا مظفّر): «نحنا والقمر جيران»، فهل كان القمر سيقنع بهذه الجيرة؟ لو طبّق المثل القائل: «الجار قبل الدار»، لكن قمر فيروز نفسه سرعان ما سيكتشف الحقيقة في أغنية أخرى: «القمر بيضوّي ع الناس، والناس بيتقاتلوا». هي حكايات صراعات وحروب دارت رحاها تحت ضوء القمر وتحت أشعة الشمس، فلم يكن لذلك الضوء أو تلك الأشعة أن تحجب دماء المختصمين، مهما غنّوا لها أو تغنّوا بها.
لكن للأغاني أحكام ما دامت عن القمر، الذي تموضع مع فايزة أحمد عند المدخل: «يمّا القمر ع الباب»، غير أن المبالغة اللبنانية ستجعل ملحم بركات يغني بعد حين: «على بابي واقف قمرين».. هكذا نزل القمر من عليائه ليصبح حارساً أو متسولاً.. ومع ذلك سنظل نغني له، وكأنها الطريقة الوحيدة لكي نكتشفه أو نستكشفه.
وأذكر، في هذا الإطار، تجربة تنافس مريرة مع عندليب الأغنية عبد الحليم حافظ. كانت مذيعة مشهورة، يخترق صوتها الدافئ الساحر، كصاروخ فضائي، فضاءات العقل والقلب والخيال، عبر الأثير. حكت مرّة أنها تلقّت هدية من عبد الحليم، عبارة عن أغنيته الجديدة مع إهداء قال فيه: إلى القمر من مداح القمر، كانت تلك كلمات قاتلة لمن استمع إليها، فالتنافس قد حُسم قبل أن يبدأ، والفوز سيكون حليف الأسمر النحيل، وأغنية «مداح القمر» ستصبح أغنية جحيمية، إلى أن يهديها الطرف الخاسر، إلى من ستصبح شريكته بنفس كلمات عبد الحليم.. حيث تنعدم، هنا، أي إمكانية للمنافسة.
***
بعد خمسين سنة، أو فلنقل بعد مليار سنة ـ أو عشرة مليارات كما يجزم العلماء والفلكيون ـ ما زال القمر كما كان في عهده الأول، في دورته الأزلية من المحاق إلى اكتماله بدراً، شاهداً على اقترافات الإنسان: على حماقاته، وعلى جشعه، وعلى تجاوزاته واجتيازاته. لكنه الساهر، أيضاً، يحنو على اضطرام سريرته، واشتعالاته الصاخبة أحياناً والكتومة غالباً.. هو بهذا المعنى، سيظل القمر الذي ارتبطت بحركته حضارات، وتعبّدت له شعوب، وناجت إشراقاته أجيال.. دوّن على صفحته شعراء، وعشّاق، ومكلومون، تراتيل وجع أو ألم أو حيرى، وطالعوا في استدارته وجوه من أحبوا ومن رحلوا..
أطلق الإنسان، خلال عقود قليلة، آلاف «الأقمار الصناعية» إلى الفضاء، لأغراض مختلفة، وهي أقمار ذات أعمار قصار، تنتهي صلاحيتها بانتهاء وقودها، وبعدها «يصعّدونها» إلى مقبرتها الجماعية (أعلى 11 كيلومتراً من مسارها المقرر)، لكن «قمرنا» سيبقى في مداره الأبدي، لا يكلّ ولا يناله التعب، وكلما نال من أحدنا تعب أو أصابه ضيم أو فتك به وجع، سيمد بصره في ليلة مظلمة نحو أفق بعيد ينبلج منه نور…