«سولتاري مان».. محاولة فاشلة لخداع الموت
كان بن كالمان تاجر سيارات ناجحاً.. كل ما يحيط به يوحي بالكثير من الرخاء ويعد بالمزيد أيضاً.. فجأة راحت أوضاعه تتدهور بطريقة دراماتيكية.. لم يكن الأمر مجرد سوء حظ، كما لم يكن بالإمكان رد التراجع إلى ظروف موضوعية، أو إخضاعه لما يسميه الخبراء أزمة سوق مرتبطة بالعرض والطلب، المسألة بوضوح واختصار تبدأ من كالمان وتنتهي عنده: فجأة بدأ الرجل المطل على خاتمة العمر كما لو أنه يرغب، مدفوعاً بشغف يصعب تفسيره، في تدمير قصر الرمال الذي أمضى عمره في بنائه، هو يفعل ذلك بنزق طفولي يجنح نحو عبث متأصل، وبالرغم من محاولات شتى، بدت مفتقدة للجدية، بذلها كالمان لإعادة تصويب الأمور، إلا أن إصراره المحير على التعامل مع الحياة، ومع مشاكلها المستجدة خاصة، كما لو أنها مجرد لعبة تحتمل، أو تفترض، عدم أخذها على محمل الجد، قضى على كل إمكانية لإعادة مياه الرخاء الى مجاري العيش، وكان على الكهل المتصابي أن يخسر كل ما يملك، وأن يتعرض لمواقف الذل الآدمي بأبشع تجلياته، وهو الذي أمضى حياته ناجحاً، وفق المقاييس السائدة، تحتل صوره غلاف مجلة من عيار «فوربس»، ويتبرع بإنشاء مكتبة جامعية لجامعة بوسطن تحمل اسمه..
تغيير العادات
جرت العادة في الحكايات المكتوبة، أو المروية على الشاشات، أن يكون للبطل خطه الدرامي التصاعدي حيث ينطلق من الصفر، أو من على مقربة منه، ليتسلق قمم النجاح بانسيابية لافتة، مدفوعا إلى تحقيق الإنجازات وإحراز الأهداف بقدراته الذاتية التي تتسم غالباً بسوبرمانية جامحة، وبجرعة من الحظ تكافئ بها الحياة من تراه مستحقاً من الطامحين إلى نيل جوائزها، أما برايان كوبيلمان ودايفيد ليفاين، مخرجا فيلم «سوليتاري مان» (الأول هو كاتب السيناريو)، فقد اختارا لبطلهما بن كلمان (مايكل دوجلاس) مساراً ومصيراً مغايرين، إذ جعلاه يهوي بتسارع مطرد من مكانته العالية نحو حضيض موحش، والبديهي أن قرارا كهذا ينطوي على جرأة من جانبهما، إذ هما يقرران الاعتماد على الفشل المهني الذي أحاطا به بطلهما ليصنعا فيلماً ناجحاً.. وبديهي كذلك أن الأمر ينفتح على مجازفة يصعب التقليل من شأنها.
وسامة وخيبة
متسلحاً بجاذبيته وحيويته المتمردتين على السنين وآثارها، ومحملاً بخيبات متلاحقة لم تستطع النيل من دعة مقيمة في ملامحه، يملأ مايكل دوجلاس مساحة الشاشة، متواجداً في كل مشهد من مشاهد الفيلم الذي شكل محوره الرئيسي بكثير من الانسيابية وأثيرية الحضور، حتى بدا وجوده مقبولاً، بل ومطلوباً، بالرغم من كثافته الواضحة، والأمر، كما يجزم العارفون، لا يخلو من صعوبة ومخاطرة، إذ يمكن للمبالغة في الحضور أن تحيل إلى غير الغاية المتوخاة منها، بن كلمان هو التاجر المستقيم البارع في إقناع زبائنه، وهو أيضاً الزوج الوسيم الذي بوسع شريكته الاطمئنان إلى كونها موضع غبطة قريناتها من النساء بسببه، وهو الأب المتغاضي الذي لا تجد ابنته صعوبة ولا حرجاً في التباهي بنجاحه وتميزه، وهو الجد الذي يناديه حفيده بالكابتن بينما هما يلعبان معاً كطفلين متقاربين في العمر، وهو أيضاً الصديق الذي لا يتردد في الذهاب إلى صديقه، صاحب المطعم، بعد غياب خمسة وثلاثين عاماً ليطلب منه الطعام، فيسأله الصديق ببراءة: كالعادة؟! هو كل ذلك وأكثر.. لكنه بالمقابل بائع السيارات الذي لا يمانع في ارتكاب الغش، بل يبدو كما لو أن ثمة دافعاً خفياً غير مبرر يدفعه إلى ذلك، وهو الرجل المقبل على الملذات دون رادع أو وازع حتى لو أدى به الأمر إلى خسارة استقراره الزوجي، وهو المتهتك الذي يرمي شباك رغباته حول صديقات ابنته ممن يماثلنها عمراً.. وقد تصل به المبالغة نحو استهداف ابنة عشيقته ايضاً تاركاً للحياة أن تمضي به من سيئ إلى أسوأ، يفعل ذلك كله بإصرار وحيادية مستفزين، دافعاً بالمشاهد نحو نفق من التساؤلات عن مبررات هذا السعي الانتحاري لتدمير الذات.. وحدها ابنة عشيقته «الممثلة البريطانية ايموجين بوتس» تمكنت من منافسته في بعض المواقف المؤثرة، لتنتزع منه مكانة مفصلية في الفيلم، عندما قررت مجاراته في الموقف العاطفي، ثم اختارت عدم التمادي في اللعبة، فأخبرت أمها بما جرى لتضع حدا لعلاقة تعوزها المشروعية في أكثر التوصيفات حيادية، ولتجد حلاً يحميها من تداعيات الضعف الإنساني، وينقذها من مغبة الانجرار وراء العواطف المشبوهة، في حين كان الآخرون أقرب إلى الكومبارس الذي تنحصر مهمته في تسليط الضوء على البطل.
عبثية موغلة
تسير أحداث الفيلم وفق النحو المشار إليه سابقاً موحية بنسق مغرق في العبث، كما لو أن رسالته لمشاهديه تختصر في الخروج من ضوابط تقليدية يمارسها العاديون من البشر، والتبشير بأسلوب مغاير عماده التمرد على ما ألفه الناس من ترتيب لشؤون عيشهم، الأمر الذي يدخل المشاهد في حالة من التساؤلات المفتوحة على بعد إنكاري: هل هذا حقاً ما يقترحه عليَّ الفيلم؟ وهل يظن صانعوه أنه يمكن لبراعة ممثل، ولو كان بحجم مايكل دوجلاس، أن تقنعني بسلوكه المثير للاستغراب، وأن تجعلني أقلده لأنتهي مثله حطاماً آدمياً ينوء تحت أعباء خيباته المتلاحقة؟
اكتشاف اللغز
جرى التصوير في أماكن مغلقة مع بعض الاستثناءات النادرة، في ترميز بصري يهدف إلى إشعار المشاهد أن الدواخل البشرية هي الحاضنة الحقيقية للسلوك الإنساني، وما الملامح الخارجية الا غطاء شفاف سرعان ما يكشف عن أعماقه.. هكذا يستنتج المتلقي، على مشارف النهاية، بأنه كان ضحية خدعة متقنة حرمته من إدراك ما يعتمل في دواخل كالمان، وما كان يطفو مرات عدة على سطح ملامحه من محاولات يائسة لإغواء الحياة عبر النساء الجميلات اللواتي يمثلن التجلي الأبرز لمفاصلها وتفاصيلها.. كان لتلقيه لكمات مؤلمة من فتوة الزوج السابق لعشيقته السابقة أن قاد كلمان الى المستشفى، ومدفوعاً بحالة ثمل متجددة وقَّع صاحبنا على أوراق تسمح بإجراء فحوصات طبية أظهرت كونه مصاباً بخلل في القلب، وفي عملية بوح طال انتظارها سنصغي لكالمان، بينما هو يخبر زوجته السابقة، أن الخلل الصحي يعود لست سنوات خلت، وانه عندما أبلغه الطبيب بضرورة إجراء الفحوصات الطبية اللازمة توجه من فوره إلى أقرب مكان ملائم لارتكاب فعل الخيانة الزوجية، حيث راح يبحث عن فتيات صغيرات السن، ليستجدي من نضارة أعمارهن شيئاً من الأمان الموهوم والزائف، أي أن ما كان يقوم به من سلوكيات مثيرة للدهشة إنما يجد تفسيره في محاولة استرضاء الحياة ورشوة الموت لكي يبتعد. أيضاً كان يصارع العجز والشيخوخة على طريقته: قررت أن أعيش حياتي حتى ينفجر هذا القلب دون المرور بسلطة الأطباء والخضوع لأوامرهم المضحكة..
هزيمة الحالم
في النهاية لا يبقى أمام الرجل العابث سوى الانصياع لمعادلات الحياة العنيدة، فنراه يجلس على المقعد الجامعي الخشبي الذي شهد ولادة علاقة الحب بينه وبين زوجته أيام الدراسة الجامعية، حيث سيدلو أمامها باعترافاته المباغتة، وسيستمع منها إلى بعض الحقائق العنيدة والموجعة: «لا يسعك أن تخدع الموت مهما حاولت ذلك».. و: «هذا هو قانون الحياة: تكون محظوظاً إذا أمكنك أن تصبح عجوزاً!! أي أن تعبر نحو نهايتك بسلامة وسلام»!!
كلام على الشاشة:
«لا وجود للأصدقاء إلا في زمن التساوي، أي في زمن الفراغ وانعدام الفعل، فعندما كانت صوري تحتل غلاف «فوربس» كان أصدقائي يطمحون لقتلي غيرة، وعندما دخلت السجن سعى هؤلاء لقتلي شماتة»..
بن كلمان «مايكل دوجلاس» متحدثاً مع صديقه جيمي ميرينو «داني ديفيتو»
المصدر: أبوظبي