حالات الوَجد الجمالي
الحرف والكلمة والعبارة، هذه هي الأقانيم الثلاثة التي يشتغل بها الفنان- الخطاط، لكنه قد يعمل على عناصر أخرى من حيث التشكيل والتلوين، فنجد ثنائية الضوء والظل، ونجد الحركة والسكون، ونجد التداخل بين العناصر والمكونات فيما يشكل إيقاع اللوحة “الخطية” التي يسعى الفنان إلى تقديمها برؤيته التي تميزه عن غيره من مئات وربما آلاف الخطاطين في المشهد العربي والإسلامي. فكيف يقدم الفنان تاج السر حسن نفسه في هذا السياق؟
تمثل تجربة الفنان- الخطاط تاج السر حسن مسيرة متميزة زمنيا ومكانيا، فمن المستغرب أن تبدأ هذه التجربة في سن الخامسة، وتحمل روح البيئة المحلية، وتستمر رغم التنقل المكاني، بل إنها تغتني بهذا التنقل وتضيف نكهة جديدة إلى العمل. ولعل المستغرب أن يرافق الفنان قلما- ريشة طوال تجربته ولا يتحول عنها، فتعطيه ثمارها المختلفة التي توصل إليها. هذه الريشة السحرية التي وهبته سر التنقل بين الخط والتصميم.
ويعد تاج السر أحد الأسماء المهمة في إحياء الخط العربي في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ أن قدم إليها في 1988 ليعمل بقسم الإخراج الصحفي في مؤسسة (البيان الإماراتية)، ثم موظفا بقسم الوسائل التعليمية والمناهج وإدارة البحوث بوزارة التربية والتعليم وأخيراً بوزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، عمل خلالها على طرح مبادرات من شأنها تأسيس مؤسسات الخط وفعالياته في الشارقة ودبي، فضلاً عن كونه عضوا مؤسسا ومدير تحرير سابقا لمجلة (حروف عربية)، المجلة الوحيدة المتخصصة في مجال الخط العربي.
عن هذه التجربة يكتب الدكتور إياد الحسيني، عميد الكلية العلمية للتصميم- مسقط، في كتالوج المعرض، إنها تجربة تكشف عن “حالات الوجد والعشق الجمالي التي ما انفكت تبحث بدأب كبير، معيدة لنا كشوفات الجمال، كما اعتاد المنظرون من قبل على إعادة كشوفات المعرفة في ميادينها المختلفة. ولعل تعدد مصادر الخبرة لديه، الأكاديمية والإبداعية والتنظيرية والحرفية، كانت من أهم أسباب غنى تجربته الجمالية وامتلاكه الأدوات الصحيحة التي يستخدمها في إعادة كشوفاته البصرية بتفرد وتميز”.
ويضيف الحسيني أن الفنان تاج السر “يعيد صياغة أعماله الفنية بصورة مستمرة، بما يتناسب مع الذاكرة البصرية الحديثة، بل يصل بها أحيانا إلى تجاوز الجمال الذي يضفي على أعماله شيئا من السحر والدهشة التي لا تتخلى عن عبق ماضيها، وهو بذلك يريد أن يؤكد حياة الخط العربي المستمرة وروحه المتدفقة بقوة توالداتها التي لا تنتهي”.
يتنقل تاج السر في أعماله عموما بين النص المقدس والمأثور من القول والشعر، فيقدم لوحات يختار لها قصائد من عيون الشعر العربي، كما هو الحال مع لامية العرب للشنفري التي تبدأ بالبيت: “أقيموا بني أمي صدور مطيّكم/ فإني إلى قوم سواكم لأميل”، التي استخدم فيها خط النسخ المنقط. والقصيدة من وجهة نظره، تبرز كل المعاني الجميلة لخط المشق، وكذلك الأمر مع القصيدة الشهيرة ليزيد ابن معاوية التي مطلعها: “نالت على يدها ما لم تنله يدي/ نقشاً على معصم أوهت به جلَدي”، وكتبها بالخط الديواني، وقصيدة ثالثة للمتنبي كتبها بالخط الكوفي وهي مؤلفة من عشرة أبيات مطلعها: “صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من شأنه ما عنانا”.
اللون والضوء والإيقاع
في معرضه الأخير “جوهر الصور” يُحدث تاج السر نقلة نوعية في مسيرته الممتدة على ما يزيد عن خمسة وثلاثين عاما، المسيرة التي تعددت فيها المحطات والمسارات، متنقلا بين أشكال فن خط العربي المختلفة، النسخ والكوفي والثلث والديواني وغيرها، متجاوزاً النمط المألوف في اللوحات الخطية، ويعيد اكتشاف علاقات جديدة ذات طابع تجريدي يبرز تفاعل الفنان مع الخط بظاهره ومضمونه. إنه عرض لآخر تقنيات إنجاز الخط كلوحة تصويرية ترتبط بمشروع بحثه البصري، الذي يستند إلى اعتداده بالخط العربي فناً صالحاً لكل العصور، وهو مجال لا يمكن غير الاعتراف به كنظام مفتوح قابل لكل صورة لا بل هو “جوهر الصور”.
اللون هنا ثيمة بارزة تمنح اللوحة إضاءة متعددة الأشكال، فمنها الساطع ومنها الباهت، لكنها إضاءة تأتي في خلفية اللوحة، وهي على قدر كبير من الجاذبية، مع لون أبيض للحروف غالباً.
ونقف أمام بعض لوحات المعرض في تنوعها واتحادها، فهي تتنوع في الشكل وتتحد في المضمون، فالمعرض يعتبر مبحثا في الإضاءة، ونوعا من التناص، حيث يوظف مجموعة من النصوص تشمل آيات قرآنية وأبياتا شعرية للمتنبي والشافعي والمعري وآخرين، وتتنوع الخطوط التي استخدمها بين الخط الديواني والكوفي الحديث والخط الديواني الجلي، وخط الثلث الجلي وخط الإجازة والنسخ والثلث والخط المغربي الحديث وخط النسخ.
ويلفت النظر إلمام الخطاط بالفن التشكيلي وتذوقه الأدبي للعبارة التي يختارها داخل لوحاته، كما تتيح جميع الأعمال المعروضة مساحة من التأمل والتخيل بما تنطوي عليه من عبارات صوفية وجمالية مبدعة. وفي هذا السياق يقول الخطاط تاج السر حسن إن تأمل العبارة هو شرط أساسي بالنسبة لكل خطاط، ويضيف “أنا مؤمن بأعمال الآخرين في حقل الكتابة، وأحاول دائماً أن أجد نوعاً من التناص الفني احتفاء بالنص”.
خطوط وآيات
ويركز تاج السر كثيراً على القرآن وآياته، فيشتغل على البسملة والآيات القرآنية في صور مختلفة، منها ما هو بالخط الديواني في قالب الطغراء، حيث يستخدم الأكريليك على الورق، مبرزاً جماليات هذا الخط من خلال إمكانات الحرف في الانحناء والتداخل، مضيفا إليها النغم اللوني المتميز في الأصفر والأبيض والأزرق. مضيفاً إلى ذلك تكوينا تجريديا يشكل لوحة من الحروف والعبارة المقدسة.
ومن البسملة إلى سورة الفاتحة بالبنفسجي، بالخط الديواني، نقف على تجربة مختلفة من حيث الشكل والتكوين، وكذلك الأمر مع آية “رب اشرح لي صدري” التي صاغها بالأزرق الفاتح على الأحمر الغامق، وتليها لوحة هندسية من آية “رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين” بالخط الكوفي الحديث، مستخدما اللونين الأبيض والأصفر فوق الأرضية الزرقاء.
ونتوقف مع لوحة دائرية مفتوحة بحروف على السماء، تتخذ من الآية القرآنية “وإذا سألك عبادي عني” مدخلا إلى عمل فني رائع، عمل تشتعل فيه الحروف واللون والحركات، فيمنح الإحساس بالمعنى الذي تتخذه اللوحة من الآية. فالمعنى هنا جزء لا يتجزأ من العمل، بل هو بوابة إليه مثلما يمكن أن يكون جوهره الذي لا يخفى على المتلقي، فلكل آية أو حديث أو مقولة ما يلائمه من الخط واللون والحركة والتكوين.
وكما يرسم تاج السر اللوحة المربعة، فهو ينوع في تكويناته وتشكيلاته، فهناك اللوحة المستطيلة والدائرية والمثلثة، وداخل هذه التشكيلات تتوهج الحروف متخذة أشكالا عدة، وهو ما يخلق التناسق العام الباهر في اللوحة بين الشكل والمضمون، عن ذلك يقول البروفيسور أحمد عبد الرحمن علي “المتأمل لأعمال تاج السر الخطية لا يبهره نسق الحروف فيها واتساق تكويناتها فحسب، وإنما المعالجات الجمالية التي تتعدى حدود التجويد والاتزان إلى عالم الإيقاع الذي يذكرك بمعزوفة موسيقية تشنف الآذان وترقص على نغماتها الحروف”.
صرير القصبة ورائحة الحبر
كما أن تاج السر يقارب الأسلوب التجريدي في بعض أعماله، وذلك حين يرسم لوحة حروفية تتكون من حروف مفردة، حيث تخلو اللوحة من المعنى، لكنها تحتفظ بروح خاصة ينبغي التأمل في ملامحها وتفاصيلها، ذلك أن الحضور هنا هو للخط أو اللون والإيقاع أو لهذه العناصر كلها معا. إنه يخلق الشعور بالمتعة الذي يتحدث عنه الفنان الخطاط الدكتور صلاح شيرزاد حيث يكتب عن هذا الجانب “تزداد المتعة عندما نكون حيال خطاط وهو ينجز لوحته، فنسمع صرير قصبته ونشم سخام الحبر الندي قبل أن يجف على الورقة رويدا رويدا، وإذا رفعنا رؤوسنا قليلا نلحظ تعابير وجه الخطاط وانهماكه في إنشاء عمله، وعندما أبصر لوحة للفنان تاج السر حسن، حتى لو كانت محفوظة خلف زجاج ومعلقة على جدار، فإني أتخيله أمامي ماسكا قصبته يحركها على لوحته هذه، فهو حاضر في عمله، وذلك بأنه عندما يصمم لوحته يدرك ماذا سيفعل”.
لقد أوصلت جماليات الحرف العربي المخطوط الفنان إلى عوالم رحبة من المعاني القرآنية والشعر واللغة والحكمة الإنسانية، فوقع، كما يقول، أسير النص الذي شكل “الموقد لشحنة التناص التجريدي الغرافيكي الخطي والبصري- اللوني في اللوحة الحروفية”. وعن أعماله في هذا المعرض يقول تاج السر حسن إنها “تتجدد باستمرار في هيئاتها التكوينية الخطية وفي المعالجات اللونية. فكل عمل مستقل بذاته ولا يتكرر في الآخر بحكم أن النص محدود بالعمل نفسه..”.
وفي السياق نفسه يضيف تاج السر أن مبحثه فيما يتعلق بالإضاءة وشفافية اللون في هذا المعرض تحديدا، لا يستطيع ربطها بمشهد معين، وإنما تشربه من البيئة السودانية بكل مشاهدها، التي اطلع عليها من خلال رحلات الدراسة إلى مختلف أنحائها، بالإضافة إلى دخوله عالم الخط من باب الرسم واللون، باعتباره أحد دارسي الفنون الجميلة. ويوضح أن ما يحركه بالأساس هو النص، قائلا إنه لا يأتي إلى العمل الفني إلا بعد أن يتشرب النص ويعيشه سواء بوعيه أو لا وعيه، وبحثه عن المعنى الموجود بالنص، وجوهره. طبيعة الحروف المكونة للنص قد تفرض تكوينا معينا للوحة، مضيفا أن الحروف تؤدي إلى مسارات مختلفة، والأمر في النهاية يتوقف على إجادة كافة الخطوط العربية لأن لها نسبا وقوانين هندسية صارمة، وأيضا بالممارسة والخبرة للخطاط.
ويقول الفنان خالد الجلاف عن تاج السر إنه “متمكن من الحرف واللون والتصميم، علاوة على استطاعته تطويع الحرف القاعدي وتحويله إلى حرف “حديث التقبل”، ليس فيه كثير من الجمود، كما ببعض اللوحات الخطية الكلاسيكية، على الرغم من استخدامه الخط الكلاسيكي”.
الفنان في سطور
تاج السر حسن، خطاط وفنان تشكيلي سوداني، من مواليد عام 1954 يحمل درجة ماجستير الكلية المركزيّة للفنون والتصميم في لندن عام 1983 ودبلوم كلية الفنون الجميلة والتطبيقية من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في الخرطوم 1977 يعمل منذ عام 1974 خطاطاً ومصمماً غرافيكياً، وهو عضو اتحاد الفنانين التشكيليين السودانيين، وعضو جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، ومدير تحرير مجلة “حروف عربية” الفصلية التي تُعنى بشؤون الخط العربي، وتصدر عن ندوة الثقافة والعلوم في دبي. نالت أعماله جوائز عربيّة وعالميّة عدة، ومنها الجائزة الأولى للمسابقة الدولية الثالثة لفن الخط العربي في تركيا عام،1995 والجائزة الأولى للخط في المعرض السنوي الرابع عشر لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية عام، 1994 والجائزة الأولى للخط في بينالي الشارقة الدولي للفنون التشكيلية عام 1995، والجائزة الأولى في مسابقة أفضل غلاف كتاب للكبار في معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 1994 وغيرها. إلى جانب فوزه في مسابقة “البردة” في أعوام 2007 و2008 و2009 ثم العام الجاري 2011.