الفيلم الوثائقي.. الجنس السينمائي الحكيم
يبرز كتاب “الفيلم الوثائقي” كيف أدّت الطفرة الهائلة التي تمت مع النصف الثاني من القرن العشرين، في مجال الإنتاج السينمائي بأشكاله المتنوعة، إلى اعتبار (الأفلام) واحدة من أهم القواعد التي تقوم عليها (المعرفة المعاصرة) ويتشكّل معها الوجدان الإنساني. وقد دعاهم هذا الأمر، المفكرين المعاصرين والفلاسفة الغربيين، إلى معالجة هذه “الظاهرة الكبرى” من زاوية إبستمولوجية (معرفية) على اعتبار أن البحث الإبستمولوجي الذي يُعنى في المقام الأول بطبيعة المعرفة ومصادرها وأشكالها المختلفة، هو أحد الأقسام الثلاثة الكبرى للفلسفة بمفهومها التقليدي، وهي أقسام: الأنطولوجيا (مبحث الوجود) الأكسيولوجيا (مبحث القيم)، الإبستمولوجيا (مبحث المعرفة).
ومن هذه الزاوية، طُرحت نظريات كثيرة تتعلّق بارتباط الإنتاج السينمائي بمفهوم “الفن” كمنتَج إنساني، وبطبيعة “الأثر” الذي تتركه الأفلام في الأذهان، وبالصلة بين الواقعي والمتخيَّل في الأشكال المتعددة للإنتاج السينمائي، والأنماط المتعددة لصناعته ووسائل عرضه: الأفلام الروائية الطويلة (الهوليوودية، وغير الهوليوودية) والقصيرة، الدراما التلفزيونية، التقارير الإخبارية المصوَّرة، الأفلام التعليمية، الجريدة السينمائية، فيديو الهواة والمحترفين، الأفلام التسجيلية، الأفلام الوثائقية.
تهميش واستبعاد
عند النظر والبحث في الموضوعات المتعلقة بالفيلم (الوثائقي) المرتبط بطبيعته وتسميته بالتوثيق، التاريخي والمعاصر، تثور إشكاليات معرفية (إبستمولوجية) ومقاربات جدلية (فلسفية) تتعلّق بالصدق الفني والصدقية الواقعية في الفيلم الوثائقي، وعلاقة ما هو “وثائقي” من الأفلام بما يقوم هذا الفيلم أو ذاك، بتوثيقه. وغير ذلك من الموضوعات التي انتظمت في الكتاب عبر ثلاثة “محاور” تناقش موضوعات بالغة الحيوية وعميقة الصلة بعنوان الكتاب؛ المحور الأول: هو الارتباط بين الجمالي والفكري (الأيديولوجي) في الأفلام الوثائقية، وجدل المعرفة والصناعة (العلم والفن) في هذه الأفلام. المحورُ الثاني: ارتباط الفيلم الوثائقي بالمحلية من جهة، وبالعالمية (والعولمة) من الجهة المقابلة؛ ومن ثم النظر إلى “السينما الوثائقية” باعتبارها استعصاماً محلياً ضد تيار العولمة الطامسة للتنوع البشري الخلاّق، على الرغم من أنها تستفيد من معطيات هذه “العولمة” وتشتبك معها في الوقت ذاته، وهو ما يظهر لنا عند النظر في علاقة الفيلم الوثائقي بالمنجزات الرقمية التي هي بعض تجليات العولمة، وإحدى وسائلها لتحقيق الهيمنة.
والمحور الثالث، يطرحه الكتاب في الفصل الرابع (الفصل الثاني من الباب الثاني) وكان الأنسب له أن يأتي في باب مستقل؛ وهو هامشية الفيلم الوثائقي وهوامشه وتهميشه، بل ومحاولة تهشيمه واستبعاده، على اعتبار أنه إنتاج هامشي لأناس منسيين يسعون لاستبقاء “ذاكرة خاصة” تقاوم تيار العمومية، والتعميم، والتعتيم المتعمّد، وغير المتعمّد، لكل ما هو خارج المركز من أطراف.
وتلقي مقالات هذا الكتاب، وبحوثه المعمّقة، أضواء قوية على “الفيلم الوثائقي” الذي اقترنت نشأته، وارتبط مساره وتطوره، بالفيلم بمعناه العام. فمنذ فجر (السينما) الأول، الذي أطلّ على يد الأخوين لوميير، كما يذكر مؤلفوه فيه إلى الإشراقات (الوثائقية) المتتالية في مصر وإيران وإفريقيا وبقاع كثيرة أخرى، وانتهاء بالواقع المعاصر للأفلام الوثائقية؛ تمضي رؤى المشاركين ببحوثهم ومقالاتهم، لتقدّم مادة ثرية وتأصيلا عميقا لهذا النوع من الأفلام، والتبشير عنه بمستقبل واعد، مع فورة البث التلفزيوني وتعدّد القنوات الوثائقية التي صارت تحظى بقبول واسع عند الجمهور، وليس فقط عند النخبة المثقفة.. وتلفت بحوث الكتاب أيضاً، أنظارنا إلى سمات مبشّرة امتاز بها الفيلم الوثائقي (الجنس السينمائي الحكيم) في تعامله مع العولمة، وفي نجاته من الوقوع في شرك (الشباك) ومصيدة (التجارية) وهو ما قاد الأفلام الروائية، الهوليوودية خصوصاً، إلى الانقياد للأغراض التجارية، وتطوير صناعتها وفق هذه الأغراض، وهو الأمر الذي استطاعت السينما الوثائقية أن تخلص منه، حينما استقلّت عن السينما الروائية، واستبقت لنفسها سمة الصدقية والتلقائية (البريئة) وهو ما يسّر لها القبول عند النخبة، وعند العامة، على حد سواء.
رؤية استشرافية
كما يطرح الكتاب هذا، في أكثر من موضوع، الرؤى الاستشرافية لمستقبل الأفلام الوثائقية، والتداخل المربك الذي يحدثه انتشارها، بين كونها إنتاجاً فنياً من جهة، ونتاجاً معرفياً من الجهة المقابلة. فإن كان الفيلم الوثائقي، والتسجيلي، هو صوت الصامتين وفعل المهمّشين؛ إلا أن صناعته لا ينبغي بحال من الأحوال، أن تفرّط في القيمة الفنية والمستوى الجمالي للنتاج النهائي المعروض. وهو الأمر الذي طرحه بوضوح، البحث الذي انصبّ على “السينما التسجيلية الفلسطينية” حين أكّد بصراحة لا تشوبها المواربة، أن: “امتلاك القدرة على التأثير، من دون امتلاك الشروط الفنية والجمالية، يجعل من الفيلم بياناً، خطاباً، إعلاناً، مداخلة، محاضرة! وتصبح السينما حينها، دعائية، تحريضية.. وهذا مرض (عيب) قسط وافر من الأفلام الوثائقية الفلسطينية”.
ومن الدلائل المؤكّدة للاستبشار بمستقبل الفيلم الوثائقي، التحسينات المتتالية للكاميرات الرقمية، كما يذكرون، والسهولة النسبية التي تتيحها هذه الأداة لإنتاج أفلام وثائقية، من دون الاحتياج للإمكانات الهائلة اللازمة لإنتاج الأفلام الروائية. وهو الأمر الذي يمكن معه الارتقاء بالفيلم الوثائقي والنظر إليه: “باعتباره يضاهي الفيلم الروائي”، بل يمكن أن يحصل على جوائز الأوسكار أيضاً لا سيما أن الأفلام الوثائقية، والتسجيلية، تلقى اليوم حفاوة واهتماماً، باعتبارها صوت المهمّشين – أو بالأحرى: صراخهم المدوّي – حيث لوحظ، مؤخراً: “أن العلاقة بين المهمّشين والفيلم الوثائقي، اتخذت منذ سنوات قليلة منحىً آخر، يصبُّ في مصلحة الاثنين معاً، ويمنح الفيلم الوثائقي اعتباراً جديداً، ويفعّل قدرة الهامش على التحول إلى فضح المركز بقدر أكبر”.
غير أن النزعة المستبشرة بمستقبل الفيلم الوثائقي العربي، باعتباره “نضالاً” فنياً في ميدان الصدق الفني والإنتاج السينمائي الرشيد، غير التجاري بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة؛ لم تغفل في غمرة التفاؤل أن تشير إلى ضرورة تطوير التقنيات اللازمة لإنتاجه على أعلى المستويات الفنية الممكنة، وضرورة أن: “يواكب السينمائي العربي، خاصة المشتغل في الفيلم الوثائقي، الحدث. بإنتاج وجهة نظر عربية، أو إقليمية، تعرّف العالم بموقف السينمائيين العرب”.
إن هذا الكتاب يعدّ بحقّ إضافة مهمة للمكتبة العربية المعاصرة، وهو كتاب يتميز برؤيته التحليلية وبالثقافة العميقة التي يحويها.