في كثير من الأعمال الفنية تظل الطريقة أو بنية النص أو تركيبته على حالها، إذ يحاول الكاتب أن يخلق عالماً شعبياً أو لنقل عالماً مرّ على المنطقة وصار الآن بعد كل التغيرات ضمن الموروث، لماذا؟ أخص، بذلك، العالم المادي الذي يدخل في سينوغرافيا المسرحية التي تشير إلى مكانتها، أما العالم المعنوي فهذا مفتوح على كل الاحتمالات كونه نتاجاً إبداعياً يظل متنقلاً في الزمان لفترات طويلة. يتفق الجميع على أن أي عمل مسرحي - حتى لو كان تجريدياً - يتضمن جانبين هما: أولاً الجانب المكاني وهذا يبدو واضحاً من خلال ما يراه المتلقي مباشرة على خشبة المسرح، وهو يؤشر إلى زمن محدد ماضٍ أو حاضر أو مستقبلي، وعليه فإنه “أي المكان يحمل زمنه معه”. وثانياً الجانب النصي أي حبكة المسرحية وما يرافقها من حوار أو وسائل أدبية أخرى وهذه تعبر الزمان الواحد إلى أزمان متعددة. وقد نتساءل، أين يكمن توظيف الرمز والقناع هنا؟ وأجيب إنهما يكمنان في الحكائية فهي حاملة الرمز والقناع الذي يراد به كشف ما هو حاضر. ونتساءل أيضاً: لماذا ما دمنا نشتغل على الرمز الحاضر بقناع الماضي أن نستخدم عالماً ماضوياً في السينوغرافيا، أي أن الكاتب يعمد إلى دفع الحكاية عن زمنها إلى أزمان ماضية من أجل أن يلبسها قناعاً ويعيدها إلى حاضرنا. ذلك في ظني ما فعله الكاتب إسماعيل عبد الله في قصة “قلب كلب” للروائي الروسي ماخائيل بوليغاكوف عندما نقل هذا النص إلى المسرح وأطلق عليه “السلوقي”. ماذا فعل إسماعيل عبدالله؟ هو بكل بساطة استعان بمكان ماضوي وبحكاية حاضرة، استعان بهذا المكان كي يخلق قناعاً رمزاً في حكاية تشير إلى إدانة للإنسان، في حاضره المخيف ولكن هذا يبدو في غاية التعارض بين علمية النص “من العلم” الذي هو سمة للحاضر والمستقبل وبين ماضوية المكان القديم (القرية)، والحكاية معاً، وهذا لا يتوافق أبداً بنائياً، إذ لا علم ولا معرفة في القرية.. كيف؟ الثنائيات الضدية “نوخذا” اسمه عمران يعثر على كلب سلوقي “المكان قرية بيوتها من جذوع النخيل وأسيجتها من خوصه وتقع على بحر” يكاد يموت في ليلة باردة، حيث يقدم له الطعام والدواء، ليكون هذا السلوقي حارساً له كي يحميه من أعدائه المتربصين به. النوخذا عمران يشتغل في صناعة الدواء والأكاسير، يكتشف أكسيراً سحرياً ليحول فيه السلوقي إلى إنسان يمتلك قوة خارقة، ولأن ماضي السلوقي مليء بالعذابات فإن الانتقام ممن مارسوا تعذيبه في زمن كلبيته أصبح مشروعاً في زمن إنسانيته. يشتغل النص الأصل “الرواية” على فكرة الثنائيات التالية: الإنساني/ اللاإنساني، الغدر/ الوفاء، الانتقام/ العفو. يبدأ الإنسان “الذي كان كلباً” بالانتقام ممن عذبوه، فيتعدى الحدود لينتقم حتى ممن لم يعذبه، فيطال انتقامه عمران “النوخذا” نفسه - حين يتجرأ هذا المسخ فيطلب يد عفراء ابنة عمران - الذي وإن تمتع المسخ بروح الإنسانية الغادرة فإن عمران أكثر قوة في الغدر من هذا المسخ، فيعطيه دواء يحوله ثانية إلى كلب من جديد. كتب إسماعيل عبدالله “السلوقي” نصاً معداً، وقدم حسن رجب رؤيته للسلوقي نصاً إخراجياً وهو الذي رأيناه خلال عرض المسرحية على مسرح أبوظبي بكاسر الأمواج وبدعوة من نادي تراث الإمارات. تقوم عقدة النص على فكرة غريبة حقاً، ملخصها أن السلوقي/ الكلب كان وفياً في جنسه الكلبي وتحول إلى غادر في جنسه الإنساني، وكأن الكلب قد تأثر بفعل طارئ عليه هو الإنساني، الذي هو مؤشر تشويهي لفطرية الكلب المسالمة والوفية. الإنسانية المتوحشة في النص نجد الإنسان وحشاً، صراع النوخذا عمران مع العالم، حتى مع خادمته سعيدة، تكريسه طبقية وعنصرية الفرد/ السيد باعتبار سعيدة جارية في بيت السيد ولم تشفع لها تربيتها لابنته عفراء بالرغم ما بين عفراء وسعيدة من تصالح إنساني. يعود الكلب مطيعاً بعد تجريده من إنسانيته المقلقة الوحشية وكأن النص يقول: “إن إنسانية الكلب هي التي استلبته، وإن كلبية الكلب هي الأصح والأكثر تسامحاً وإطاعة”. يبتدئ النص المسرحي بظلمة وأصوات كلاب، أما الظلمة فهي تعبير وحشي عن قسوة النص، لا ضوء هناك إلا ضوء الشموع التي تحاول أن تكشف عن مكان مظلم، وثمة طبول تدق”: “وان دان ودانة يا للعجب.. الكلب أغلى من الذهب” تؤدي الجوقة هذا الغناء، وترى استخدامات الجوقة بمفهومها الأرسطي ضرورة لتكريس الصراع تاريخياً كون الجوقة قارئة حكاية، وهي مفصل رابط بين أجزائها. يعتبر حسن رجب في “السلوقي” لاعباً ماهراً على لغة الجسد، وكل ذلك بسبب عدم تغير ديكور المسرحية الذي ظل ثابتاً من أول العرض حتى منتهاه. إذاً، ماذا تغير في العرض؟. لعب حسن رجب على الإضاءة، على تركيزها، بؤرتها، تحولاتها، على تقليصها إلى حد كشف الوجوه فقط، مسرح مظلم بسواد قاتم لا يظهر منه سوى وجه يتحرك بطول عشرة سنتيمترات فقط وكأننا نشهد ممثلين يؤدون دور أشباح في ظلمة، ذلك هو العالم الإنساني القاتم الذي يمارس مكائده. استخدم حسن رجب الحركة الدائبة في المسرح إذ لم يبقه فارغاً وإلا تهدم عنصر العرض المشوق الذي يعتمد تواصل الحكاية، تلك هي تقنية هذا المخرج الذي جاء بها ليخرج النص، وباختصار فإنها تتمثل في ممثلين وإنارة محسوبة بدقة وحكاية هي صلب القضية. تسيد الظلام عزف وموسيقى احتفالية إسنادية للحكاية، وظلام يتشقق عن قصة النوخذا عمران وكلبه السلوقي وابنته عفراء وخادمته سعيدة. برع الممثلون حقاً (هدى الخطيب وأمل محمد وجمعة علي وعبدالله مسعود وحميد فارس وحسن البلوشي وفيصل علي وابراهيم سالم والممثلون الآخرون الذين أدوا دور الجوقة والكلاب النابحة) في أدائهم. فيما تعاضدت الأشعار والأمثال والأقوال الحكيمة والأغنيات الشعبية والضرب على الطبول في تحقيق أهداف النص وفي خلق فرجة مسرحية يظل فيها المتلقي مشدوداً إلى الحكاية نفسها. يتسيد الظلام المسرح كاملاً لأكثر من عشر مرات ليبدو فقط وجه الراوي الذي يقول أشعاراً وحكماً وأقوالاً وأمثالاً، الراوي الذي هو الممثل نفسه، أي أن حسن رجب لم يخلق راوياً محايداً مثلما وجدناه في المسرح الأرسطي بل خلق رواة ممسرحين داخل النص، يقومون بدورهم كأبطال لشخوص تتصارع وحالما ينتهي المشهد الجزئي يخرج أحدهم ليلبس دور الراوي الذي يقول شعراً ويعلق وينثر أقوالاً وأمثالاً. وأعتقد أن هذا الازدواج بين الراوي المتكرر والممثل قد خلق تجانساً داخل النص بل خلق وحدة عضوية استحقت عليه المسرحية أن تفوز في المهرجان المسرحي الثاني عشر لدول الخليج العربية في قطر. قدم حسن رجب نصاً كاملاً مترابطاً من خلال أمرين هما: أولاً بنية الحكاية وثانياً من خلال البنية الإخراجية اللذين ساهما في خلق جوٍّ واحد طول العرض الذي استمر لستين دقيقة تقريباً، حيث ابتدأ النص لديه بالظلام وتقطع هذا الظلام لأكثر من عشر مرات، واختتم به ليقدم لنا فصلاً واحداً طويلاً يحتوي على أجزاء حكائية هي نسيج النص. دور الإضاءة كانت الإضاءة محسوبة بدقة، مركزة بعناية وكأننا نشهد أجزاء من ضوء محبوس، ضوء يفجر جزئيات صغيرة هي الداخلة في النص، الكلام يخرج من الفم والفم في الوجه والضوء يسلط عليه، فلا ضرورة إلى أن يسقط الضوء على كامل الجسد، هذه براعة حسن رجب حقاً. من الجانب الآخر، وعندما استدعى الحدث أن يكشف نفسه بكليته إلى المتلقين، وقف عمران “النوخذا” وسط كلابه التي التفت حوله، وقد صعد فوق طاولة صغيرة مشيراً إلى الأعلى حيث سيادته الكاملة في قدرته على صنع عشرات الكلاب، عندها ترى الضوء قد كشف عن كامل هذه الكتلة التي انبثقت في وسط المسرح في بؤرته المركزية حيث تشير إلى مركزية العالم - كما يفهمه عمران النوخذا - حول السيد وكلابه، وهو بذلك يتحدى، وهنا يخلق النص فكراً ترميزياً للقضية التي تتشابه فيها أفكار السيد والكلب بمفهوم العبودية والسيادة. الكلب الوفي “حاجتك عند الكلب سميه عمي كلبان”. “الكلب الوفي” تلكما عبارتان تردان في النص المسرحي، وثمة أشعار بالعامية تصف الكلب حقيقة ومجازاً وتصف الإنسان الذي استعار صفة الكلب والكلب الذي استعار صفة الإنسان، ويتضمن النص قصصاً خارج الحكاية منها قصة الطبيب الإنجليزي جون والفيل الذي أهداه حاكم الهند إلى ملكة بريطانيا، وكيف تمرض الفيل وأنزل في القرية ليداويه الطبيب الإنجليزي: “هؤلاء الإنجليز يمتلكون دواءً لكل شيء، للفيلة وللكلاب معاً”. ويبقى النص، عملاً مسرحياً، يعيد المسرح إلى أصوله الأولى بعيداً عن توظيفات خارج الحكاية والبساطة ويبقى الكلب السلوقي في صرخته الحقيقية التي يقول فيها: “أنا كلب وأنتم صنعتموني”. ذلك هو المغزى، الذي يجسده منظر النوخذا عمران وقد توسط كلابه التي كانت تنبح حوله والتي صنعها هو بنفسه.