حنا عبود
نسلم أن أبا التاريخ المكتوب هيرودوت، ولكن التاريخ المحسوس والمقاس يرجع إلى عهود موغلة في القدم. ومن الأساطير، أقدمها وأحدثها، نعلم أن أبا التاريخ المعاين والمعاش هو القمر، ولا يوجد جرم أو أي شيء آخر من مظاهر الطبيعة يمكن أن ينافسه. ثم إنه لا يوجد ما يظهر للعيون صغيراً ثم ينمو ويكبر إلا القمر. فالشمس تحتفظ بشكلها الثابت، وكذلك النجوم والأجرام السماوية الأخرى، مهما كانت كبيرة أو صغيرة، قريبة أو بعيدة. إن القمر وحده يولد طفلاً ثم بالتدريج ينمو حتى يكتمل، فاعتقدوا أنه كائن حيّ، ولكن من النوع الإلهي. هذه الدورة القمرية جعلته شبيهاً بالإنسان: يولد وينمو ويهرم ويموت، ثم يبعث من جديد، ونظن أن فكرة البعث مأخوذة من إله القمر.
لا يجادل أحد في أن الشمس رب من أكبر الأرباب في العقائد الميثولوجية القديمة، لكن القدماء لا يهضمون فكرة أن الرب الثابت، الذي لا ينمو ولا يتغيّر، ولا يموت وينهض من بين الأموات، يمكنه أن «يؤرخ» الأيام والأشهر والسنين. وبسبب هذه الشخصية جعلوا لرب الشمس مهمة أخرى وهي تقسيم اليوم إلى ساعات. ومعرفة ساعات النهار سهلة جداً، فحتى قبيل منتصف القرن العشرين كنا في القرى نشاهد هذا الفلاح أو ذاك، حين يكون في الحقل، خارج القرية، يستخدم عصاه لمعرفة ساعات النهار، فمن ظل هذه العصا، أو هذا القضيب، يقدر الفلاح في أي وقت هو من النهار. إن ظل الشجر لا يفيده في شيء لتلاعب الهواء بالأغصان. ولكن عندما يكون في البيت نراه بنظرة واحدة إلى ظل جدار من جدران منزله يعرف في أي ساعة من النهار هو. ويظل هذا الجدار- الذي راقب ظله عند صعود الشمس في السماء مراقبة مديدة حتى استقامت له قراءة ساعات النهار في شتى الفصول- مؤشراً موثوقاً لتعاقب ساعات النهار، لدى صاحب المنزل. أما في الليل فيعتمد على الكواكب والنجوم ومواقعها المتغيّرة في السماء لمعرفة ساعات الليل، لأنه لا يستطيع أن يعرف التوقيت الليلي من القمر.
أما فصول السنة فلا تحتاج إلى كل هذا العناء والمراقبة والقياس، بل يكفي أن ينظر الناس إلى الطبيعة حتى يعرفوا في أي فصل هم. فقد تكفلت الطبيعة نفسها بوسيلة الإعلام بالفصول.
بالطبع هناك أشياء وأشياء كثيرة خضعت للمراقبة، من أجل الوصول إلى أدق توقيت للنهار والليل، والأشهر والسنين. وبلغ الكلدان في هذه المراقبة شأواً بعيداً جعلهم أساتذة الفلك في العصور القديمة.
بسبب كل هذا استحق القمر أن يكون أبا التاريخ الوحيد في العالم القديم، والدليل على ذلك أن كل الشعوب كانت شعوباً قمرية، ولم يكن هناك أي شعب شمسي قبل الألف الثالث قبل الميلاد.
الترجمة الميثولوجية
لندع الشمس والفصول جانباً، ولننظر كيف كان القمر أول آلهة التوقيت والتنظيم. ويمكن القول إنه ارتفع قبل غيره بكثير إلى مقام الألوهية لأسباب كثيرة. فقد لاحظوا أن له تأثيراً كبيراً في المد والجزر والأمزجة، بل له كل التأثير على النساء، وتقول الباحثة وينفريد ميليوس لوبل في كتابها «تحوّلات باوبو» (والكتاب صدر بالعربية من ترجمتنا):
ودورة الحيض المشتركة ظاهرة يمكن أن تتحقق من دون مساعدة الأدوية العشبية. ومنذ أمد طويل، حين كان النساء يعشن معاً في أجنحة مغلقة، لوحظ أن دورة حيضهن تصبح على نحو عفوي مرتبطة الواحدة بالأخرى والكل يرتبط بدورة القمر. ويبقى هذا التزامن السري دون تفسير، مع أن الأطباء يقرون به تحت اسم «ظاهرة غرفة النوم».
بعد كل هذا، ما الذي ينقص القمر حتى يصير ربّاً في المعتقدات القديمة؟ ألا يؤثر في البحر؟ ألا يؤثر في النبات؟ ألا يؤثر في الحيوان؟ ألا يؤثر في الإنسان؟... إن ظاهرة الاستذئاب استمرت حتى العصور الحديثة، وتاجر بها صنّاع الأفلام التشويقية وأفلام الرعب كثيراً. وبلغ الأمر أن البابليين كانوا يعتقدون أن القمر عندما يكتمل سيزاح الملك عن عرشه، إما أن يقتل أو ينفى، ولذلك كانوا يأتون بشخص بديل شبيه بالملك، وقبل أن يصعد القمر في الليل يأخذون الملك، بملابس تنكرية، إلى مخبأ سرّي أعدوه لهذه الغاية بالذات، ولا يخرج إلا بعد أن يبدأ القمر بالتناقص.
ومما يثير الدهشة أن البابليين الذين يؤمنون بهذه الميثولوجيا هم أنفسهم كانوا يتصرفون تصرفات واقعية جداً، فهذا الملك الذي يختبئ من أمام وجه الرب القمر (سن) هو نفسه الذي عندما يتولى العرش يمرّ في السوق الرئيسية المؤدية إلى القصر، فيرميه المواطنون بالبيض والتمر ويشتمونه ليجربوا مدى احتماله، ومدى صبره على المواطنين عندما يعتلي العرش.
أول تقويم شمسي في العالم
ظهر هذا التقويم في مصر، فهي أول دولة تأخذ بالتقويم الشمسي، وهناك أسطورة تدور حول هذا الانقلاب، وهي أن الرب «تحوت»- الذي علم المصريين الكتابة والحساب والفلك والهندسة والطب... وكثير من العلوم الأخرى- لاحظ أن الفصول في الطبيعة لا تنطبق على التقويم القمري. وحسب بدقة عدد الأيام التي تنقص التقويم القمري للسنة، وذهب إلى رب القمر «آه» Aah ولاعبه الكوتشينة، على أن يتخلى عن هذه الأيام في حال خسر المقامرة، وكان أن ربح تحوت وصارت السنة تسير وفق التقويم الشمسي، مع أن القمر ظل رباً وظل معبوداً، وتقدم له الأضاحي كالمعتاد، إلى أن حلّ تحوت نفسه محله.
يقال إن البابليين كانوا أسبق من المصريين إلى إصلاح النظام القمري، بإضافة «النسيء» إلى التقويم، مدعين أنها الأيام التي يستريح فيها «سن» من عناء دورته، من دون أن يتخلوا عن عبادة القمر باعتباره الإله الأكبر، وقد لعب الكلدان دوراً كبيراً في هذه المعتقدات.
القمر العربي
اتخذ هذا الإله عدة أسماء عند العرب، كما عند غيرهم من الشعوب. ففي الجنوب كانوا يسمونه «عام»، وهو أيضاً رب مناخ والمعبود الحامي لمملكة قتبان، التي كان سكانها يسمون «أبناء عام» وإليه تعزى سهام البرق والقرص القمري، وأطلقوا اسمه على السنة، فكلمة عام العربية أصلها يعود إلى اسم رب القمر لدى عرب الجنوب.
في الشمال، كان للبابليين تأثير على العرب، فشارك بعضهم في عبادة «سن» إله القمر البابلي، ومن هنا نجد إلى جانب كلمة «عام» كلمة «سنة» نسبة إلى الإله البابلي «سن».
في أواسط الجزيرة العربية، سمي إله القمر باسم «حَوْل» لأنه ينمو ويكبر ويتحوّل من حال إلى حال، وانصرام الدورة القمرية يعني أن «حولاً» قد أكمل دورته. وكانوا يضيفون أيام النسيء للتقويم القمري حتى يتناسب مع فصول الطبيعة، ربما لاعتقادهم أنها أيام المخاض العسيرة والقاسية لولادة الإله «حول» أو انبعاثه من جديد.
أما الإله «هلال»، فكان إله شبه مشترك للعرب، وكلمة هلال تعني القمر في بداية ظهوره، فكانوا يحتفلون بظهور هذا الإله لأنه يبدأ بدورة جديدة. أما البدر والساهور، فاسمان للإله: الأول في إشراقه، والثاني عندما يكون في الليل وتعكر وجهه بعض الغيوم، والكلمتان من اللغة النبطية القديمة.
ونعيد إلى الذاكرة، أن العبادات عند الشعوب القمرية لم تكن مقتصرة على هذا الإله، فإلى جانبه كانت الشمس تعبد أيضاً، ومنها عائلة عربية شهيرة هي العائلة العبشمية (عبد شمس) التي ظهر منها رجال تمكنوا من بسط نفوذهم على الإمبراطورية العربية بعد الإسلام لزمن يقارب ثلاثة أرباع القرن. ويبدو أن كلمة عبد عندما تضاف إلى الإله لا تعني العبودية بل العبادة، تمييزاً للشعوب المتعبدة لهذا الإله أو ذاك.
لا بد أن نعترف أن الثقافتين القمرية والشمسية كانتا متعاصرتين، حتى إننا نجد ظاهرة ندر وجودها في كل لغات العالم، وهي ما نسميه «الأحرف القمرية والأحرف الشمسية» في الحروف الأبجدية للغة العربية، وهي أساسية في تعليم قراءة النص العربي.
الحرب الكبرى
تفاقمت الخلافات بين الشمسيين والقمريين، حتى أدّت في بعض الأحايين إلى قيام حروب ضارية، فقد أراد الملك داود، ومن بعده ابنه الملك سليمان الاستيلاء على الأقاليم الشمسية كدمشق وبقية الأمصار كتدمر وحمص وحماه والقاع... ودارت معارك شديدة الوطأة على الطرفين، إلى أن طاف وفد من هذه الأمصار على الممالك الشمسية أمثال صور وصيدا وجبيل وأوغاريت وبعلبك... وشمل هذا الحلف كل مدينة تعبد إله الشمس، صغيرة كانت أو كبيرة، حيث كانت الشمس تنقش بهالتها المشرقة على أعتاب معابدهم. وبما أن كلمة الشمس تلفظ باللغة البابلية الشائعة وقتذاك شمش أو شيمش أو شامش... بحسب الأصقاع واللهجات المحلية، فقد سميت البلاد التي وقفت ضد القمريين باسم «بلاد الشام» أي بلاد الشمس كتحد يقف في وجه توسّع القمريين. ومنذ ذلك الوقت صار هذا الاسم يشمل المدن المذكورة آنفاً، حتى مدينة الموصل. أما ما بعد الموصل (ما بين النهرين) فلم تكن الأمور محسومة بين عبادتي الشمس والقمر. ولما صارت بلاد ما بين النهرين شمسية جرى ما جرى من هجوم كبير على القمريين، وسبيهم إلى بابل بأعداد كبيرة.
ألوان
في عصر الرعي والصيد، ساد الرب القمري بأسماء مختلفة، بعضها مؤنث وبعضها مذكر، ففي اليونان كان التأنيث دائماً للقمر، فالربة سيليني (توحدت فيما بعد بأرتيميس) هي الربة القمرية المسئولة عن ساعات الليل، والمشهورة بحبها العنيف لأحد الرعاة (أنديميون). أما في العربية فهو اسم مذكر دائماً (هلال- قمر- بدر- عام)، ومع أن اسم «سن» البابلي دخل العربية فإنه ظل مؤنثاً، ويبدو أنه لهذا السبب لم يتخذ رباً قمرياً، بل اكتفى العرب بلفظ «سنة» المؤنث، من غير إدخاله هيكل الألوهية، مثل «عام» المذكر.
هكذا كانت الأمور في كل أرجاء العالم القديم، فبعضهم يذكر وبعضهم يؤنث، بحسب السيطرة الذكورية أو الأنثوية، وبالطبع تختلف العادات في الاحتفالات، ففي الصين أثناء الخسوف يرجمون التنين الذي ابتلع إله القمر، ويثيرون الكلاب حتى تنبح لإنقاذ الإله من فم التنين، وفي البلدان العربية يقرع الناس على النحاس والأواني المنزلية إلى أن يجفل «الحوت» ويترك رب القمر، وبعض الشعوب تقرع الطبول بعنف. والشائع أن المنجمين كانوا يناظرون القمر مباشرة، ويعلنون طالع الشخص، وليس كما يفعلون بالأبراج، بسبب وضوح القمر، وعدم اقترابه من أي كوكب آخر. إنه رب منفرد، ويؤثر في الناس مباشرة، والناس يلحظون ذلك مباشرة. وتختلف وظائف الرب من شعب إلى شعب، ففي الأسكيمو، عند شعب الأنويت، يقوم رب القمر «أليكناك» بالتحكم في المخلوقات البحرية، وفي الجزر والمد والكسوف الشمسي والخسوف القمري وهو المسئول عن الزلازل الأرضية وعن كثير من الظواهر الطبيعية الأخرى كالأنسام والأنواء والرياح، فحتى حرارة الجوّ يتحكم بها «أليكناك»، بينما في اليونان لم يكن لسيليني أي وظيفة من هذه الوظائف.
قمر الآداب والفنون
في عام 1959 هبطت أول مركبة سوفيتية على سطح القمر، وظن الناس أن عهد الميثولوجيا والأساطير قد ولّى، ولكن الآداب والفنون تابعت مسيرتها من غير أن يكون لهذا الحدث، والأحداث الأخرى، السابقة واللاحقة، أي تأثير في مسيرة الفنون الجميلة والآداب التي تتبع قوانينها الخاصة، ففي كل بيت من الشعر أو لوحة من اللوحات ينتج الشاعر أو الفنان أسطورة جديدة.