عبد السلام بنعبد العالي

عندما يسقط القمر
كالمرايا المحطمة
يكبر الظل بيننا
والأساطير تحتضر
محمود درويش

هل فقد سحره؟... يحيلنا هذا العنوان إلى مفهوم كان ماكس فيبر قد أرساه في العقد الأول من القرن الماضي، عبّرت عنه اللغة الفرنسية فيما بعد بعبارة Le désenchantement du monde. وقتها كتب فيبر: «ليس هناك مبدئيا أيّ قوة غامضة لا يمكن توقّعها تظل تعمل. إن باستطاعتنا أن نسيطر على كل شيء عن طريق الحساب. هذا ما يعنيه فقدان العالم لكل طابع سحري». يعني المفهوم إذاً انسحاب المعتقدات السحرية كنمط تفسير للظواهر، كما يعني أن هذه، ما إن تصبح قابلة للتفسير العلمي حتى تأخذ في فقدان سحرها، بل ومعناها، أو على الأصح المعاني التي كانت تتخذها. كأن سحر الكائن الطبيعي مرتبط بما يتستر عليه هذا الكائن. وعندما يغدو قابلاً للتفسير العقلاني، بل بمجرد أن يصبح موضوعاً للبحث العلمي، حتى ينفض عنه أسراره وتنفضح لعبة التخفي، ولن يعود هناك مجال لافتراض معانيَ مغلِّفة تتبدل بتبدل أحوال الذات المدركة وتغيُّر مزاجها، ويغدو الكائن «عارياً». يصبح مجرد تحولات تُدخله في علائق تضبطها قوانين. يصبح ظاهرة علمية، وإلى حدّ ما «ظاهراً» لا ينطوي على بواطن، ولا يكتسي أيّ غلاف، اللهم إلا الخصائص التي يستمدها من العلائق التي تربطه بكائنات أخرى.
ذلك أن مفهوم فيبر لا يكتفي فحسب، كما تؤكد إحدى الدَّارسات، «بنفي تدخل الخوارق في الطبيعي، والمقدس في الدنيوي، وإنما يذهب حتى نفي المعنى عن العالم».
غير أن أحد الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين يقلل من قوة هذا المفهوم وشموليته، فلا يرى انسحاباً مطلقاً للسحر عن العالم كليةً كما ذهب فيبر، وإنما يتبيَّن فحسب نوعاً من «الانزياح». كتب جاك إيلول في كتابه: «الممسوسون الجدد»: «ليس العالم هو الذي فقد سحره، كما ارتأى فيبر، وإنما هي الطبيعة وحدها، وبدلاً من ذلك، فإن التقنية هي التي غدت اليوم محط تقديس». فكأن السحر لم «ينسحب» وإنما بدّل موضعه، وغيّر موطنه.

خطوة عملاقة للبشرية
ربما كانت اللحظة التي وطئت فيها قدما الإنسان سطحَ القمر، والتي قيل عنها إنها كانت «خطوة صغيرة لإنسان وخطوة عملاقة للبشرية»، ربما كانت تلك اللحظة لتضفيَ نوعاً من المصداقية على ما يذهب إليه الفيلسوف الفرنسي هنا من كون السحر انسَحب من الطبيعة ليحل في التقنية.
ما زالت عالقة بأذهاننا لحظات نقل صور الإنسان وهو يطأ سطح القمر على شاشات تلفزيونات العالم، تلك الصور العجيبة «الساحرة» و«المدهشة» التي لم يصدّقها الكثيرون منّا، والتي ما زال هناك إلى اليوم من يعتبرها مجرد خدعة سينمائية، وضرباً من الخيال، الخيال العلمي على وجه التحديد. فكأننا كنا مسحورين، ولكن هذه المرة ليس بالقمر الذي طالما سُحرنا به، والذي طالما أنار الظلمات، وسهر مع العشاق، وآنس الغرباء، وإنما «سُحرنا» بما صار في إمكان التقنية أن تحققه من «عجائب»، فتجعلنا نعيش مع العلم اكتساحاته، ونواكب انتصاراته، حتى لا نقول «نعيش في قلبها»، فنقلّص المسافات، ونقهر الأبعاد، ونغدو بحق «سادة على الطبيعة ممتلكين لها» كما قال أبو الفلسفة الحديثة في الباب السادس من مقاله.
ألا تجعلنا التقنية سحَرةً جدداً، نفعل عن بُعد، ونكلّم الجماد فيتحرك، ونأمره فيأتمر، ونستحضر الشيء أمامنا أنّى وجد، وننتقل عنده متى شئنا؟ ألا تجعلنا التقنية نتحدى الجاذبية فنطير في أعالي السماء؟ ألم نعد من المهارة بحيث نقرب البعيد ونصغر الكبير، ونتحكم في المكان، ونقهر الزمان ونفقد الشعور بالقرب والبعد كما قال أحدهم؟
وعلى رغم هذا الانبهار الذي لم يكن من السهل تصديقه، لم يتمكن السحر الجديد من أن ينسينا الشعور بـ«فقدان السحر» الذي بعثته فينا صور«النزول»: نزول الإنسان على سطح القمر، و«نزول القمر إلى الأرض» بعد أن كان «كائناً سماوياً»، يطل علينا من أعلى، ويضبط إيقاع أيامنا وليالينا، ليغدو جزءاً من الطبيعة، ليس طبيعة العشاق والشعراء هذه المرة، وإنما طبيعة الفيزياء، طبيعة علم الطبيعة وعالم التقنية.
فما الذي يميز هذه الطبيعة عن الأولى؟ كتب هايدغر مقارناً ما كان عليه نهر الراين، بما أصبح عليه بعد أن «نَزَعت عنه التقنية سحره» وأصبح مصدراً للطاقة الكهربائية: «ولكن، يمكن الاعتراض بأن «الراين» يبقى على رغم ذلك نهراً ينتمي لمشهد طبيعي. ليكن الأمر كذلك، لكن كيف؟ ليس إلا كموضوع لزيارات تنظمها وكالات أسفار أقامت على ضفافه صناعة خاصة بالعطل».
هذا التحول الذي لحق نهر شومان وهولدرلين، والشبيه بما لحق القمر، هو تحوّل كوكبي فرضه اكتساح التقنية للعالم وتحويلها للكائنات الطبيعية إلى مستودعات للطاقة وموارد اقتصادية.
في التعريف الموجز الذي يحدّد به فيبر المفهوم الذي انطلقنا منه، وردت كلمة أساس علها تجمل الموقف الذي نحن بصدده هي كلمة «حساب».

«التقنوعلم»
سبق لهايدغر أن بيّن، في محاضرة أصبحت نصّاً كلاسيكياً في الموضوع، الأهميةَ الكبرى التي صارت الرياضيات تتخذها، ليس من حيث هي لغة العلوم، ولا حتى أداة من أدوات اكتشافاتها فحسب، وإنما من حيث هي ما يحدّد طبيعة الكائن. الرياضيات هي المعرفة التي بفضلها اتخذت الممارسة شكلاً آلياً. إنها المعرفة التي أصبح فيها الوجود ذا طبيعة رياضية. يتعلق الأمر بمعرفة لا تكتفي فحسب بتحقيق السيطرة، ولا بتحويل الطبيعة، وإنما بتحويل علاقتنا بها، بل بتحويلنا معها، وتحويل نظرتنا إليها، وتعاملنا مع كائناتها.
ها هنا لا تغدو التقنية مجرد تطبيق للعلم، لن تعود هي العلم المطبَّق. خصوصاً أن العلم ذاته، كما يقول الفيلسوف الألماني نفسه، سيتخذ صبغة تقنية. لذا أصبح الحديث اليوم لا عن العلم ولا عن التقنية بمفردهما، وإنما عن «التقنوعلم».
ذلك أن الآلية بمعناها الحديث ليست مجرد تطبيق للعلم. إنها حلول لممارسة جديدة. ليست ماهية الآلية تحويلاً للأداة إلى آلة، بقدر ما هي قائمة في الآلة ذاتها، تلك الآلة التي ليست كذلك إلا بمقدار ما فيها من رياضيات. الآلة آلة باطنياً وانطلاقاً من الجدة النوعية للمعرفة المستخدمة، وليس خارجياً وكتطبيق للمعرفة. الآلة «تنطوي» على نظرية ولا تكتفي بتجسيدها.
إن شكل التمثل الخاص بالعلم يطارد الطبيعة، ويعتبرها بمثابة مركب من القوى قابل للحساب الرياضي. ليست الفيزياء الحديثة فيزياء تجريبية، لأنها تطبق على الطبيعة آلات من أجل فحصها. العكس هو الصحيح. فلأن الفيزياء، مسبقا وكنظرية خالصة، تجبر الطبيعة كي تظهر مركباً من القوى قابلاً للحساب الرياضي، أمكن للتجريب أن يمحصها. التقنوعلم لا يطبق هنا على طبيعة محايدة ما ارتآه، إنه منذ البداية يكون أمام موضوع من صنع التقنية. فضلاً عن هذا، فإن المعرفة العلمية ذاتها يتم التعامل معها بنفس الأسلوب التقني الذي يتم به التعامل مع الكائن عموماً، من حيث يُنظر إليه كطاقة تختزن رصيداً من المعلومات تكون رهن الإشارة وتحت الإمرة.
عندما يصبح الكائن الطبيعي موضوعاً لعلم، فإنه يغدو، كما قال أبو الفلسفة الحديثة، مجرد امتداد، مجرد علائق ونسب، ليتكلم «مثلثات ومربعات» على حدّ تعبير غاليليو. ولن يعود في مستطاعه أن يبادلنا إحساساتنا، ويكلمنا لغتنا، ويشاركنا عواطفنا، ويتألم لآلامنا، ويحزن لحزننا.
وهكذا، سيتعرى الكائن الطبيعي ويفقد كل الأغلفة التي كسته بها الأساطير والديانات والثقافات عبر التاريخ، فـ«تحتضر الأساطير» كما قال درويش، ولن تعود الطبيعة هي «الانفتاح» الذي تحدث عنه اليونان، وإنما ستغدو مستودعاً للطاقة وخزاناً للثروات، بل ومورداً من موارد الاقتصاد.
يكفي أن نتذكر الأسئلة التي واكبت صعود الإنسان نحو القمر، لندرك أن العملية كلها، التي سميت بحق «غزواً»، كانت تستهدف أساساً الجواب عن هذا السؤال: إلى أيّ حد يمكن لهذا الكوكب أن يكون مصدرَ طاقات جديدة، فيخفّف عن الأرض التي أخذت تضيق بساكنيها أعباءهم، ويسهم في غذائهم ومائهم وصحتهم، بل ليغدو مأواهم الجديد؟
ما يؤكد هذه النوايا «الاستعمارية» إن صح القول، عودة رجال الفضاء مزوَّدين بما يقرب من عشرين كيلوغراما من الصخور القمرية. والغريب أن حكام الولايات المتحدة أصروا على ألا تدخل هذه الصخور أراضيَهم إلا بعد تسجيلها لدى الجمارك، عملاً بالقانون الذي ينصّ على ألا يدخل شيء قادم من بلاد أجنبية أرض الولايات المتحدة حتى يتم تسجيله. ربما كان الهدف من ذلك «إنزال» القمر من جديد وتنزيله منزلة البلد القريب، والإشارة إلى أنه لم يعد إلا منطقة مجاورة لنا، تخضع لقوانيننا شأن كل البلدان الأخرى المجاورة. لا سبيل بالطبع إلى معرفة الدلالات البعيدة التي كان الأميركان يحمّلونها هذا التصرف، إلا أنه يسمح لنا بأن نشير هنا إلى البعد الاستراتيجي للعملية كلها. وهو البعد الذي يتم إغفاله عادة عند الحديث عن التقنو-علم، أو على الأقل عدم التوقّف عنده بما يكفي.
كلنا يذكر أن القمر كان محل تنافس محموم بين الولايات المتحدة وما كان وقتها اتحاداً سوفييتياً. هذا التنازع بدأ منذ نهاية الخمسينيات، واستمر حتى منتصف السبعينيات، تلقى وقتها القمر في هذه الفترة ما يقرب من أربعين صاروخاً متنوع الأشكال والأحجام والأهداف، واتخذت عملية الإرسال تسابقاً محموماً بين دولتين ومعسكرين ونظامين ومذهبين.
لا نستطيع، بطبيعة الحال، أن نغلّب هذا الوجه الاستراتيجي لعملية الغزو على الأوجه الأخرى، ويكفي أن نقول إن الصعود إلى القمر كان بحق خطوة عملاقة للبشرية جمعاء في طريقها إلى الارتفاع بالإنسان نحو الأعالي، حتى إن كان ذلك على حساب نور القمر الذي نخشى أن يتحول فقط إلى مجرد موضوع من موضوعات التقنو-علم فنتساءل حينها بصدده، على غرار تساؤل فيلسوف التقنية بصدد نهر الراين: «متى سيغدو القمر موضوعاً لزيارات تنظمها وكالات أسفار أقامت على سطحه صناعة خاصة بالعطل؟».