لا تعرف لماذا تخط كثيراً على دفاترها، ولا تتذكر إن كانت ترسم أيضاً قبل دخولها المدرسة أم بعدها، وكل ما تتذكره أنها كانت في السابعة من عمرها عندما طلبت منها المعلمة أن ترسم “عروس البحر” على السبورة، وحين انتهت صفق لها الجميع، وانتشر صيتها في المدرسة وصارت تدعى الرسامة خلود، وبعدها بسنوات أخذ الرسم معها طريقاً آخر، نتعرفه معاً مع الفنانة التشكيلية الإماراتية خلود الجابري. بسؤالها عن بداية مشوارها الفني، عادت خلود الجابري بالذاكرة إلى 24 سنة قائلة "عندما كنت طفلة صغيرة في السابعة من عمري كنا نسكن في فريج بدبي، حيث براءة الأطفال وبساطة الحياة، وكانت لي صديقة من بنات الجيران، لها أخ كان يمتلك مرسماً صغيراً، وبينما كنت في زيارتها ذات يوم، رأيت ذاك المرسم لأول مرة في حياتي، فحفرت ملامحه في مخيلتي، لأنني كنت أحب الرسم، وبدأت علاقتي برسم أسطورة عروس البحر، وأستوحيها من بيتنا الذي كان يقع قريباً من البحر، وكانت لي مدرسة اسمها اتذكر أن اسمها زهرة كانت لا تكف عن تشجيعي على الرسم أمام الطالبات وتصفق لي بحرارة". وتواصل خلود الجابري حديثها بأنها كانت في طفولتها هادئة جداً، مشيرة إلى أنها رسمت الكثير من الأشياء، لكنها لم تحتفظ بها لصغر سنها وعدم معرفة الأهل وقتها لمعني الفن أو أن تلك الرسوم قد تكون لها أهمية فيما بعد، بعدها انتقلت إلى مدرسة اليرموك في أبوظبي، وظل هاجس الرسم يرافقها، تهرب من خلاله إلى عالم الألوان والأوراق والأقلام الملونة البسيطة في تلك الفترة. وتذكر أنها لم تر لوحة أو رسماً في حياتها وقتها، وظل صوت ما بداخلها يحدثها أنه يجب أن تواصل من دون أن تعرف سبب كل هذا الحب للرسم، الذي كان يوفر لها شعوراً بالسعادة والراحة النفسية، وفي مدرسة أم عمار الإعدادية التي انتقلت إليها بدأت تستوعب قليلاً، وبدأت تتابع أخبار الفنانين الكبار، وتعرف أسماء لوحاتهم، فكانت تجمع قصاصات المجلات و الرسومات، وتلتقط في بعض الأحيان صور اللوحات من المجلة المهملة على الأرض مهملة بفرح وكأنها وجدت كنزا. رسمت خلود جدارية في مدرسة أم عمار، وأحست يومها أنها أنجزت عملاً كبيراً، واشتركت في النشاط السنوي بلوحة حائط رسمت فيها عنترة بن شداد، وهو يقفز على فرسه فأبهرت كل من رآها، وحصلت بعدها على جائزة من المدرسة، وبدأت في ذلك الوقت ترسم بالقلم الرصاص العادي وتقلد صوراً فوتوغرافية كرسم الوجوه ورسوم القصص، ولم يكن لديها أوراق خاصة بالرسم، فكانت تقطع صفحات ألبوم الصور، وترسم عليها. اختيار التخصص أنهت خلود الثانوية العامة وتمنت أن تدرس الرسم ولم يكن التخصص وقتها مطروحا وقتها في الجامعات، فاختارت أن تدرس تخصص الجغرافيا في جامعة الإمارات، لعلاقته بالمكان والرسومات والتخطيطات، والتحقت بالسكن الداخلي في الجامعة، وبدأت تفتش عن متنفس لدراستها وتشغل به وقت فراغها، فاندفعت للمشاركة بالأنشطة الثقافية والفنية، التي كانت تقام في الجامعة، وشجعها أنها كونت صداقة في السكن من 5 طالبات كل واحدة لها هوايتها المختلفة. وتضيف خلود: كنا نخرج إلى الحديقة فأرسم وجوه صديقاتي بسعادة، وفي يوم النشاط الطلابي السنوي حصلت على المركز الأول في مسابقة للفنون التشكيلية، إلى أن أعلن في الصحف يوماً، عن دورة للفنون التشكيلية بالمجمع الثقافي، فذهبت مصطحبة رسوماتي حتى يتم قبولي في المرسم الحر، وكنت واحدة من أربع طالبات تقدمن للدورة، وفي أقل من شهرين رسمت لوحة عن المرأة بين الحاضر والماضي وغيرها من اللوحات. وبينما كانت خلود تصقل موهبتها في المرسم الحر رسمت 25 لوحة خلال 5 أشهر، وكانت في وقت الاستراحة تتنقل بين الرسامات المتدربات، وتقدم لهن النصح في اختيار نوعية الألوان التي تناسب رسوماتهن، حتى تم اختيارها في نهاية الدورة مدرسة في المرسم ذاته. وتقول خلود عن هذه الأيام: عينت بالمجمع الثقافي مدرسة للفنون التشكيلية، وكانت البداية صعبة، فأنا لم أطلب ذلك، بل اختاروني أوجه وأعلم وأتعلم في الوقت نفسه، لكن سهل علي التجربة، ما كان بداخلي من حب وتصميم في تكريس طاقاتي لخدمة الفن، وبعدها عملت مسؤولة عن تنظيم المعارض في المجمع، مما وفر الاحتكاك والخبرة بالفنانين العرب والعالميين، بعدها عملت في تصميم نشرات إلكترونية ومطبوعات ودعوات وبوسترات للفنانين، وأغلفة كتب ومجلات للأطفال على الكمبيوتر لمدة 13 سنة، وتوقفت بعدها 19 عاماً لظروف خاصة، ثم عدت إلى الفن التشكيلي بعد هذه المدة الطويلة مختزنة في ذاكرتي آلاف المناظر والتصورات الجمالية التي أود التعبير عنها، وتزامنت عودتي مع دعوة لحضور محاضرات عن فن الرسم على الكراسي. العلاقة بالفن وتصف خلود علاقتها بالفن بأنها مباشرة فعندما ترسم تكون قد عبرت عن ما في خيالها وإحساسها، مشيرة إلى أنها تحاور اللوحة وتحاكيها قبل رسمها، وتقوم بعمل (استكشاف) مخططات كثيرة لها إلى أن تحس بالرضا عن الفكرة، موضحة أنه لا يوجد لديها أسلوب معين أو مدرسة خاصة تتبعها في الرسم، فهي تحب أن تجرب جميع الألوان والخامات والأساليب، لتقدم فناً منوعاً يعجب كل من يراه، وهي تنقلت بين الواقعية والتجريدية والرمزية والشاعرية التي يطغى فيها اللون على المضمون. وتعتبر المرأة الإماراتية على وجه الخصوص، والعربية بوجه عام، هي بطلة معظم لوحات الجابري، حيث جسدت إعجابها بالمرأة الإماراتية وبعطائها وتضحياتها، وبتمسكها بعاداتها وتقاليدها، واعتزازها بهويتها وصناعتها للحضارات والأجيال، وما واجهته من صعوبات ومعاناة، وما تحلم به وتتمناه، فكانت سفيرة عنها بلوحاتها في كل الماضي والحاضر. وتعبر خلود عن علاقتها كفنانة بالمكان والمرسم والطبيعة: "أتأمل وأدقق النظر في كل شيء منذ كنت طفلة حتى الآن، وأحس بسعادة عندما أرى البحر أو أمشي على رمال الصحراء، ففي الصحراء أحس بصفاء الأرض والسماء وعظمة الخالق وضرورة التأمل في هذا الكون، أتأمل الخطوط البعيدة وربما أتخيل صوراً كثيرة ومشاهد وأناساً، أتخيل النبات والزهور، وأدقق في الأحجار والأشواك، وكل ما يعيش في أحضان الطبيعة أتأمله وقتها، أشعر بسعادة فائقة حينما أرى الرمال وهي تتراقص بخطوطها ومُنحنياتها وارتفاعاتها وانخفاضاتها، وفي البحر أحس بالثورة والغضب أحياناً وبالخوف والعظمة. وتضيف: كم يسعدني هذا التأمل خصوصا عندما أذهب إلى محال بيع التحف القديمة التي أشتم منها رائحة الماضي والتراث، فأعيش بينها وأستلهم منها أفكاراً جديدة للوحاتي، أما المرسم فهو مكان ذو طبيعة وسحر خاص، ينبعث من جدرانه وأشيائه لاستقبال مولود جديد معرض للحياة أو الموت بل لوحة معرضة للنجاح أو الفشل، وعندما أذهب إلى الرسم فيه أنسى العالم من حولي، وأجد نفسي في عالم مثالي لا حواجز ولا حدود ولا تعقيدات فيه. خلود الجابري قدمت للفن العام الماضي معرضين، الأول بعنوان "محطات" في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بأبوظبي، والثاني "بنت المكان" بمنطقة البستكية في هيئة دبي للثقافة والفنون، وشاركت في 13 معرضاً خارجياً، ونالت العديد من الجوائز خلال الدراسة وفترة عملها. ازدهار الحركة الفنية أوضحت خلود الجابري رداً على سؤل عن مستوى رضاها عن أعمالها الفنية وما تطمح إليه، أنها عندما تقرأ عن ما وصل إليه الفن من ازدهار في الحركة الفنية تتمنى لو عاشت في ذاك الزمان، وشهدت إنجازات الفنانين العظماء في ظل أدواتهم البسيطة التي كانوا يمتلكونها. وقالت إنها تشعر أنها لم تقدم شيئاً للفن مقارنة بما قدمه السابقون، مشيرة إلى أن عالمنا مرتبط بالماديات على حساب الجوهر في العمل، حيث تلاحظ زيادة الاهتمام بالمظاهر في شتى النواحي، وأصاب ذلك الفنان، وأصبح الهم الأول عند بعضهم التصفيق لعمله بغض النظر عن قيمته. وشددت الجابري على تكاتف الجهود لبناء حركة تشكيلية قوية بداية من المنزل إلى المدرسة، وصولاً إلى المراسم، داعية المؤسسات الحكومية والخاصة إلى الاهتمام بالفنون وتقديم الدعم اللازم للنهوض بها، وطالبت أولياء الأمور بأن يعطوا الحرية للطفل في التعبير عن نفسه، وأن يرسم هو وليس أخوته أو من يكبره حتى يعلقها في معرض، أو يقدمها إلى مدرسته.