نوف الموسى (دبي)
عندما أتحدث عن فكرة وضع الشخصيات على المحك من قبل الروائي، والتطرف الأقصى في صناعة الحدث، الوصول بالأشياء إلى ذروتها، وتحقيق عدالة المواجهة فيما بينها، هي إشارة حدسية، لا تشبه فعل الروائي قسطنطين جورجيو عندما ارتحل بالمواطن الروماني أيوهان موريتز، في روايته الشهيرة والبديعة «الساعة الخامسة والعشرون»، وسُحقت فردانيته وحريته عبر الأنظمة الشمولية، بل أقصد تماماً ما أشارت إليه الروائية الكويتية بثينة العيسى، أحياناً يكفي للروائي، أن يحدُث أمر ما لمرة واحدة، مهما بدا نادر الحدوث، ليُبنى عليه العالم الروائي، وتُوضع من خلالها الشخصيات على محك معين. ورغم اختلافات الروائيين، حول مسألة موقع «قوة التحول» في الرواية، حيث يبدأ البعض بجعلها الانطلاقة السردية، وآخرون يختتمون بها. وتبقى الجرأة بجعلها أساس الرواية بالمجمل، لأن ميزة تحول الشخصيات ومكاشفتها، يبرز الجانب الإنساني، ويتيح فُرصاً لوضع احتمالات التبرير لفعل الشخصية، وأحياناً كثيرة يُظهر مستوى جهل الإنسان بنفسه، أتذكر جيداً عندما أوضحت بثينة العيسى عن شخصية جاسم في روايتها «كل الأشياء»، بقولها كيف أنه بالإمكان أن تكون الشخصية جزءاً من النموذج الذي ترفضه، فالأخير أحد الدوافع الرئيسة لتحفيز التحول في اتجاه ما، عادةً يكون غير متوقع.
هناك سر في عملية التحول يناقشها الروائيون، بخفة فيما بينهم، لفت حولها الروائي الفرنسي جيلبرت سينويه، مرةً، معتبراً أن الأمر لا يخلو من الدهشة، فالشخصية عند دخولها في مراحل التحول المختلفة، تدخل في تشكل خاص فيها، لا يعلمه الروائي، هو فقط يراقب الشخصية أمامه، وهي تخلق نفسها من جديد، قد يرسم الروائي المسارات مسبقاً، ولكن بالتأكيد هناك تسريب مجهول المصدر، يدفع بالشخصية نحو فعل ما، فكم من شخصيتين في الرواية، لم يُقر لهما الوقوع في الحُب، إلا أن روحهما استمالت نحو تجربة العشق في الرواية. وبالمقابل فإن التمعن في مسألة «الصراع»، كأحد أوجه التحول، يبدو أمراً مألوفاً، إلا أن تبسيط التعقيد فيها، أداة مهمة لإثراء إدراك النص الإبداعي، نموذجاً على ذلك، قصيدة «الحُب والصراع»، للشاعر الراحل غازي القصيبي، يقول فيها بجمالية مفرطة:
«يتوقع الرجل من المرأة أن تكون مجرد امتداد أنثوي لشخصيته، أن يتحول وجودها إلى ملحق تابع لوجوده، أن تنطفئ كل طموحاتها وآمالها وتطلعاتها، في سماء حبّه. وتتوقع المرأة من الرجل أن يعيد رسم نفسه على النحو الذي يلائمها، فيتخلص من عاداته السيئة (في نظرها)، ويطلق شاربه أو يحلقه (حسب الأحوال)، ويقلل ساعات عمله، ويتنكّر لأقاربه وأصدقاء طفولته، تتوقع منه، باختصار، أن يتفرّغ لحبها. ويبدأ الصراع ويتخذ ألف شكل وشكل. أما الجوهر فواحد لا يتغيّر: رغبة كل في الاحتفاظ بشخصيته وذاتيته وتميزه أمام خطر الذوبان والانصهار والاندماج».
التفكير بمناطق الصراع في الأعمال الأدبية، ساهم في تصعيد المشهدية السينمائية، والاشتغال على مسألة الدلالات فيها، فلا يمكن على سبيل المثال نسيان الذروة التي صنعها الممثل جيمس فرانكو في فيلم «127 ساعة»، المقتبس من كتاب (Between a Rock and a Hard Place) كتبه أرون رالستون، عن قصة حقيقية حدثت له، عندما كان يمارس رياضة تسلق الجبال، إبان سقوط صخرة عليه، هوت على يده اليمنى، لتبقيه محبوساً في زاوية ضيقة، حيث لم تنجح محاولاته للإفلات منها، ما جعله يستخدم سكيناً صغيرة غير حادة، كان يحملها في حقيبته، لتقطيع أجزاء من شرايين يده وعظامه ببطء شديد، عبر ساعات طويلة من الألم، وبطولة المشهد ذهبت لمعايشة المشاهد مستوى الصراع الذاتي الذي يتطلب في الكثير من الأحيان أن يتخلى الإنسان عن جزء من جسده ونفسه للتمسك بالحياة. والسؤال الملح: هل تملك جميع الشخصيات في حياتنا، وقتها قوة أرون رالستون نفسها، إبان مرحلة التحول، لو اضطرت لخوض التجربة نفسها، التباين في «قوة التحول»، سيجعل البعض ربما يفضل الاحتفاظ بيديه، ما يبرز مصادر القوة المتعددة ومعجزتها الكامنة لدى الإنسان.