مشهد بيع الخضار على الطرقات بعربات مكشوفة أو المناداة بين الأحياء لبيع ما ينقل على الأكتاف أو في سيارات خاصة، بات نادراً، بعد أن كان ظاهرة في الأيام الخوالي في المدن وعلى طرقاتها العامة والداخلية. في هذا المشهد المسرحي على الرمال، شيء من الحنين إلى المرحلة التي سبقت إحاطة الناس بكل ما يشي أن ثمة مدينة عصرية بكل التسهيلات المعيشية الموفرة بكثافة. في هذا المشهد شيء من البركة، لأن هذه العربات التي لا تحوي ثلاجة تراهن على عابر سبيل يلفته لون البطيخ الأخضر مثلاً، أو المقطع فيظهر منه لون القلب الأحمر... فتنسى الحرّ، ربما وتركن جانباً للحصول على رأس بطيخ «على السكين»، تضمن جودته إذا ما أردت ذلك، وتشتريه بثمن زهيد. تاج محمد البلوشي يقول «كل حبة تزان... وبواسطة الميزان يحدّد الثمن... غير أن الكيلو بدرهمين»، فيقول أحد الزبائن الذي ركن سيارته على الرمال لشراء البطيخ الآتي من مزارع في السعودية «يا بلاش». غير أن هذا الزبون يفاصل البائع للحصول على خصم إضافي... السوق عرض وطلب. البلوشي يعتاش على بيع البطيخ في موسمه فقط، فيركن عربته إلى جانب الطريق لمدة شهرين، وهو قد اعتاد على هذه المهنة منذ الصغر، ولا يهوى بديلاً لها. ويقول «كنت في السابق وزملائي البائعين نبيع البطيخ والخضار على عرباتنا بثمن زهيد لأننا لسنا من مستأجري المحال التجارية، كنا نركن في مدينة زايد، في الصنايع، وكانت الزبائن يقصدوننا ويعرفون أماكننا هناك»... ويضيف «تغيرت الأيام وتبدلت الأحوال، باتت المدينة أرصفة ومبان ومواقف وشوارع واسعة وضيقة، وصار من الصعب تواجدنا هناك، خصوصاً أن البلدية منعت وقوفنا للبيع على الطرقات، فابتعدنا عن المدينة ورحنا إلى الطرقات غير المزدحمة التي تربط المدينة بأطرافها». على طريق السويحان، تقف عدة عربات جنباً إلى جنب، أصحابها بعضهم من الأقارب والبعض باتوا أقارب بالزمالة ووحدة الحال، فباتوا يعرفون بعضهم البعض، يتسلون مع بعضهم البعض، ويتحادثون في انتظار الزبائن من عابري السبيل، ولا مشكلة إذا توجه زبون من بائع إلى آخر، فالجميع متعاون... تحت قيظ الشمس والحرّ والرطوبة العالية يقفون خارج سياراتهم، ويديرون محركاتها من حين إلى آخر لاستخدام المكيّف، والبعض يرفع الغطاء الأمامي ويدير المحرّك لتخفيف الحرّ عن المحرّك! البلوشي من دبي، غير أنه اعتاد منذ الصغر القدوم إلى أبوظبي لبيع البطيخ والخضار، ولكن بخجل، فبضاعته ليست بكمية كبيرة، غير أنه يؤكد أنه يأتي بما يكفي وثمة الكثير من عابري السبيل الذين يفضلون بطيخه على بطيخ المحال الأخرى، على الرغم من أنه تحت الشمس وليس ما يبرّد حبّاته في حرّ الصيف سوى قطعة قماش تفرد لإلقاء الظلّ على الفاكهة. البيع على العربة بات محصوراً في مواسم البطيخ القادم من السعودية، فقط لا غير... والغلّة من البيع هي غلّة بطيخ وشمّام فقط. غير أن جاره في العربة المركونة قرب عربته، يضع مع البطيخ الأحمر والشمّام الأصفر، البندورة (الطماطم) ويبيعها بثمن ينافس سعرها في البقالات والسوبرماركت. ثمة من يعرفون أنهم سيحصلون على ثمن زهيد يدفعونه، وثمة من يشعرون بالحنين لأيام غابرة، فيشكل الوقوف لديهم للشراء شيئآً لا يتعلق بحاجتهم إلى شراء البطيخ أكثر ممّا هي الرغبة في النزول والمفاصلة الحرّة والدردشة مع البائعين. بعض المظاهر الاجتماعية الاقتصادية من الأيام الغابرة لا تزال مستمرة وإن بخجل، فمن هذا البيع الحرّ في العربات الراكنة إلى جوانب الطرقات، قد يتناهى للبعض في أحياء أبوظبي صوت طرقات على الحديد ولا يعرف مصدرها، ولكن إذا نظرت إلى الشارع لوجدت «بيك آب» ينقل عبوات الغاز قادم لتسليم البضاعة للبقالين والسوبرماركت الصغير في الحيّ، ولا يزال مساعدو السائق يمارسون عادة قديمة وهي الضرب على العبوات الحديدة ايذاناً بالوصول لإفسح الطريق أمام إنزال القناني الممتلئة وأخذ تلك الفارغة. ولصوت الطرقات لحن محدّد لا يتغيّر ولن يعرفه إلا من صاغ سمعه وشعر بأن ثمة ما يستحق النظر مع السمع، في مشهد حنين لأيام عبرت وتعبر بسرعة في كل المدن.