الموانئ ذاكرة لا تشيخ
على سطح مياه البحر ليلاً تلألأت نجمات السماء، وعلى الرمال الذهبية رُسمت أحلام طفولة وردية، ومع النسمات الباردة أثلجت صدوراً ملتهبة حراً وأنيناً، ومع كل إطلالة موجة على الشاطئ تتجدد الذكريات مشاهد فراق، وألماً دفيناً تُدمع العيون، فتزيد المياه فيه تدفقاً، ومشاهد فرح ترسم ابتسامة شوق وحنين للغائبين هذه هي الموانئ التي كانت المتنفس الوحيد للصيادين وأهل البحر.
تحتل موانئ البحر مكانة روحية عميقة في وجدان أهل الإمارات عامة، والصيادين خاصة، وتعبق ذاكرة الناس في هذه المنطقة بقصص البحر وحكاياه وأخباره من تلك التي عايشوها أو تناقلوها جيلاً بعد جيل، حتى صار هذا الأزرق بكل شطآنه وموجه ومراكبه متناً لحياة الناس وأعمالهم وأرزاقهم، وملتقى لأهله وحاضناً لهم وحاملاً لجملة واسعة من الطقوس والعادات والمفاهيم المرتبطة به.
يعتبر الصيادون البحارة هم أبناء البحر الأكثر علماً بخباياه وأسراره وأحواله بين ساعة وأخرى، فلطالما كان مصدراً لأرزاقهم ولقمة عيشهم، وحائلاً بينهم وبين العوز والجوع والحاجة، ما جعلهم يحفظون خارطته على اتساعها، ويدركون لغته على كثرة أبجدياتها، فلا يفوتهم من أحاديثه أو أخباره أو أحواله شيء.
لذلك رغم تعاقب الزمان والمكان تبقى الموانئ ذاكرة لا تشيخ عند الكثير من البحارة المواطنين، ذلك المكان الذي ما زال يختزن الكثير والكثير من ذكريات الغوص وصيد اللؤلو والأسماك، ولو كشفنا الغطاء في لحظة ما لرأينا البحر محملاً بأفراح العائدين من الغوص وصيد السمك واللؤلؤ، وبأحزان ناس ماتوا في هذا البحر من أجل لقمة العيش. ولرأينا آخرين وجدوا هذا المكان، وهم يتذكرون الكثير والكثير، فتارة يأتون بهمومهم ليخلطوا دموعهم المالحة مع دموع البحر ليزيدوها ملوحة، وتارة هم فرحون يريدون أن يرتموا في أحضانه.
يسترجع الصياد ذكرياته، ويقول: «في هذا المكان ولدت، تعلمت الكثير من البحر وأسراره، كان والدي رحمه الله المعلم الأول في حياتي، فخلال تنقلاته وسفراته عبر «اللنج»، كنت أتعلم منه الكثير والكثير، كان البحر هو مصدر رزق الكثير من الصيادين، واليوم، برغم مرور سنين طويلة على هذه الذكريات التي أحن إليها، مازلت أتذكر تلك الأيام الحلوة التي لن تمحى من ذاكرتي.
يلتقط أبو محمد أنفاسه، ثم يقول بابتسامة هادئة: «لقد قضينا أحلى أيام العمر في رحلات الصيد أيام زمان، فقد أعطتنا تلك السفرات الطويلة هويات ثقافية وحضارية وإنسانية، وأنا حزين لأن أولادي ليست لديهم الفرصة لأن يعيشوا اللحظات الجميلة التي قضيناها مع البحر وأهواله.
المصدر: أبوظبي