إميل أمين

كيف أخبر عالم الآثار الشيخ زايد بوجود كنيسة ودير في الجزيرة؟
تبقى الإمارات في عام التسامح مثالاً للأمة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة وفي روح واحدة من المودات الإنسانية الصافية والضافية، تسامح حقيقي من القلب والعقل، تسامح هو نتاج إرادة خلاقة، وقيادة حكيمة، ووعي مستنير، بأن الإنسانية ليست سوى تراكم فعّال من الخبرات الإيجابية، ينهض بالبشر، ويعمل على ترقي الإنسان في كل زمان ومكان. في هذا السياق جاءت الإمارات لتكشف عن فصل جديد من فصول الحضارات الإنسانية التي عاشت على أراضيها يوماً ما، فصل موصول بالبشر والحجر معاً، والأخير يروي سيرة الأولين وما كان من شأنهم وانتماءاتهم العقدية عبر أكثر من ألف وثلاثمئة عام، فصل يكشف عن وعي العرب للتنوع والتعدد، ويضيف إلى النسيج الاجتماعي للعالمين العربي والإسلامي، سبيكة جديدة تقوّي من الجدار الإنساني، ومن هنا فقط يمكن الحديث عن «كنيسة ودير صير بني ياس»، تلك المروية الشيّقة عن تسامح الإمارات عبر الزمان والمكان.
تعد جزيرة صير بني ياس إحدى أكبر الجزر الإماراتية الطبيعية، وتقع على بعد 250 كيلومتراً جنوب غرب أبوظبي، وتبعد نحو تسعة كيلومترات من جبل الظنة، وتعد نقطة عبور إلى جزر أخرى مثل جزيرة دلما.
وبحسب الموسوعة العالمية البريطانية، فإن الجزيرة الإماراتية التي يبلغ طولها 17.5 كم من الشمال إلى الجنوب، و9 كم من الشرق إلى الغرب، ما يجعلها أكبر جزيرة طبيعية في الإمارات العربية المتحدة، كانت يوماً ما مليئة بالبشر، وتقوم على أرضها حياة إنسانية كاملة، وذلك قبل أن تتحول إلى محمية طبيعية، وتعد اليوم موطناً للآلاف من الحيوانات والطيور النادرة التي تتجول فيها بحرية كاملة، وتقوم عليها أنشطة متعددة مثل السفاري، والتجديف، وكذا ركوب الدراجات الجبلية والرماية والمشي والغطس.
والشاهد أن الأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيّب الله ثراه»، هو من أولى اهتماماً خاصاً بهذه الجزيرة، وقد دشنها من جديد عام 1971 وأعاد الاهتمام إليها، بوصفها جزءاً من الأراضي الإماراتية، والتي تروي تاريخ أهل المنطقة، عبر دروب الزمان، وكانت لها في نفسه مكانة وأهمية خاصة، ولهذا درج على زيارتها بشكل دائم، واستشرف بروحه الوثّابة، أنها مليئة بحكايا الإنسان الإماراتي القديم.

قصة
كيف تم اكتشاف دير وكنيسة صير بني ياس؟
للقصة تاريخ يعود إلى عام 1992، وذلك حين كان الشيخ زايد، يصحب معه عدداً من الباحثين عن الآثار والمنقبين عنها، في محاولة منه لاستجلاء تاريخ تلك الرقعة الجغرافية العزيزة على نفسه.
من بين هؤلاء كان المؤرخ والقائد لفريق الاكتشافات، البريطاني «بيتر هيلر»، ذاك الذي اكتشف المكان، وعلم من خلال خبرته، أن هذه جدران وبقايا دير وكنيسة قاما على الأراضي الإماراتية منذ نحو 1400 عام، ما يعني أن المسيحية وجدت هناك بشكل أو بآخر، غير أن «هيلر» كانت لديه معضلة في صباح اليوم التالي، وتمثلت في كيفية إخبار رئيس الدولة بمثل هذا الخبر، وكيف يصارحه بأن المسيحية كانت هناك ذات يوم، فربما يغضب ذلك الشيخ زايد، وينهي عمله البحثي والاستكشافي مرة واحدة.
في الغد ظهرت على وجه «هيلر» علامات القلق والحيرة، الأمر الذي دفع الشيخ المؤسس لسؤاله عما به، فأجابه بالحقيقة، وسرد أمامه قصة الدير والكنيسة وآثارهما.
كانت دهشة «هيلر» بالغة حين أجابه الأب المؤسس بالقول: «وما الذي يضيرنا إن كان أجدادنا مسيحيين قبل أن يؤمنوا بالإسلام، فالأمر يعد إضافة حضارية لنا ولشعبنا».
كانت رؤية التسامح والتصالح حاضرة في قلب وعقل زايد الخير في الصحو والمنام، في الحل والترحال، وقد ترك من خلفه، طيّب الله ثراه، زاداً من التسامح الإيجابي الخلاق، ليأتي من بعده «عياله»، ويكملوا المسيرة، ويسلطوا الضوء على وجه من أوجه حضارة إماراتية إنسانية.

ملامح
وجّه الشيخ زايد، منذ أوائل تسعينيات القرن المنصرم، الجهود اللازمة من أجل بلورة هذا الاكتشاف الكبير والمثير والمهم في الوقت عينه، وجّه بضرورة توفير كافة الإمكانات اللازمة للتنقيب العلمي الدقيق عن هذا الأثر والحفاظ عليه، ليكون رمزاً تاريخياً وسياحياً تفخر به الإمارات.
ويضيف المكتشف الأصلي «بيتر هيلر» أن الشيخ زايد في ذلك الوقت اهتم بالحفاظ على هذا المكان التاريخي واستكمال الأعمال، لتصبح رمزاً تاريخياً شاهداً على التسامح والتعايش في الإمارات.
أسفرت عمليات التنقيب عن اكتشاف المهاجع الشرقية والشمالية بالدير والكنيسة والسور المحيط والمنازل ذات الفناء، وفي العام 1994 ثبت أن الرسم المعماري للاكتشاف يؤكد أنها كنيسة تعود للمسيحيين الأوائل، إذ عثر على أول صلبان مصنوعة من الجص، كما عثر في الموقع عينه على مئات من البقايا الأثرية في الكنيسة والدير والمنازل القريبة، التي تعكس اعتماد السكان على البحر للحصول على الغذاء، إضافة إلى رعي الماشية والأغنام والماعز، كما يشير الزجاج والسيراميك في الموقع إلى تجارة السكان الواسعة في هذه الفترة عبر الخليج العربي.
وفي تقدير المكتشف أن الدير والكنيسة اللذين يقعان ضمن الجزيرة، ظلا مزدهرين حتى بعد انتشار الإسلام في المنطقة.
لكن ما الذي أكد أنها كانت كنيسة بالفعل في ذلك الوقت؟
الذين لديهم علم عن الفكر الروحي والآبائي في نشأة الكنائس بصورتها الحالية، يوقنون بأنها قولاً وفعلاً كانت كذلك، سيما وأنها تنقسم - كما بقية الكنائس المعاصرة- إلى ثلاثة أقسام:
في المنتصف كان هناك الصحن المركزي، ذلك الذي يجتمع فيه الرهبان للصلاة، ولو وجد عن طريق الصدفة أن شارك معهم في الصلاة فريق آخر من غير الرهبان، يكون هذا الصحن هو محل بقائهم إلى نهاية الصلاة. والدخول إلى ذلك الصحن كان يتم عبر المجاز الذي يقع على شمال المدخل.
وفي الجانب الشرقي من الكنيسة كان يوجد ما يسمى بـ«المذبح» وفيه كان كبير الكهنة من الرهبان يترأس الصلاة المعروفة بـ«القدّاس»، والتي تعد الصلاة الجوهرية لدى العالم المسيحي بقديمه وحديثه.
أما الجزء الثالث في زاوية المبنى فيعرف بالبرج، وهذا عادة ما كان يستخدم في تخزين الاحتياجات والمؤن الغذائية اللازمة لحياة الرهبان، وفي داخله أيضاً عادة ما كان يتم حفر آبار للمياه العذبة، ناهيك عن استخدامه كـ«منارة» تشعل في الليل لتضيء للبحّارة أحياناً، ويمكن من أعلى نقطة فيه المناداة للصلاة، قبل أن يتم اختراع الأجراس في القرون الوسطى، بشكلها المعروف حالياً.
رويداً رويداً تبين للمكتشفين وجود غرف أو آثار لغرف من حول الكنيسة، هذه الغرف التي تعرف باسم «المهجع» أو «القلالي»، كانت محل سكن الرهبان، وصغر حجمها جداً يعود إلى أنه لم يكن مسموحاً أن يعيش فيها أكثر من راهب واحد، وقد بنيت جميعها ومعها الكنيسة من الحجر الجيري والطوفة (الحجارة البحرية).
ولعل ما أكد على طبيعة المكان، وكونه ديراً كان عامرا ذات يوم، وجود رفات آدمية في ذلك الموقع مدفون بالقرب من الكنيسة، مما يدلل على أنه رئيس للكهنة أو الرهبان، وربما أحد الأساقفة لتلك الجماعة المسيحية التي عمرت هذا الدير في ذلك الوقت، وهؤلاء جرى العرف أن يتم دفنهم أسفل المذبح مباشرة، وبعيداً عن مدافن الرهبان التقليدية، لما لهم من كرامة كهنوتية خاصة، بحسب التقليد المسيحي.

جذور
وهناك عدة أسئلة يطرحها هذا الكشف المثير على المعاصرين من الباحثين:
الأول يتعلق بالمسيحية في أرض العرب، وهل وجدت هناك يوماً ما، وكيف كان حال وجودها، ومن من القبائل انتمى إليها؟
والثاني حول الهوية المسيحية لهؤلاء الرهبان الذين عمروا دير وكنيسة صير بنى ياس، وانتمائهم الطائفي، لا سيما وأن تاريخ بناء الدير والكنيسة يعود إلى القرن السادس أو السابع الميلادي، أي في التوقيت الذي كان الانفصال الديني قد حدث فيه، ما بين الكنيسة الشرقية والغربية، وحتى الشرقية ذاتها كانت قد انقسمت بدورها إلى عدة طوائف، وهي قصة كبيرة وطويلة قائمة بذاتها، وتحتاج لمعالجة خاصة، غير أننا سنحاول الإشارة إليها باختصار غير مخل.
تبين لنا الكتب المسيحية، لا سيما السفر المعروف بأعمال الرسل «الحواريين»، أن العرب كانوا وعبر رحلات الصيف والشتاء على معرفة بما يحدث في أرض فلسطين، وبرسالة السيد المسيح، كما أن بعض الحواريين قد ذهبوا إلى التبشير هناك، وعليه فقد كانت طرق التبادل التجاري الدرب الأول لوصول المسيحية إلى عمق شبه الجزيرة، ولعل أفضل مرجع أو مرجعين للبحث في هذا الشأن هما مؤلفا الأب لويس شيخو اليسوعي اللبناني الأصل عن شعراء النصرانية في الجزيرة العربية، والآخر هو كتاب «المسيحية والحضارة العربية» لصاحبه العلامة الدكتور الراحل الأب جورج قنواتي المصري الأصل.
ومن بين الروايات العديدة التي نجدها عن تلك الفترة استقبال ملك «حمير» وفداً يرأسه الأسقف «ثاوفيلوس»، في مطلع القرن الرابع الميلادي، الأمر الذي يدلل على أن المسيحية التي دخلت اليمن كانت مشبعة بالأفكار الآريوسية المنتسبة إلى الكاهن الليبي «آريوس»، والتي رفضتها المجامع المسكونية المسيحية في القرون الأولى.
والثابت أن دراسات عديدة تبين أن الغساسنة كانوا من المسيحيين العرب، وهناك من الوثائق ما يعود إلى تلك الفترة، وبخاصة إلى زمن «ابن الحارث وخليفته»، وقد لقب رسمياً«الحارث البطريق ورئيس قبيلة»، والترجمة السريانية قد احتفظت باللقب نفسه، وقد ورد اللقب في تقارير المجامع الكنسية، والبطريق أو البطريرك - كما هو معروف- منصب ديني مسيحي لكبير الكهنة والأساقفة وعموم المسيحيين.
وبجانب الغساسنة، هناك «اللخميون»، وتنتسب هذه القبيلة إلى بني لخم، ولخم تقع شمال الكوفة على الضفة اليمنى من الفرات وعاصمتها الحيرة، وكانت تعد مركزاً للقبائل العربية، وقد آمنت أعداد كبيرة منهم بالمسيحية، ما جعل من الحيرة مركزاً مسيحياً كبيراً في بداية القرن الخامس الميلادي، وقد عرفت المسيحية طريقها إلى العراق باكراً، وفي منتصف القرن الخامس الميلادي جرت هناك تطورات هامة، ومن أهمها تمسكهم بالمذهب النسطوري، حتى أصبحت الحيرة مركزاً دينياً للنساطرة، وقد كان على رأس هؤلاء الملك النعمان الثالث الذي ساهم في ترسيخ أفكار ومعتقدات النسطورية، ذلك المبدأ الذي يصل بيننا وبين كنيسة ودير جزيرة صير بني ياس، والرهبان الذين قاموا على عمارته.. ماذا عن ذلك؟

مسار
عرفت المسيحية في شبه الجزيرة العربية بأنها مسيحية نسطورية، نسبة إلى نسطور بطريرك القسطنطينية، والذي عارض تعاليم مجمع أفسس عام 431م، ولهذا تمت إدانته ومن ثم عزله عن كرسيه، ولاحقاً استقل أتباعه عما يعرف بـ«الكنيسة الأولى أو الكنيسة الجامعة»، عقائدياً وإدارياً.
كانت شبه الجزيرة العربية الموقع والموضع حيث نشأت الكنيسة السريانية الشرقية التي تعرف بالنسطورية، والتي لم يتبق منها إلا القليل جداً في أيامنا.
شكّل هؤلاء السريان الشرقيون، وبعيداً عن الكنيسة البيزنطية، كياناً مسيحياً كبيراً نما في ظل الساسانيين بنوع خاص، وحين جاء زمان العباسيين، تحولت النسطورية إلى فكر أقرب ما يمكن أن نصفه به اليوم هو «كنيسة الدولة».
أقرّ العباسيون لاحقاً بتقدم هذه الكنيسة على الكنائس الأخرى، واعترفت السلطات العباسية بـ«جاثليقهم» أي «بطريركهم» زعيماً لسائر المسيحيين على اختلاف مللهم، وأكدت تفرّده بالتقدم على سائر كبار تلك الطوائف.
وتخبرنا المراجع المشار إليها سلفاً، أن الكنيسة النسطورية قد انصهرت في دار الخلافة بشكل كبير، وانتقل بطاركتها إلى بغداد، عاصمة الخلافة، ثم انتقلوا إلى عاصمة للخلافة، وكشأن كل علاقة بين الدين والسياسة، فقد تبدلت أحوال هذه الجماعة في العقود التالية، وتقلّبت بحسب الأوضاع السياسية وتحولاتها الصاخبة.
وقد اشتهر من النساطرة أيام الخلافة العباسية البطريرك تيموثاوس (780 ـ 823م)، والذي نقل مقره البطريركي من المدائن إلى بغداد، وفي عهده امتدت الكنيسة النسطورية غرباً إلى دمشق والقدس وحلب، وشرقاً إلى الهند.
وقد لعب المسيحيون النساطرة دوراً كبيراً في الحقول العلمية والفكرية المختلفة في زمن العباسيين، وعرفوا بتفوقهم في مجالي الكتابة والطب.
أما عن الكتابة، فيمكن القول إنهم الفريق العربي الذي قام بترجمة الآداب والعلوم اليونانية إلى لغتهم السريانية، وتالياً إلى اللغة العربية، وقد كان من بينهم شعراء وفلاسفة ومفكرون وكتّاب بارزون، وقد قربهم حاكم البصرة «أبو موسى الأشعري» منه كثيراً جداً، وشغلوا واجهة العمل الإداري في الدولة العباسية لعقود طوال.
وفي الطب عرفوا بسلالات الأطباء الذين اعتمدهم الحكام بنوع خاص لخدمتهم وخدمة عوائلهم وذويهم، وكان لهم مكانة واحترام كبيرين.
ويبقى السؤال: هل من ذكر لهؤلاء النساطرة في أيامنا هذه في منطقة الخليج العربي؟
الثابت أنه في القرن الخامس عشر انضم بعض النساطرة إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أثناء انعقاد مجمع فلورنس عام 1442 م، ولقبوا من وقتها بالكلدان.
أما ما تبقى من النساطرة فقد نزحوا من جبال كردستان إلى العراق، وتخلّصوا من اسم النساطرة وأخذوا اسماً جديداً وهو «الآشوريون»، ليتميزوا به عن الكلدان الكاثوليك، ولهم بطريرك ومقره البطريركي في طهران، واسمه «كيوركيس صليوا الثالث»، وقد سبقه بطريرك آخر واسمه «مار دنجا الرابع» والذي انتخب بطريركاً عام 1976، واعتبر هذا البطريرك من الذين عملوا على جمع وتوحيد شعبه المنتشر في العراق وسوريا وإيران وجنوب الهند، ويعد بدوره منفتحاً على كل الكنائس شرقاً وغرباً، وقد شارك في حفل تنصيب البابا يوحنا بولس الثاني الراحل، بابا على الكرسي البطرسي في روما عام 1978.

عن الإمارات الحاضنة والدور.. قراءة ورؤية
ما الذي يعنيه هذا الاهتمام الإماراتي بتدشين دير وكنيسة صير بني ياس، كموقع أثري هام في دولة الإمارات العربية المتحدة، بثوبها العصراني المتسامح طولاً وعرضاً، شكلاً وموضوعاً، والباحثة عن الجديد في سياق الاتفاق لا الافتراق؟
الجواب نجده طي سطور المقال، الذي سطره سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، على صفحات «الشرق الأوسط»، وفيه أشار سموه إلى أن البشرية تعيش هذه الأيام أوقاتاً عصيبة فرضتها مجموعة من التحديات غير المسبوقة، حيث عادت سيادة الخوف وأجواؤه لتلقى بظلالها على الساحة العالمية.
في هذا السياق، يؤكد سمو الشيخ عبدالله بن زايد على أنه أصبح لزاماً علينا جميعاً أن نعمل يداً بيد في هذه الأوقات العصيبة تحديداً، لتعزيز روح التسامح وترسيخها بين الشعوب، بغض النظر عن الدين والجنس والتراث والثقافة، وكذا تعزيز قدرة التصدي لنزعات التطرف والحقد والكراهية والانقسام، وعلينا ـ حسب قوله ـ أن نعمل جاهدين لنسمو فوق خلافاتنا، والعمل على نشر الرحمة والتسامح والاعتدال في مجتمعاتنا. يشير سمو الشيخ عبدالله بن زايد، إلى أن جذور التسامح الديني الذي تعيشه الإمارات ليس وليد اليوم أو الأمس، لكنه يمتد عميقاً في التاريخ الإماراتي، حيث كان المسيحيون يتعبدون في الدير المسيحي بجزيرة صير بنى ياس، الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع الميلادي. التسامح الإماراتي الخلاق إذن، هو الذي يفتح الباب واسعاً أمام إعادة قراءة هذه التراثيات، والنظر إلى الأجيال القادمة، هو الهدف، كي يضحى الماضي لهم تراثاً ونبراساً على حد سواء. وبدوره، يؤكد سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، ممثل الحاكم في منطقة الظفرة، أن دير وكنيسة صير بني ياس يعدان رمزين للتنوع الثقافي في الإمارات، وقد حظيا باهتمام ورعاية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، نظراً لقيمته التراثية والثقافية العميقة، باعتباره دليلاً تاريخياً هاماً وجزءاً من التراث الحضاري للدولة.
ويشير سموه، إلى أن الاهتمام بهذا الموقع يعد دليلاً على التزام الدولة بحفظ آثارها وتاريخها، وحرصها على نشر قيم التسامح الديني وحرية الاعتقاد.
قبل نحو عامين، وتحديداً في يناير من عام 2017، زارت وزيرة التسامح وقتها، معالي الشيخة لبنى القاسمي، ووفد أساقفة الكنائس في دول الخليج العربي، موقع الدير والكنيسة في جزيرة «صير بني ياس»، في أبوظبي، وقد كانت الزيارة على هامش المناقشات التي دارت، بشأن كيفية مساهمة المجتمعات المسيحية في نشر أجندة التسامح لحكومة الإمارات.
في تلك الزيارة، كانت معالي الشيخة لبنى القاسمي تشير إلى أن «الدير يعتبر رمزاً للتنوع الثقافي في دولة الإمارات، وإلى أن الأمم تتطور وتزدهر عندما تتقبل اختلافاتها وتقوى أوجه التشابه بينها»، وأضافت معاليها: «أن الاهتمام بهذا الموقع يعتبر دليلاً على التزام الدولة بحفظ آثارها وتاريخها، لا سيما بالنسبة لتلك المواقع التي تمثل قيم التسامح والتعايش والسلام».
وفى منتصف يونيو (حزيران) الماضي، وخلال حفل تدشين دير وكنيسة الجزيرة التي ورد ذكرها في المصادر الأوربية منذ العام 1590، كان معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح، يؤكد على أن الكنيسة والدير، يفتحان الباب واسعاً لجموع الشعب الإماراتي لفهم جذوره التاريخية، لكن من منظور جديد، منظور قائم على الفهم المعمق للتسامح وقبول التنوع الإنساني، والذي يركز على أهمية تبادل الحوار مع الثقافات الأخرى ومد جسور التواصل. ويتابع: «يجسد الموقع أحد أعمق صور القبول بالآخر، والتنوع الحضاري، وذلك بالتزامن مع عام التسامح، والذي انطلق هذا العام مع الزيارة التاريخية لقداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية للإمارات».
ويمكن القطع، بأن هذا الدير وتلك الكنيسة، يفيدان بأنه لم يكن هناك صدام تاريخي بالحتمية والضرورة على أرض الجزيرة العربية بين سكانها من مختلف الأديان والثقافات، الأعراق والاثنيات، وقد فتح الإسلام الأبواب واسعة للتعددية واحترام الآخر والعيش المشترك، ما ينافي ويجافي ظاهرة التطرف والعزل، الإبعاد والإقصاء، والتي تصل إلى حد سفك الدماء في حاضرات أيامنا، من قبل المتطرفين ورافضي منهاج التسامح والتصالح.