المقصود بالتكنولوجيات الجديدة مجمل التقنيات المرتبطة بالتطبيقات الطلائعية لهذه العلوم التي يطلق عليها اختصارا NBCI أي علوم النانو والهندسة الجينية وعلوم الإدراك إضافة إلى المعلومات. إن ما يميز هذه التقنيات هو أنها لم تعد مجرد أدوات خارجية، بل هي عبارة عن وطرائق وتقنيات يسعى الإنسان إلى الاندماج معها. نتحدث في هذا السياق عن الآلات النانوية التي يمكن أن تندمج مع جسد الإنسان ومع جهازه العصبي. كما نتحدث عن إمكانية الدمج بين الحاسوب والذهن البشري. نفس الفكرة تطرح في مجال البيولوجيا والهندسة الجينية، هناك سعي للتغلب على الشيخوخة وإطالة مدى الحياة. هناك أيضاً تقنية الكريسبر التي تطمح إلى تغيير طبيعة الإنسان المعتادة، عن طريق التأثير على أجزاء من الحمض النووي. بل إن الأبحاث تتجه نحو أشكال من الحياة غير العضوية، أي حياة مصنوعة فقط من السيلكون، أو على الأقل مزيج بين العضوي واللاعضوي.
الأمر لا يرتبط إذن بمجرد تطور عادي، بل بقطيعة تكنولوجية تنتظر البشرية في مستهل هذه الألفية الثالثة. بمعنى أن الموضوع لا يدور فقط حول اكتشاف بعض الآلات التكنولوجية، التي يمكن أن نضيفها لغيرها من الأدوات. بل بانقلاب هائل وجذري في طبيعة الوعي والحياة البشرية ككل. بفضل التطورات الحاصلة في هذه التقنيات الجديدة، سنشهد لأول مرة في التاريخ وعيا مغايراً للوعي البشري، وكينونات حية مختلفة عما عهدناه، وآلات تتواصل مع بعضها البعض باستقلال تام عن الإنسان.

ثورة الجيل الخامس
لقد عاينّا جميعاً ما أحدثته الثورة الرقمية من تغيرات عميقة في طبيعة المجتمعات، غير أن كل ما حدث لحد الآن ليس سوى البداية، لأن ما هو قادم سيكون حاسماً وغير مسبوق بالمرة. فحضور التكنولوجيات الجديدة في حياتنا سيحتاج إلى شبكة تواصلات قوية. من هنا تأتي أهمية ثورة الجيل الخامس، والتي لا تقتصر فقط على السرعة الهائلة في المكالمات وتحميل البيانات والتي تتجاوز 100 ميغابايت في الثانية. بل في علاقتها بما يسمى بإنترنيت الأشياء. بمعنى أن عدداً كبيرا من المعدات التي ستظهر في المستقبل، ستكون ذكية ومتصلة بالشبكة العنكبوتية. من هذه الأشياء مثلا التجهيزات داخل المنزل أو ما يطلق عليه أيضاً مشروع «البيت الذكي». إضافة إلى السيارات والطرق والمباني وغيرها، كلها ستكون متصلة بالإنترنت. نحن هنا نتحدث عن ملايين الأشياء، وهو أمر لا يمكن للقدرة التي تقوم عليها الشبكة اليوم أن توفره، من هنا الحاجة إلى الجيل الخامس. التقديرات الأولية تقول إن هذه الشبكة الجديدة، يمكنها أن تغطي مليون جهاز داخل الكيلومتر المربع. هناك عالم تكنولوجي جديد في طور الولادة، وهو عالم سيقطع تماماً مع الوضع التقني الذي نعرفه اليوم. إن هذا ما سنعيشه مع الثورة الرقمية للجيل الخامس، فالعالم يتغير سريعاً من حولنا حتى أننا غير قادرين على مجاراته أو استيعابه.

مشروع إكس برايز
لا تتوقف الثورة التكنولوجية عند مجرد اختراع أشياء نضيفها إلى باقي المخترعات. بل هي تهدف إلى تقديم اختراعات من شأنها أن تعمل على حل أكبر المعضلات التي نعيشها حالياً، في العديد من المجالات كغزو الفضاء والطب والطاقة البيئة وزراعة الأعضاء وغيرها. هذا هو ما يدور حوله مشروع الإكسبرايز Xprize. وهو عبارة عن جائزة كبرى تبلغ ملايين الدولارات تمنح لكل من يستطيع تقديم حلول مبتكرة لإحدى المشاكل العويصة التي تعترض البشرية. يوجد مقر هذه الجائزة في كاليفورنيا، وهي تضم أسماء لامعة في مجال العلم والابتكارات التقنية مثل إلون موسك (المدير التنفيذي لشركة سبيس إكيس) ولاري بيج (المؤسس الثاني لشركة غوغل) وغيرهما. تدور المواضيع التي تشتغل عليها هذه المؤسسة حول عدة مواضيع، مثل تطوير التقنيات المرتبطة بغزو الفضاء، والطرق الكفيلة بمعالجة الاحتباس الحراري، وتقنيات الهندسة الجينية وغيرها.
أغلب أعضاء هذه المؤسسة ينتمون إلى ما يعرف باتجاه ما بعد الإنسانية، وهو الاتجاه الذي يدعو إلى ترقية الإنسان وتحسين أوضاعه والدفع بقدراته إلى الأمام. في نظر بيتر ديامانديس وراي كورتزفايل أحد الداعين إلى هذا الاتجاه ليس هناك من مشكلة لا يمكن للعلم أن يحلها، خصوصاً مع التطورات التكنولوجية الهائلة التي تعرفها التقنية في بداية الألفية الثالثة.
أشهر الجوائز التي منحت في هذا المجال يمكن أن نذكر جائزة تنظيف مياه المحيطات التي فازت بها مجموعة بحث سنة 2010 وفي السنة الموالية تم طرح تحدي ربح جائزة أخرى تتعلق باختراع جهاز طبي صغير، بإمكانه القيام بأغلب الفحوصات الضرورية التي يقوم بها الطبيب لمريضه. وقد تم الإعلان عن الفائز مؤخراً سنة 2017. والآن بدأ تسويق هذا الجهاز خصوصاً في الدول الفقيرة حيث يجد الناس صعوبة في الوصول إلى الطبيب.
واحدة أيضاً من أهم الجوائز التي طرحت جائزة العثور على الماء الشروب، والذي يعرف تناقصاً متزايداً قد يصبح في العقود القادمة مادة نادرة. في السنة الماضية قام أحد الباحثين بابتكار تقنية لاستخلاص الماء مباشرة من الغلاف الجوي للأرض قبل أن تمطر السحب، وطبعا هذا الاختراع يحمل وعوداً كبيرة خصوصاً للدول التي تعاني من الجفاف.
هناك أيضاً جوائز أخرى طرحت خلال السنة المنصرمة لكن المنافسة فيها ما زالت مستمرة بحيث لم يتم الإعلان عن الفائز بعد. من هذه الجوائز واحدة في مجال التعليم بحيث ينبغي ابتكار تطبيق يمكن الأطفال من تعلم أساسيات القراءة والكتابة خلال مدة لا تتجاوز 18 شهراً. وكذلك جائزة الأفاتار وهو عبارة عن روبوت يمكننا من رؤية وسماع ولمس شيء ما، قد يكون شخصاً آخر أو بيئة معينة تفصلنا عنه مسافة بعيدة. بمعنى أن هذا الجهاز سيجعلنا قادرين على الانتقال ذهنياً والسفر إلى أماكن أخرى.
وإذن فوعود العلم والتكنولوجيا لا تنتهي، فهل نحن أمام يوتوبيا جديدة أم أننا بالفعل أمام فرص عظيمة لتغيير الأمور، والتي من الممكن تضييعها إذا لم نعرف كيف نتجاوز العقلية المحافظة والمتوجسة من إنجازات التقنية؟

بين الديستوبيا واليوتوبيا
تدل كلمة الديستوبيا على نقيض ما تدل عليه اليوتوبيا، فإذا كانت هذه الأخيرة تحيل على الحالة المثالية التي يمكن أن يوجد عليها المجتمع البشري، فإن الديستوبيا تدل على وضعية الانهيار التام للمجتمع حيث يعيش البشر في خوف وفوضى مطلقة، نتيجة تراجع المنظومة القيمية وسيادة الفوضى والخراب على جميع المستويات. كما هو معروف تطور اتجاه أدبي بالكامل يصف لنا الرعب الذي يمكن أن ينتهي إليه مستقبل البشرية، إما بسبب القمع السياسي والفقر والأمراض، أو بسبب التطورات الغريبة للتكنولوجيا. فهل يمكن القول بأن التقنيات الجديدة ستقود الإنسانية إلى حالة مثالية تسودها الفضيلة والقيم الأخلاقية العليا، أم أن هذه التكنولوجيا ستكون سببا من الأسباب التي ستجعل المستقبل مجرد كابوس وكارثة ينحط فيها المجتمع إلى أدنى مستوياته؟ أي عالم ينتظرنا غداً عالم اليوتوبيا أم الديستوبيا؟
بالنسبة للطرح المتشائم فإن ما يتهدد البشرية ليس شيئاً طبيعياً (نيزك فضائي منفلت أو فيروس شرس أو بركان ثائر) بل هو شيء من صنيعة يد الإنسان، والمقصود هنا كل هذه التقنيات الفائقة التطور، والتي أصبحت تتغلغل في حياتنا اليومية، والتي من الممكن أن تقود البشرية نحو الهلاك. في نظر هذا الاتجاه سيزيد التطور التكنولوجي من التوجه المادي للإنسان بدل أن يعزز قوته الروحية. أما الطرح المتفائل فقد رأى على العكس من ذلك أن التكنولوجيا ستكون هي المسيح المخلص. وأنها قد اضطلعت دوما بمهمة تحرير الإنسان من عبودية الطبيعة. والحقيقة أن التقنية في حد ذاتها مثل الفارماكون عند أفلاطون، فهي من الممكن أن تكون سما وترياقا في الآن ذاته، وهذا رهين بكيفية استعمالها من قبلنا.
إن ما هو في حكم المؤكد هو أن التقنيات الجديدة ستقلب طبيعة الحياة البشرية رأسا على عقب. غير أن ما هو غير محسوم بعد هو هل سيكون هذا التغيير باتجاه الأفضل، أو باتجاه الأسوأ. ويبدو أن الجواب على هكذا السؤال رهين بطبيعة القرارات التي سيتخذها الإنسان في حياته. وما لم تكن هذه القرارات محاطة بالكثير من الحكمة والتبصر، فإن المستقبل لن يكون مكانا آمنا. إن التكنولوجيا ليست وحدها هي الحل، هناك أيضاً السياسة والقانون والإعداد الروحي والأخلاقي للإنسان والرقي بوعيه الاجتماعي، كل هذا من شأنه أن يجعل هذه التقنيات الجديدة ملائمة للجوهر الإنساني.
نحن اليوم على الحافة، بمعنى أن التقنية في حد ذاتها يمكن أن تنطوي على إمكانات الخلاص وعلى ما فيه الخير للبشرية، كما يمكن أن تنطوي على إمكانات الدمار الشامل. هناك عالم آيل إلى السقوط، إنه يتقهقر إلى الوراء إلى غير رجعة. لكن في الآن ذاته هناك عالم آخر في طور الولادة، عالم يزخر بالكثير من الوعود والآمال العريضة. مثل هذا العالم لا يمكن مقارنته إلا بتلك اللحظة التي اشرأب فيها الإنسان البدائي بعنقه متطلعا خارج الكهف إلى ما يوجد في العالم الفسيح من أشياء تتطلب الاستكشاف. لقد أدى هذا التطلع إلى ولادة الحضارة البشرية. غير أن ما سنعيشه في السنوات القادمة سيكون أمراً غير مسبوق، لأن ما سيتغير قد يؤدي الانفصال التام عن هذه الحضارة وعن الأمو سابيانس ذاته. والآن بعد أن فتحنا علبة البانادورا لم يتبق لنا سوى الأمل، أي الرهان على أن يحتكم الإنسان للضرورات العقلية وللقيم الإنسانية العليا، بدل أن ينجرف وراء حماقاته وجموحه اللاعقلاني.