أفتى مجمع البحوث الإسلامية برئاسة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر بأن صناعة التماثيل بغرض التنشيط السياحي وجذب السائحين وبهدف إظهار الحضارات وتاريخ الأمم وتخليد ذكرى المحاربين وعظماء الأمم أمر مشروع أعمالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» وبينت الفتوى أن تحريم صناعة التماثيل كان لقرب العهد بصناعة الأصنام والتعبد بها فإذا كان الغرض منها سياحياً ولم يكن بقصد التعبد والتعظيم لها فقد انتفت العلة التي من أجلها كان الحظر مشروعاً. وأثارت هذه الفتوى جدلاً بين علماء الدين من حيث توقيتها والأسباب التي جعلت مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر يناقشها. محرمة في الماضي أوضح الدكتور عبد المعطي بيومي - عضو مجمع البحوث الإسلامية - أنه كتب بحثا منذ عدة سنوات حول موضوع صناعة التماثيل ذكر فيه أن التماثيل محرمة في الماضي لأنها كانت تعبد من دون الله وحطمها الرسول – صلى الله عليه وسلم – والصحابة الكرام لأنها في نفس البيئة فأرادوا أن يحطموها لأنها لا تنفع ولا تضر، وأن عبادة التماثيل قد انتهت في أماكن كثيرة من العالم بحيث ألغيت واتخذت لأغراض أخرى غير دينية ففقدت قيمتها الدينية من حيث الإباحة والتحريم بدليل أن الصحابة في مكة عندما جاءوا الى مصر لم يحطموا تمثالاً لأن أهل مصر لم يعبدوا التماثيل في ذلك الوقت. وقال إنه رجع الى القواميس العربية فوجد أن المعاجم العربية تحدد الوثن بأنه التمثال يعبد وطالما أنها لا تعبد الآن فهي تماثيل وليست أوثاناً والقرآن الكريم ذم الأوثان فقط حيث قال تعالى: «وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا» (سورة العنكبوت الآية 25). وأن التماثيل عندما تصنع لتخليد ذكرى المحاربين وعظماء الأمم الذين قدموا لبلادهم الكثير وضحوا من أجلها فإن ذلك لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية. التحريم التعبدي اتفق الدكتور سعد الدين هلالي -أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر- مع هذا الرأي وقال إن هذه الفتوى تتفق مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها لأن الشرع حرم بعض الأشياء لما تؤدي إليه من مفاسد وليس لذاتها وذلك عندما تعرف الحكمة من تحريمها أما عندما لا تعرف الحكمة من تحريمها وهو ما يطلق عليه الفقهاء التحريم التعبدي فهذا يكون محرما للذات في كل زمان ومكان مثل تحريم أكل لحم الخنزير وتحريم شرب الخمر فهذا التحريم ليس معللا حتى ولو عرف الناس بعض الحكمة منه، أما تحريم صنع التماثيل فقد كان لمواجهة العقلية البشرية الفاسدة التي كانت تصنع التماثيل لأشخاص ثم يتوهمون أنهم يقربونهم الى الله. ولما فتح الله على الإنسانية بالإسلام وأنار عقولها بالتمييز بين المصنوعات اليدوية والخالق جل وعلا واستقر عند الجميع أن التماثيل صنعة يدوية وتعبر عن حضارة سابقة أو تاريخ أمم سابقة كما تعبر عن تجسيد جهود بعض المبرزين علميا وسياسيا وصار الكل يدرك أنها غير معبودة ولا مقدسة فلم يعد هناك وجه للتحريم حاليا في تلك البلاد المستنيرة لأن الحكم الشرعي يدور مع علته وجوداً وعدماً فإذا انتكس البعض في المستقبل وصار يعبد تلك التماثيل فإن حكم التحريم سيلاحقهم مرة أخرى ويشمل التحريم من عبد صنما ومن صنعه باعتباره معاونا للشرك وهكذا تدور الأحكام بحسب صلاح واستقامة الناس في التعامل مع التماثيل المصنوعة من عدمه. التحريم المؤقت وأضاف: ومن أمثلة التحريم المؤقت المعلول بعلته ما وقع في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – من تحريم أواني الخمر في بادئ التشريع لحرمة الخمر وبعد أن استقر تحريم الشرب أذن لهم باستعمال أوانيها، كما أن الرسول –صلى الله عليه وسلم– حرم ادخار لحوم الأضاحي في عام القحط وفي العام التالي أذن لهم بالادخار منها لانتفاء العلة، كما أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– حرم على المسلمين زيارة المقابر عندما لاحظ إساءة التعامل معها فلما استوحشوها أذن لهم في زيارتها، وهكذا يدربنا النبي –صلى الله عليه وسلم– على التعامل مع المحرمات المعلولة بعلة يدور الحكم مع علته وجودا وعدما وبهذا يكون مجمع البحوث الإسلامية، أبان للمسلمين ما غمض على كثير من الناس في التمييز بين المحرم لذاته والمحرم لغيره. عمل فني أما الدكتور محمد الدسوقي -أستاذ الفقه بكلية دار العلوم جامعة القاهرة – فقال: صناعة التماثيل في حد ذاتها عمل فني وعلاقتها بالحل والحرمة واتخاذها عبادة كان في الجاهلية حيث كانت تتخذ وسيلة للعبادة فهذه جريمة قديمة، أما الآن فتوجد تماثيل من البشر يعبدهم بعض الناس ويقدسونهم كالآلهة ويعملون لهم حسابا، وأوضح انه يوجد في ميادين مدينة القاهرة تماثيل كثيرة لشخصيات علمية وسياسية وفنية أمثال عبدالمنعم رياض ومحمد عبدالوهاب ورفاعة الطهطاوي ولا أحد يعتقد أن هذه الحجارة للعبادة. وتعجب الدكتور الدسوقي من إصدار هذه الفتوى من مجمع البحوث الإسلامية بما له من هيبة وجلال. وتساءل: هل صدرت هذه الفتوى بقيود وضوابط أم لا؟ وما هي أنواع وأشكال هذه التماثيل وأين توضع؟ وأضاف: لا أدري كيف تكون التماثيل جاذبة للسياحة فنحن أمة لها حضارة ولها خصائص متميزة ولكن للأسف لا نعبر عن هذه الخصائص. وشكك في تبرير فتوى إباحة تصنيع التماثيل لجلب السياح الأجانب وتنشيط السياحة ويعتقد أن فتح الباب على مصراعيه في هذه المسألة لا يجوز لأنه نوع من بذل الجهد والمال الذي لا يعود على الأمة الإسلامية بالنفع والفائدة والشريعة الإسلامية تحافظ على المال والجهد المبذول من الناس والعمل على ما يعود على الأمة من خير وعمارة الأرض حيث قال تعالى: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» سورة هود الآية 61. سلامة الاستنباط قال الدكتور احمد محمود كريمة -أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر- من المقرر شرعا أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما حرم بدليل قوله تعالى: «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم» سورة البقرة الآية 29. ومن القواعد العلمية المرعية «لا ينكر المختلف فيه إنما ينكر المجمع عليه». وفيما يتصل بمسألة التصوير المجسم المعروف بالتماثيل على تفصيل من جهة الحكم التكليفي، فإن كانت التماثيل لمعبودات من دون الله عز وجل فهي حرام لأن ما أدى الى الحرام فهو حرام، وان كانت من باب الترفيه عن النفس والفنون الجميلة فإن كانت تتفق مع الآداب العامة الشرعية فهي مباحة والأصل فيها شرع من قبلنا قال تعالى في معرض حديثه عن قصة سليمان: «يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور» (سورة سبأ الآية 13). أما لفظ التصوير الوارد في بعض الأحاديث النبوية الصحيحة فينصرف الى التماثيل التي تعظم من دون الله عز وجل، وأوضح: أنه بالنظر في تاريخ الدين في الاسلام ففي صدر الاسلام وجدت نقوش مجسمة على الدنانير والدراهم غير العربية وكانت تتداول عليها صور الملوك من الروم والفرس ولما فتح الصحابة العراق والشام ومصر وجدوا آثار حضارات قديمة آشورية وفرعونية فلم يهدموا التماثيل ولم يدمروا المعابد لأنهم يعرفون أن هذه حضارات وتراث للشعوب والدول وأنها فنون جميلة فحافظوا عليها مما يدل على وعيهم السليم وفهمهم الصحيح للإسلام، أما غير هذا من تأويلات بعض العلماء في بعض الاتجاهات من تحريم أو إباحة التماثيل على إطلاقها بلا بصر بالأدلة والقواعد وسلامة الاستنباط فأمر بعيد تماما عن العمل العلمي السليم، والحكم التكليفي ينظر الى ماهية الشيء من وجوب ومنع وتحريم وكراهية وإباحة دون اعتبار لمال وجدوى هذا الشيء بمعنى أن صناعة التماثيل إن كانت تسمى آلهة وتعظم من دون الله فهذه لا تجوز بحال من الأحوال ولا يتعلل بأنها للسياحة أو غيرها قال تعالى: «ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب». سورة الحج الآية 32. وأضاف: أما إذا كانت غير ما ذكر فمناط الحكم الاتفاق مع الآداب الشرعية، فلابد في المسألة من النظر إلى سلامة الاستنباط من النص الشرعي والدلالات والمقاصد، وهذه التماثيل ليست بسنة تتبع ولا ببدعة تجتنب، وعلى فرض حُرمت في صدر الاسلام إطلاقا أو إجمالا فإن ذلك كان لأسباب معروفة وهي قرب عهد الناس من الوثنية والقاعدة الفقهية تقول: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان».