روعة يونس (دمشق)

شهد مطلع القرن الماضي، ظهور نمط فني جديد، انفرد بتقديم أغانٍ مختلفة، عن تلك التي كانت سائدة باللونين العاطفي والغزلي، تمثّل بطرح أغنيات ذات مواضيع وألحان جديدة، تتغنى بالوطن والإنسان. وكان الفنان سيد درويش، أحد أبرز من قدّم هذا اللون، وفي منتصف الستينيات، نقل الشيخ إمام تلك التجربة الرائدة إلى مستوى آخر، يقارع الظلم والاستبداد، وينتصر للإنسان في سلسلة من الأغاني الخالدة، تبدأ مع «الأوله بلدي»، ما حدا بالشعراء إلى كتابة قصائد تنشد الإنسان والوطن. وسرعان ما شاع هذا النمط في السبعينيات والثمانينيات واكتسح المنطقة العربية، ففي لبنان ظهر مخول قاصوف ومارسيل خليفة وفرقته الميادين وأميمة الخليل، وخالد الهبر وسامي حواط. ومن سوريا فهد يكن وسميح شقير، ومن فلسطين كاميليا جبران. فيما نشأت في وقت متزامن، فرق فنية في بعض الدول العربية، مثل «العاشقين» في سوريا وفلسطين، و«صابرين» الفلسطينية، و«الطريق» العراقية، و«ناس الغيوان» المغربية، والعديد من الفرق أو الأفراد.

أغانٍ وطنية
تميزت تلك الأغاني، بمخاطبة الطبقات الكادحة والمناضلين، حيث تحوّل اسم هذا الفن الوطني إلى الفن الإنساني و«الأغنية الملتزمة»، وتألق فنانوها على مدار عقدين وأكثر، إذ خاطبت وجدان الشعب العربي الباحث عن التحرر والعدالة الاجتماعية، واستطاعت نقل فكر وثقافة المقاومة والكفاح بكل أشكاله، خاصةً ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما اهتمت بحركات النضال وتحرر الشعوب حول العالم. وأسهم في تحقيق انتشارها الواسع واستقطابها الجماهيري، وجود شعراء كبار، كان نتاجهم الإبداعي زاداً للفنانين، مثل محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم من فلسطين، أحمد فؤاد نجم وسيد حجاب من مصر، طلال حيدر وجورج يمين من لبنان، مظفر النواب وحسيني صديق من العراق، حسين حمزة وكمال خيربك من سوريا. وغيرهم كثر.

أسباب الغياب
عن أسباب غياب هذا اللون الغنائي، طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، يقول الملحن السوري، وحيد الصادق: «مع ظهور القنوات الفضائية مطلع التسعينيات، دعت الحاجة إلى توفير مواد تغطي ساعات البث، وكان المطلوب آنذاك تغييب هذه الأغاني الملتزمة، مع إتاحة المجال لظهور نمط فني آخر «الأغنية الهابطة»، لخلق جيل «مشاهد» بعيداً عن الإبداعات الحقيقية».
ويضيف الصادق أنه «تم إقصاء نجوم الأغنية الملتزمة عن وسائل الإعلام، وتمّ تقليص مهرجاناتهم وحفلاتهم، خاصةً أن الفضائيات وشركات الإنتاج الفني أصبحت تستفيد مادياً من الأغاني الهابطة، ولن تخسر معركة وجودها من أجل نقيضها الجاد الوطني الملتزم بقضايا الإنسان، فانطوى الكثير من الملتزمين بعد وفاة درويش والقاسم والزيّاد، وثمة من اعتزل أو هاجر مثل فرقتي «الطريق» و«العاشقين»، وآخر غاب في الزحام».

إلغاء الآخر
أما الباحث الفني، أمين سكّر، فيقول: «ظهرت الأغنية الوطنية الجديدة بثياب مزركشة، فهي أغنية المناسبات كأعياد الاستقلال وذكرى حرب أو عبور أو انتصار، على يد بعض الملحنين الذين أنجزوا أعظم الأغاني الإنسانية الملتزمة مثل الموسيقار حسين نازك، والملحنين محمد ذياب، وحيد صادق، مطيع المصري، سهيل عرفة، الأخوين هباش. وكان بعضهم متفائلاً بأن تضيء ألحانه خطوة في درب العودة إلى الأغنية الملتزمة، لئلا تنطفئ كلياً».
ويشير، قائلاً: «للأسف، ظهرت خلال ثورات ما يسمى «الربيع العربي» أناشيد تلغي قيم المحبة والسلام. وتدعو بمحتواها إلى إلغاء الآخر، وتهدد بالقتل وإهدار الدماء، وفوق هذا كله يسمونها أناشيد ثورية ملتزمة»!