الفكر العربي بين لغة السياسة وسياسة اللغة
عند بداية الوعي بوزن اللغة في صناعة الفعل السياسي، ينتابك سؤال ثمّ يغازلك بتقلباته كأنه ألوان من الطيف تتموج على صفيحة من المعدن المصقول والشمس بازغة عليه: أيهما أشد إغراء وأكثر إمتاعاً: أن نبحث في السياسة من خلال اللغة، أم أن نبحث في اللغة من خلال السياسة؟ أيهما أوقع في النفس وأيهما أجدر بإجلاء الحقائق في زمن دفن الحقائق: أن نعيد اكتشاف الحيثيات التي تصنع سلطة السياسة، أم نعيد اكتشاف اللغة كي نقرّ لها بالسلطة التي احتجبت؟.
حينَ يَصدق منا العزم على الانخراط في مغامرة الوعي الثقافي الجديد ستتبدل أمامنا أشياء كثيرة، وستتغير شيئًا فشيئًا مقاييسنا في إرسال الأحكام الجاهزة على السياسة وعلى اللغة. والرحلة إلى مدارات الوعي الجديد لها جواز سفر وحيد، هو أن نمسك أنفاسنا كي لا نتعجل الحكم القاطع، وأن نجعل مرامنا الذي نتغيّاه إعادة ترتيب بيتنا الإدراكي، ولن يسلبنا ذلك شيئًا من إرادتنا في اتخاذ الموقف الملائم تجاه الأحداث حسب ميولنا أو حسب سلم القيم الذي نرتضيه، ولكن البحث في علاقة السياسة بسلطة اللغة من خلال الوعي الثقافي الجديد يريدنا على أن نفصل فصلا جليًّا بين فهم أسرار العلاقة القائمة بين الإنسان ومراداته من الكلام وفهم حيثيّات الفعل السياسي قبل تزكيته أو إدانته. ليس مألوفًا عندنا أن نبحث في الآليات المحركة للغة في مجال السياسة ؛ لأننا لم نتشبع نواميسَ استراتيجيات الخطاب عامة وقوانين استراتيجيّات الخطاب السياسي تخصيصًا. فقد يدفعنا الحدث السياسي إلى الوقوف برهة على اللغة، وقد نستشهد ونحن نبحث في اللغة بقولة جاءت على لسان أحد السياسيين، ولكننا لم نعهد اتخاذ التقاطع بين الظاهرتين مجالاً للبحث والاستكشاف.
سلطة اللغة
إن اللغة في الوجود أداة مطلقة، وهي في السياسة قيمة مقيدة، ولكنها في الإعلام وظيفة متحكمة. وتجري العادة بأن الناس يهتمون بالحدث السياسي دون أن ينتبهوا مليّاً للصياغة التي نحكي بها تفاصيل الحدث، وبذلك تراهم يطابقون بين الحدث السياسي والخبر السياسي، فهم يُنزلون الأول منزلة المدلول والثاني منزلة الدال، فلا يخطر بالذهن لديهم أن يسعوا إلى تشقيق هذا عن هذا. لكأن رسالة الإبلاغ واحدة لا تصدر إلا عن أداء واحد، أو كأنما الخبر هو الخبر مهما تنوعت صيغه أو تلونت تجلياته، ومن وراء ذلك كأن الإخبار عن الحدث السياسي فعل في مطلق البراءة، بحيث لا تنحشر فيه مقاصد صانعه حين يصنعه.
اللغة سلطة في ذاتها، والسياسة هي السلطة بذاتها ولذاتها. فأما اللّغة فالإنسان يفعل بها الفعل على الناس، وكثيراً ما لا يكون واعيًا بسلطتها ولا بخطرها. وأما السياسة فأصحابها لا يتصورون أنفسهم إلا وهم يفعلون الأفعال بالناس على الناس، وبعضهم يمارس اللّغة وهو واع بقوتها إذ تشد أزر سلطته، وبعضهم لا يعي أن وزن سلطانه بوزن سلطة اللغة. وفي مسافة ما بين هؤلاء وأولئك تزدهر الحياة أو يخبو وهجها. السياسة هي السلطة الغائبة، والذين يصوغون الأحلام الإنسانية يرون أن العالم كان يمكن أن يكون أسعد لو أن السياسة قلصت من حضورها في وعي أصحابها، وأن اللغة قلصت من غيابها عن جمهور الناس المحكومين بالسياسة.
منذ صباح التاريخ، يوم بدأ الإنسان يدوّن لمن بعده مآثره، كانت اللّغة أداة أساسية من أدوات السياسة، لم تكن أهميتها تقلّ عن أهمية المال وأهمية الاحتماء بالعصبية، غير أن وزن اللغة في استواء أمر السياسة قد تطور بتطور آليات الإنسان في تواصله مع الإنسان، ثمّ تضخم عندما أصحبت المعلومة ملكًا مشاعًا بين الحكام والمحكومين. إن ذاك التطور الذي آل إلى انتصاب اللغة سلطة داخل سلطة السياسة قد مر بمحطات كبرى، هي تلك المنعرجات التي آلت بالمعلومة إلى الملك المطلق المشاع: المحطة الأولى نشأة الصحافة، والثانية ظهور البث الإذاعي، والثالثة ظهور البث التلفزي والرابعة استحداث الإنترنت؛ إنها كالمراحل الجنينية التي استوى فيها سلطان اللغة، وتم فيها الاعتراف لها بسلطانها، ومنذئذ سيكون من الغباء أن نعزل سلطة السياسة عن سلطة اللغة، وسيكون وجيهًا أن يسأل السائل وهو ينخرط في ميثاق قراءة الهم الإنساني: أيهما أكثر اقترافاً للإثم، سياسي يزهد في اللغة أم لغوي يستهجن السياسة؟ وقد يبحر السؤال بصاحبه بعيدًا: أيهما أحق بالكشف: لغوي يحترف تسويغ السياسة أم سياسي يتجنى على اللغة؟.
إن البحث في السياسة بتجرد منهجي ومن منطلق وعي ثقافي جديد – لا سيما عن طريق فنون تحليل الأقوال – يقتضي مصادرة مبدئية هي الحياد الفكري الضامن للتشخيص العلمي، ولكن الموضوعية في البحث اللغوي والدلالي لا تلغي وقوف الباحث على درجات السلم القيمي، بل كثيرًا ما يكون الانتماء الأخلاقي والالتزام بمواثيق الحق الإنساني والانخراط في معايير العدل المطلق هي التي تحفز الباحث على أن يرى في علاقة اللغة بالسياسة ما لا يراه غيره. ذلك أن الشائع بين الناس هو أن السياسي يهتم باللغة اهتمامًا عارضًا، واللغوي يتابع القضايا السياسية بوصفه كائنًا اجتماعيًّا أكثر مما هو ذو خصوصية معرفية.
نحن نرى إذن كيف تتعدد دوائر النظر كلما حاولنا إلقاء النور على الجسور الواصلة بين السياسة واللغة، وتتشعب أدوات الرصد والتحليل كلما خفيت علينا السلطة التي يكتسبها الخطاب، ومردّ هذا الخفاء أن مفهوم السلطة يستحوذ عليه الحدث السياسي، فلا يخطر على بال الجمهور في الشائع من الأحوال أن يقيم اقترانًا بين اللغة وهي إبلاغ، واللغة وهي صانعة للفعل السياسي ومحققة لحيثيّات إنتاجه، أما أن تتحول اللغة أحيانًا فتمسي هي جوهر الحدث السياسي في ذاته ولذاته فهذا مما لا يستوعبه الوعي العام إلا إذا انبرى الدارس اللغوي يبصّره به.
قوانين اللعبة
بعد لحظة الوعي الأولى بسلطة اللغة في مجال السياسة يكفينا أن نقف عند الكلام السياسي على أنه نصّ يحكي صدى عالم كامل من المعاني، ويكفينا أن نستلّ من السياق كل عبارة صنعت دهشتنا في برهة، ثم غمرها سيل الأخبار وغطاها تعاقب الأحداث. سنرى بأنفسنا عجبًا، وسنعيد اكتشاف التوالج المذهل بين كل الدوائر المرسومة أمامنا كالأطياف المتموّجة. إن لكل لغة من لغات البشر قوانين تنتظمها وتشد أوصالها بحبل متين لا تراه العيون المجرّدة، كالأسلاك المعدنية التي تتخلل الإسمنت المسلّح، وتصبح تلك القوانين أعرافا يتخاطب بها أفراد المجموعة المنتسبين إليها بشكل أصلي أو بشكل طارئ، وداخل تلك القوانين العامة قوانين أقل منها عمومًا تجعل للكلام الأدبي ترتيباته الخاصة، وللكلام القانوني حيثياته، وللكلام العلمي قواعده أيضًا، وتجعل للكلام السياسي ضوابطه وقوانينه بحسب تصور المتكلم للمعايير الشائعة بين أهل ذاك الحقل الشاسع الفسيح الذي لا يخرج من تحت سقفه كائن مهما كان. فمَن جهل تلك الضوابط والقوانين تحدّث في السياسة وهو غافل عن أسرار لغة السياسة حتى ولو كان ماسكًا بزمام القرار، ومتربعاً على كرسي المناصب، فيأتي خطابه السياسي كخطاب الهواة في لعبة السياسة، ومَن عَلم تلك الضوابط والقوانين وخَبرها تحدث في السياسة وهو واع بأسرار لغتها، ماسك بأزمّتها، حتى ولو لم يكن يومًا متبوئًا لمنصب القرار، فيكون إذا تحدث في السياسة قادرًا على أداء الخطاب، صانعا لأنموذج الاحتراف.
لا يقوم أمر السياسة ولا يهون موردها إلا إذا آزرها المال وعَضدها السلاح، وتلك حقيقة قديمة غدت من بدائه العقول. أما الآن فقوة المال وقوة الأعتاد في حاجة إلى سلاح الخطاب، وجزء من مأساة الجماعة أن اللغة كلما ظن أهلها أنها فصيحة بنفسها، بليغة بذاتها، ازدادوا زهدًا في علم صناعة الخطاب وفي علم تفكيك الخطاب، فيزداد بعدئذ ابتعادهم عن الركب في ملحمة التسابق الكوني على كسب معركة الخطاب. إن القول السياسي لا يذعن إلى آليات القيمة إلا إذا كان إخبارًا عن حقيقة عينيّة تنضوي تحت فحوص الإثبات، عندئذ فقط ينصاع علنًا إلى الحكم إذ يدخل تحت طائلة الصدق أو الكذب: كالإخبار عن عدد الجيوش، أو عن عدد القتلى، أو عن حجم المبادلات التجارية، أو عن قيمة الصفقات وأرقام الصادرات والواردات. أما القول السياسي الذي يتصل بالتقدير الظني أو بالتفويض الاعتباري فهو مستظل بسحابة النسبية المطلقة. القول الأول هو قول عن حقيقة الواقع المعيش، والقول الثاني هو قول عن تقديرنا نحن لذلك الواقع المعيش. في الأول تقف وظيفة اللغة عند حدود وصف الواقع كما هو فتقدم لنا عنه صورة فوتوغرافية، وفي القول الثاني ترسم اللغة لوحة نحاول نحن من خلالها أن نستشف صورة الواقع.
تفكيك الخطاب
السياسة واللغة قرينتان متلازمتان، حيثما رأيت الواحد بدا لك الآخر، فإن لم يتكشف لك بوجهه فاعلم أنه ثاو وراء قرينه، وليس من قول في السياسة إلا خلفه فعل سياسي لأن القائمين على أمور العباد لا يُنشدون أشعارًا وهم يسوسون، ولا يطمحون إلى صنع الجمال وهم يحكمون، وما من فعل سياسي إلا وهو يُنتج بالضرورة خطابا، فإما هو خطاب الحاكم فهو ساعتئذ امتداح وزهو وتبرير، وإما هو خطاب المحكوم فهو تظلم وارتياد إلى الأفضل. كان الفعل في السياسة هو الذي يجر اللغة إليه جرًّا، فهي أبدَ الدهر محكومة به، ولكن الوضع قد تغير، وتوشك الأدوار أن تنقلب فيه أحيانًا، والسبب أن سياسة أمور الناس داخل الأوطان قد كانت هي الأصلَ وهي المبتدأ، وتأتي بعدها سياسة الروابط بين الوطن وسائر الأوطان في الأرض المعمورة، ثم حصل الانقلاب على مدار العقود، فأصبحت سياسة الوطن محكومة بشبكة العلاقات المعقدة القائمة بينه وبين سائر الأوطان.
إن الوقوف على الجسر الواصل بين الفعل السياسي والقول اللغوي الذي انبثق منه قد يمثل لحظة ممتعة لكل من يستهويهم سرد الأخبار، أو يغويهم إنعاش ذاكرة الأحداث، ولكنه سيمثل لحظة غنية لمن يستدرجهم كشف الأسباب التي تقبع خلف الوقائع التاريخية، ولمن يسعدهم إماطة اللثام عما سكتت عنه وكالات الأنباء أو غيّبته نشرات الأخبار أو خاتلته افتتاحية الصّحف. تفكيك الخطاب عدسة مجهرية عالية الجودة تحضنا أن نستطلع كيف تجري مسلسلات السياسة، وكيف يحيك أهل الشأن والقرار نسيج الأحداث. قد نكون ممن يحملون هموم السياسة، ويعشقون استكشاف الباطن من خلال الظاهر، ويسلّمون بأن المصرّح به في عالم السياسة شيء نزير إذا ما قيس بالمخفي منها سواء ما انحجب بنفسه وما غيّبه الحاجبون وقد نكون من الذين أرّقهم إلقاء السؤال حتى تملكهم الهوس ؛ فأصبحوا مولعين بإسقاط الأقنعة التي يصطنعها الإعلام في عصر الخطاب الكوني الموغل في المكر والمباهي بالدهاء، أو ربما نكون شغوفين بفك الشفرة التي بها يلعب صناع القرار الدولي بعقول الأفراد والجماعات : في كل تلك الاحتمالات سيكون ملاذنا الوحيد هو اللجوء إلى علم تفكيك الخطاب، فهو الكاشف لما توارى من أسرار فبديهي أن نزعم بأنه أحد مفاتيح الوعي الثقافي المتجدد.
مضى زمن كان وجيهًا فيه الجدل بين قائلين بأن اللغة إن هي إلا أداة للتفكير ثمّ أداة للتعبير، وقائلين بأنها هي التفكير من حيث إنها العقل إذ يفكر؛ مضى ذلك الزمن لأن نظرة ولو عجلى في مسيرة الفكر الإنساني، منذ تجددت فلسفاته الحديثة ومنذ تعاقبت الرؤى التفسيرية أو التأويلية لعلاقة الإنسان بالكون الخارجي، تُطلعنا على سلك خفي لاحم مداره التسليم بأنه لا شيء يُدرَك إلا باللغة. ولا شيء يدرك إلا من خلال اللغة. فلا شيء يدرك خارج سلطة اللغة. ولكن الجديد الأجدّ هو أن تصريف المسألة بهذا الصوغ لم يعد أحد يحمله على أنه من فقاقيع نرجسيّة العلم اللغوي، ونكاد نجزم – بعد طول استبصار وامتداد الأناة – أن السبب الذي من أجله وبفضله زالت عن العلم اللغوي تهمة التسلط وجريرة الاستحواذ هو استسلام حقلين عملاقين لسلطتها: حقل العلوم الحاسوبية وحقل العلوم السياسية، رغم أن هذا التسليم قد تم إذعانًا للاعتراف بسلطان الآلة اللغوية، ولكن العاقل لا يمكنه أن يقرّ لموضوع العلم بالسلطة ثمّ ينكر على علم الموضوع سلطته. فالجميع على يقين اليوم بقوة سلاح اللغة، بل بجبروت توظيف الإنسان لها، وعلى يقين بتحكمها المطلق في التواصل والمعرفة، وليس بوسع الجميع إلا التسليم – ولو على وجه المصادرة – بخطر العلم اللغوي لأن موضوعه اللغة.
إنتاج الخطاب السياسي
إن البلاغة الجديدة تعلن لك عن نفسها في اللحظة التي تعلن فيها أنت عن التسليم بانحسار سلطة المصرح به مقابل تضخم سلطة المسكوت عنه. وإن أبواب الإدراك الجديد لآليات السياسة الجديدة تتفتح لك واسعة فسيحة حتى تتقن مهارة القراءة الجديدة فتعرف كيف يتم تسريب القناعات، وحقن الولاءات، وتهيئة النفوس باختراق أسوارها شيئًا فشيئًا. إن اللغة بصورها الشعرية الفاتنة لهي ألين المطايا لإنجاز الامتلاء في غياهب اللاشعور، وهذا هو فاتحة الوعي الثقافي الجديد بدلالة عديد العبارات التي يحملها الناس محمل الكلام الإيديولوجي الخاوي من المقاصد المتعينة، بينما تقوم في حقيقتها مقام المصطلحات المدققة المضبوطة : التوجيه النفسي، والتحكم الإدراكي، والغزو الذهني ؛ إنها حقائق وليست من الأوهام في شيء. ذاك شيء نزير من ملحمة فائضة، هو قطرة تُبلّلنا عند الوعي بها والحال أن أنهارًا منها تغمرنا صباحَ مساء فلا نشعر بابتلال لأننا غافلون عنها. فكيف يتم إنتاج الخطاب السياسي وكيف يتمّ استقباله ؟
هو سؤال يرتدّ إلى مسألة المدارك الذهنية واختلاف مستويات التعامل معها. إن الظاهرة الإدراكية ملازمة للكلام التداولي في كثير من لحظات استعمال الإنسان للغة، وهي ملازمة أكثر للكلام الأدبي لأنه خصيصة من خصائص شعرية اللغة. لكن الذي بدا لنا، ثم ارتسخ حتى غدا قناعة حميمة على طول التردد واطراد الحيرة، هو أن خير ما يجسم هذا البعد الإدراكي بين أبعاد الظاهرة اللغوية – أيا كان نمط اللسان الذي تتشخص به – إنما هو القول السياسي. في الأغلبية الغالبة من الأحيان عندما نكون حيال القول السياسي ولا سيما في لحظة مباشرته الأولى أو في لحظة إنشائه والإصداح به نبحث عن المعنى فنكتشف أنه لا يوجد في البناء النحوي للكلام، ولا في دلالة الألفاظ المعجمية، ولا يوجد في السياق التركيبي بين الجمل السابقة والجمل اللاحقة، ولا هو موجود في المقام التداولي باعتبار الروابط العالقة بين المتكلم والسامعين، ولكنه يوجد خارج الحدث اللغوي التواصلي تماما. وسنقول – بشكل مبدئي وعام – إنه يوجد مبثوثا بين شاشة الأحداث الجارية وخزانة الوقائع الماضية، فهو مزروع على أرض الذاكرة السياسية المتحركة، إنه يثوي بين حقيقة تاريخية مضت وحقيقة تريد أن تنشأ.
مع مشهد البلاغة السياسية، نحن بحضرة نص مغاير لطبيعة النصوص كما كنا نعهدها، نحن بحضرة ما قد نسميه بالنص الوامض إذ هو بمثابة اللوحة الخاطفة المستقلة بنفسها، هو النص اللمّاح عماده الصورة الفنية الآسرة التي تَعْبر بنا من حقل المجاز الغنائي، حيث يصفق المستمع لفصاحة الخطيب المصقع، أو يرسل آهاته، أو يطلق زفرات في قالب تكبيرات وتهليلات، إلى حقل الاستيعاب الذهني والتركيز الإدراكي. إن الصناعة اللغوية هي أسّ من أسس المعمار الذي تتشيد عليه استراتيجية الخطاب السياسي، ويعلو به صرح الفعل الإجرائي، لأنها الجسر الذي تتهيأ عليه آليات التخييل.
إنه النص اللماح ذو الومضة النافذة عبر الصورة التشبيهية الرشيقة. ولك أن تبحر في الكشف عن المخفيّات الدلالية، ثمّ تتساءل: أين مكمنها؟ وكيف صارت عند أهل الذكر يقينية والحال أنها عند النظر اللغوي البسيط افتراضية تمامًا؟ وما الذي تضفيه الصورة إذا ما قيست إلى الكلام الذي يخلو من الصورة؟ ثمّ منذ متى تتعطل أداة التواصل باللّغة امتثالاً لحيثيّات المرجع الواقع خارج سياق اللّغة؟ إن السؤال في غاية البداهة، وفي غاية الغرابة معًا: كيف تَنتج اللغة؟ ولكن السؤال ينحل إلى الصيغة الأخرى: كيف يُنتج الإنسان اللّغة؟ وهذه الصيغة هي نفسها تتضمن شقين اثنين: كيف يُنتج الإنسان اللغة حين يتكلمها وكيف يُنتجها حين يتلقاها فيفهمها؟ وبما أن اللّغة ليست إلا وسيلة لإيصال شيء يقال له المعاني، أو الأفكار، أو الدلالات، فإن كل الأسئلة السياسية تجتمع في صيغة واحدة دقيقة: كيف يُدرِك الإنسان المعنى؟ وهل المعنى السياسي وديعة نأخذها كما نأخذ أي معنى مجسم ملقى أمامنا؟ أم هو وديعة جاهزة، ولكنها مخفية نبحث عنها – قليلاً أو كثيرًا – كي نعثر عليها ثمّ نلتقطها من مخبئها؟ أم شيء نساهم نحن في صنعه وفي إنتاجه فيتحتم في كلّ الأحوال أن نتساءل: أين يكمن المعنى؟
الفعل اللغوي والفعل السياسي
إذا أمعنَّا في رحلة الاستكشاف كي نحاصر أنموذج العلاقة القائمة بين الفعل اللغوي والفعل السياسي وقفنا على حالات قصوى، تنفصم فيها مطاطية الإدراك بحكم تشظي معايير التأويل. إن اللغة ساعتئذ تمسي آلة لإنتاج اللامعنى، ثمّ إنها – تحت وطأة السلطة السياسية – تتفكك إلى دلالات سريالية خالصة، فينتج الحدث الموغل في انتهاك الأعراف.
إن من أسس الوعي الثقافي الجديد التسليم بأن اللغة هي نواة المركزية الجديدة للكون، وللظواهر التي في الكون، ولإدراك الوجود المتعين في الكون، ولتفسير علاقة الإنسان بالوجود في الكون. إنها مركز “الفعل” الذي يتحول فيه الإنسان من واقع الإدراك والتأمل إلى تغيير ما يتأمل فيه. ولكن اللغة هي أيضًا مركز الفعل السياسي، وإن السياسة هي تتويج للفعل اللغوي قبل الإنجاز وبعده.
ها نحن وجهًا لوجه – وفي اللحظة الواحدة – بحضرة ضيفين وافدين كأنهما بالأصل متعاجمان: فن السياسية وفن الكلام، هما: القول السياسي والقول الإبداعي؛ بل هما: صورة الفعل السياسي وصورة الفعل الأدبي. وأول ملمح يطالعنا هو أن الخطاب السياسي الراهن ما انفك يتزيّن بالصور اللغوية الوافدة إليه من جماليات الأدب وإلهامات الإبداع، إنه في وئام متدرج مستديم مع الصورة الفنية التي هي في مجال النثر السياسي قائمة مقام الصورة الشعرية في النثر الأدبي.
لقد حَوَّلت السياسة الجديدة وظيفة اللغة القديمة فجعلتها دائرة على المخاتلة : في الأدب – في الشعر كما في النثر الفني – نأتي بالصورة ونحن راغبون في أن نقول إننا أتينا بالصورة، ولولا حياء اللّغة والأدب لتسابق الأدباء والشعراء إلى الإعلان عن مواطن الصورة في كلامهم، ولتوسلوا بألف مسلك كي ينصّوا على سياقات الجمال ومنعرجات الفن ونتوءات الفصاحة في صميم كلامهم الذي هو أدب وجمال وفن. أما في السياسة فصنّاع الخطاب المهرة ينتجون الصورة الشعرية وكلهم رغبة في أن يتكاسل الوعي عن إدراك أنها صورة، فوظيفة الأداء تزداد إلى كلامهم بقدر ازدياد غيبوبة الإدراك لدى المستقبلين لرسائلهم من عامة الناس وفيالق الجمهور. فهل نقول إن البلاغة الجديدة هي بلاغة الخطاب المرآوي ؟ ليكن؛ فلسنا في سياق يبيح لنا إرسال الأوصاف الأخرى من خطاب ماكر، أو خطاب خادع، أو مخاتل، أو مضلل، أو مراوغ. وإن كانت كلها من الألفاظ التي قد يحوّلها العقل إلى مصطلحات علمية بحثيّة عقلانية، بعد أن ينزع عنها إيحاءاتها المزاجيّة أو حيثيّاتها القيميّة المرتبطة بمعيار الأخلاق المطلقة. ليكن ؛ ولتكن معه لدينا قناعة راسية دائمة هي كالقانون الجازم : أنّ تصنيع الواقع يمرّ عبر تصنيع الخطاب. ثمّ لتكن لدينا أيضًا قناعة أخرى : أن السلطة الجديدة في عالم السياسة الكونية هي – بعد السلطة الدستورية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية ثمّ السلطة الإعلامية – سلطة صناعة الخطاب المطبوخ بحذق ومهارة داخل ورشات إنتاج الخطاب.
كل الثقافات الإنسانية عبر كل الحضارات قد أدركت – بصورة أو بأخرى- أن اللّغة البشرية ليست في مجملها إلا ألفاظا قد حصل حولها اصطلاح ليدلّ كل لفظ منها على شيء محدّد، إما قائم في عالم الموجودات الحسيّة، أو مستنبط من ذلك العالم وقائم في الذهن، أو مستخلص من تأمّل فكري محض بحيث لا وجود له إلا في عالم المجرّدات التصوّرية. ولكن مجال السياسة قد يفرض قوانين أخرى في إدارة العلاقة بين اللّغة ودلالاتها، سواء منها دلالة النشأة أو دلالة المقاصد، ذلك أن الحدث السياسي حقيقة محايثة لذاته، ولكن قراءته حقيقة مفارقة له، محايثة لذات قارئه، هو بطبعه كالنص في الوجود، والنص يُروَى ويوصف، ثمّ يفسّر، وقد يجنح به قارئه نحو تخوم قصيّة من التأويل. فقد لا نكون من هواة السياسة ولا هواة التسلي بالسياسة، وقد نكون من الذين حياتهم درس وعلم ومعرفة، وربما نكون من المنكبين على أمور اللّغة وأفانين الكلام، ولكننا لن نعرف العوالم المحجوبة ولن نكتشف أسرارها إلا إذا تقصّينا العلاقة الخفيّة بين اللّغة والسياسة، ففيها عجائب تشدّ الفضول وتأسر الانتباه، ومهما يكن شأننا في الحكمة والدراية فسنعثر على ما لم نكن نتوقع من لطائف المعنى ودقيق الدلالات.
صناعة الخطاب
لن يفيد العربَ كثيرًا أن يمتلكوا سلاح المال، ولا أن ينفردوا بمخزونات النفط، ولا أن يتطلعوا إلى توظيف الطاقة الذرية سلميًّا ما لم يمتلكوا سلاح الخطاب. لن يحقق العرب انتصارًا سياسيًّا في الساحة الدولية إلا إذا أتقنوا صناعة الخطاب، وتمرسوا بآليات تفكيك الخطاب، وتفوقوا في مهارات توضيب الخطاب. فبلاغة الخطاب شيء يعرفه العرب وينتشون به، وفصاحة الخطاب شيء يدركه العرب ولكنهم لا يقدرون عليه إلا بالارتياض العسير، أما صناعة الخطاب فشيء آخر يعثرون عليه بالصدفة ويقفون حياله مشدودين بالإعجاب، فمنهم من يوفق فيه عند الأوان، ومنهم من لا يستبصره إلا بعد فوات الأوان. إن اللّغة سلطة كثيرًا ما تندسّ داخل نسيج السياسة حتى لتكاد تحتكر لُباب الفعل والقرار، وكم من منعطف كانت فيه الكلمة هي الصانعة للحدث السياسي، وهي الراسمة لمعالم الموقف بكليته. ولئن كان هذا دأبَ اللّغة مع السياسة منذ القديم فإن تطور الحياة وانفجار منظوماتها قد أعاد ترتيب البيت؛ حيث تسكن تحت سقف واحد السياسة واللّغة.
إن ظواهر تطور العلاقة بين السياسة واللّغة ما كان لها أن تتحقق بالشكل الذي جاءت عليه، وما كان لها أن تمثل إنجازًا مهمًّا في التغيير الجوهري العميق داخل بنية الخطاب، لولا الانفجار الذي حصل في جسور التواصل اللّغوي والسياسي منذ شاعت تقنيات البث الفضائي الغزير، ومنذ أصبحت في متناول الملكية الخاصة التي تتحرر من قيود التسيير الموجه من طرف الأنظمة السياسية، ومنذ تبسّطت أدواتها بفضل التكنولوجيا العالية فأصبح هينًا تركيزها في شقة مّا، من عمارة مّا، في أي عاصمة من العواصم أو مدينة من المدن. ومما يقف عليه الناظر في هذا الانفجار الإعلامي الخطير أمران ذوا أهمية بالغة وفاعلية قصوى، ولا غرابة في أن يكون التغافل عنهما سببًا في فاعلية إضافية يكتسبها الخطاب لتحقيق آلية الاستدراج. أولهما : انصهار حيثيات الإدراك اللّغوي فيما بين المجال السمعي والمجال البصري وذلك بحكم التوالج الحاصل بين الكلمة والصورة مما لم يكن – لا للبلاغة الأدبية الموروثة ولا للخطابة السياسية القديمة – عهد به. أمّا الثاني فهو انضغاط زمن التلقي إلى أكثر الدرجات كثافة حتى لكأن لحظة الاستقبال الإدراكي قد انتقلت بالجميع من سرعة الصوت إلى سرعة الضوء. عند هذا المفترق الكبير – بكل شعابه السياسية والبلاغية والإعلامية والإدراكية – تولدت شعرية جديدة تنبني على استثمار اللّغة من خلال الصورة الفنية فانفلق الثالوث الكلاسيكي الموروث، ثالوث البوليتيقا والريتوريا والبويتيقا، وإننا لنزعم بأن هذا الميلاد قد كان مؤذنًا بتحول جوهري عميق.