نوف الموسى (دبي)
يُقال أنه في اللحظة التي تستشعر فيها الوعي عبر التجربة، تبقى بذلك هي أكثر «اللحظات» تأثيراً وبقاءً في ذاكرتك، ألا يُعتبر الجسد في بعض النظريات، ما هو إلا تراكم من التجارب، عبر حيوات مرت عليها آلاف السنين، فمثلاً أيدينا لم تكن لتعرف أن لها مقدرة على رفع الأشياء وحملها، لولا تجربة الإنسان الأول لفعل استخدامه لليد، ومنها تواصل تطورها ونموها حتى بدأت تعزف لنا السينفونيات، وتكتب لنا القصائد. وربما محاولات الفنانة بهنوش فايز، عضو في مركز «تشكيل»، من خلال تقديمها لأعمال من مثل «لعبة الوعي»، و«انعتاق»، ما هو إلا استمالة لشعورنا نحو تجربة الوعي الصافي فنياً، وهو بحد ذاته مجازفة في دخول أكثر الفضاءات خطورة في مكون الفرد، خاصةً أنها تتيح فرصة جديدة لإعادة الإدراك نحو مصدر الاتصال بين الإنسان والكون، متخذة من قصائد جلال الدين الرومي، لغةٌ تفسر فيها المنحى البصري لأعمالها، ففي «لعبة الوعي» اتجهت نحو الدائرة بحسب وصفها في التركيز اللانهائي، من خلال أن تعيش أعمالها بكل كيانها، دون تحديد بداية لنفسها أو نهاية، وفي حوارها لـ «الاتحاد»، أوضحت الفنانة بهنوش فايز، أن الفن يجعلنا واعين أكثر لأنفسنا، بل يجعلنا نستمر في طرح الأسئلة حول السر في حضورنا للحياة كحالة وعي أخاذة، وأن أعمالها هي دعوة للتوقف والتأمل قليلاً لهذا الجمالي الكوني.
في «لعبة الوعي»، كانت هناك أوراق على أربع دوائر، بينما «انعتاق» جاءت الأوراق فيه مثل الخيوط المتنسلة، ممثلةً الطبقات الداخلية، التي تتشكل فينا، وتبدأ في كونها حاجز بيننا وبين ذاتنا الحقيقية، اللافت والذي يكاد يكون ساحر في نظري، تلك القصائد التي كتبتها بهنوش للرومي على امتداد تلك الأوراق الشفافة، كأن الشعر جاء لوصف كل تلك الأشياء التي تعمينا أحياناً، عن رؤية الحقيقة، تقول الفنانة، إذا اقترب الزائر أكثر للعمل يلحظ كيف أن مصدر الأوراق أو جذورها (متمثلة بالمنطقة التي ثُبت فيها مقدمة كل ورقة من الأعلى) تم تركيبها بشكل مائل، ما يوحي باختلاف المستويات التي تتشكل فيها الطبقات، وربما هناك إشارة للزمن، رغم أن الفنانة لم تطلعنا بذلك بشكل مباشر، والأهم من ذلك كله، أن الأوراق الشفافة جميعها ـ نهاية الورقة ـ تأتي بنفس المستوى، أي أنها ذات تأثير واحد، رغم اختلاف أنواعها كانت أفكار أو معتقدات أو مشاعر الخوف وغيرها.
في الجزئية التفاعلية من العمل الفني، عمدت الفنانة إلى إسقاط مجموعة من تلك الأوراق على أرض العمل (داخل الإطار الخاص بالعمل الفني)، وهي شفافة بالكامل، ولم يكتب عليها شيء، من قصائد الرومي، توحي للناظر بأنها طبقة سقطت من ذواتنا، ولم يعد لها أهمية، وتلاشت منها القصيدة، حتى في لحظات التجاوز التامة، تذهب القصيدة، ولا يعود لها أثر، لأن الشعر في الأساس أتى ليُمحي كل الضباب، ولا يمكنه البقاء في الصفو التام للأشياء، لأن القصيدة هي الحياة ولا تخرج منها إلا لتنبيهنا بعظمة جوهر الوجود !