من الزمن الروائي ما يُعرف بالزمن التاريخي، ومنه ما هو الماضي القريب أو البعيد الذي يلوذ به الحاضر، أو يناديه كقيمة مستقبلية. ومن الزمن الروائي أيضاً الزمن الجواني (الذاتي النفسي)، حيث لا حياة واحدة، بل حيوات، إن صح التعبير. ولا ننس أزمنة الحلم والتوهم والاستذكار والاستباق. وكنت قد عبرت عن كل ذلك بالزمْنَنَة الروائية للأحياء والأشياء والأحداث، بالتالي: امتصاص الزمن الروائي لأي زمن. وعلى هدي من كل ذلك يلي القول في ملاعبة الروايتين التاليتين للزمن.

في مداخلتها في ملتقى الشارقة الثاني للرواية (2005) كتبت فاطمة البريكي عن رواية منصور عبد الرحمن (ابن مولاي السلطان - 1997) أن المشاهد تتداخل باختلاف أزمنتها، وهو ما جعل هذه الرواية لوحة فسيفسائية على حد تعبير جوليا كريستيفا «تتراص فيها النصوص وتتشابك على نحو يصعب معه تحديدها وفصلها عن بعضها، وكأن كل مشهدٍ/‏‏‏‏ نص يستدعي مشهداً/‏‏‏‏ نصاً آخر، سابقاً عليه أو تالياً له». وسوف نرى في الفقرة التالية كيف أن ما تذهب إليه الناقدة الإماراتية يخاطب أيضاً، وربما بجدارة أكبر، رواية صالحة عبيد (لعلها فرحة). أما بالنسبة إلى رواية (ابن مولاي السلطان) وهي باكورة صاحبها القادم من الشعر إلى الرواية، فالمشهد الرئيسي فيها يعود إلى الزمن البويهي، وما مورس فيه من تسميل العيون. ولعل للمرء هنا أن يستطرد إلى ما تسجل به كتب التاريخ بدء تسميل العيون بفقأ عيني عمار بن يزيد خداش على يد أسد بن عبد الله القسري سنة 740 م. كما سمل الخليفة مروان بن محمد عيني يزيد بن عبدالله القسري. واشتهر الحجاج بعقوبة سمل العيون وقطع اللسان. وقد تفشّى السمل زمن العباسيين، إذا مارسه أبو جعفر المنصور بيديه، وسمل الأتراك عيني الخليفة المتقي لله سنة 944م. وأثناء سيطرة البويهيين على العراق (932-1056م.) تواتر سمل العيون، فكان أن سمل معز الدولة البويهي عيني المستكفي بالله، والمطيع لله، وذلك كي يفقد الخليفة الشرعية التي تتشرط ألّا يكون في جسده عورة أو علة. وللمستزيد أن يعود إلى كتاب علي الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) حيث حديث السمل في العهود البويهية والسلجوقية والصفوية والمغولية.
من مشهد وحشي إلى مشهد وحشي، تمضي رواية (ابن مولاي السلطان) من زمن إلى زمن. فبعد الماضي البعيد يلي الماضي القريب: زمن الحرب العالمية الثانية، ومن بعد إلى شبكة الماضي الأقرب الذي يتواصل بفعالية كبرى في الحاضر. تلك هي حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت والتماعات جورج بوش وصدام حسين. وتصطبغ شبكة الزمن/‏‏‏‏ الأزمنة بأصباغ السياسة، فتنوء الرواية بما يراكم فيها منصور عبد الرحمن من هذه الأحمال التي لا يناسب حجمها مع ثقلها طرداً، فقد تبهظ الرواية سطور من السياسة بما لا تبهظها به صفحة/‏‏‏‏ صفحات من غير السياسة.

لعلها مزحة
ما إن عاينت عنوان هذه الرواية لصالحة عبيد، حتى أعشى عينيّ عنوان رواية فيروز التميمي (كأنها مزحة) وعنوان رواية ميلان كونديرا (المزحة) فالتفتّ عن الروايات الثلاث إلى رواية صالحة عبيد الأولى (الحياة على طريقة زوربا I Pad-2013)، وإذا بأصوات شتى تنازعني القول بأنها ليست الرواية الأولى، وإنما هي رسائل إلكترونية بيوميات الشابة بادية، ومن تحدثوا عنها اكتفوا بوصفها بـ (كتاب). وهنا ينبثق السؤال عن سلطة تجنيس الكتاب، وهل هي لصاحبه، أم للقراءة تعويلاً على ما تبلغ من الكتاب. ومن جهة أخرى، فبناء الرواية بالرسائل سبيل معروف وقديم.
مقابل البناء الرسائلي لرواية صالحة عبيد الأولى، جاء بناء (لعلها مزحة) في خمسة عشر باباً. وهذا البناء (الأبوابي) أغرى آخرين سابقين، منهم يحيى القيسي وأنيسة عبود في روايتهما اللتين تحملان العنوان نفسه (باب الحيرة)، مع التذكير بأن السبق هو لأنيسة عبود. حمل الباب الأول من رواية (لعلها مزحة) كلمة (الخدش) اسماً له، سيظل يتلامح من حين إلى حين، معززاً الغموض فيما أصاب مسلّم العجوز، وهو ما ليس غير قطبة في غموض النسيج الروائي بعامة، بينما يتنقل السرد من زمن إلى زمن. ولعل الكاتبة سعت إلى أن تخفف من وطأة هذا التنقل المسربل بالغموض، فحددت الزمن والمكان كتابةً في بداية السرد في كل باب من أبواب الرواية. وأول ذلك في (باب الخدش) كان في الشارقة عام 1995، حيث تتخلل ذكريات الطفولة صور البيوت والشوارع المتاخمة للساحل في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. ويتقدم الزمن قليلاً في الباب التالي (باب الشق) في المكان نفسه، ولكن في سنة 1967. وسيتصدر هذا الباب مرسوم صاحب السمو حاكم الشارقة بتأسيس وتنظيم قوة شرطة الشارقة. وسيتكرر مثل هذا التصدير في أبواب أخرى، حيث تأتي لعبة التناص بوثيقة أو جزء من وثيقة، مشفوعة بمصدرها، وهو في (باب الشق) منقول عن صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، كما سيأتي في (باب النزف) مقطع منقول من (سرد الذات) للمصدر نفسه. وفي هذا الباب تفيد (التأرخة) التي يتواتر حضورها اللطيف حيناً والمبهظ حيناً، بانتهاء زمن الغوص وقدوم زمن النفط. ومما ينير لعبة الزمن، ويهوّن من وطأة التأرخة، ما سيلي في (باب التحلل)، حين تصنع الكاتبة هامشاً ينوه بأنه لم يرد ذكرٌ تاريخي صريح لتواجد قوة شرطة الشارقة في موقع الحدث وما تلاه، ولكن جاء ذلك (لضرورات المخيلة السردية). ببراعة وبتشويق تغزل صالحة عبيد خيوط الشخصيات والأحداث، فنمضي عبر عقود القرن العشرين، وصولاً إلى سنة 2017، مع مسلَم الذي تطوع في الشرطة، والنوخدة راشد الذي وضع هلال (سيبا) لأخيه إبراهيم، فتسبب في مصرعه.
كما نمضي مع أرملة إبراهيم: خدنّة التي يتزوجها هلال، ومع ابن إبراهيم الذي يتأكله الحقد على عمه وعلى أمه. ويعود السرد في (باب الشق) إلى زمن العبودية، غير أن زحام المواليد والأسماء في هذا الباب، وأحياناً فيما بعده، ينال من لذة القراءة/‏‏‏‏ الكتابة، كما تنال منها (التأرخة).
يؤرخ (باب الشق) الطائرات المدنية والعسكرية وللمطار في مشارف الخمسينيات. وفي (باب الهدم) نقلُ بتصرف عن متحف حصن الشارقة، حيث يتبين أن الحصن ظلّ طويلاً ركيزة الدفاع عن المدينة، ومقراً للحاكم ومسكناً للأسرة الحاكمة حتى مطلع الخمسينيات.. وتعود التأرخة إلى المطار في (باب التهاوي) عندما يلتقي ميرة ومسلّم (الثاني) في متحف المحطة، حيث السينما الأولى في منطقة الإمارات أيضاً.
من أزمنة يوحدها الماضي، يتقد السرد في (باب الرماد) فتقصر الجمل وتصير وثابة وهي ترسم (ليلة الكارثة) التي عوقب فيها هلال بربطه إلى عمود السارية، بعد مصرع إبراهيم الغواص. وكذلك كان في رسم يوم النار عندما احترق الأولاد.
ومن بديع الغموض الذي يظل يلفع الرواية تأتي حتمية العمى المتوارث، وهذا ما سيثريه ذكر الشاعر الكويتي فهد العسكر الذي جعله مسلم واسمة، وقد مات صغيراً ومنبوذاً و.. ضريراً.
ومن الماضي تمنح الرواية أيضاً عجيبة (المذياع)، وغربة مطر ووالده في الحي القديم، إذ نزح سكانه، وحلت محله جحافل العمال الذين تجمعهم شركات المقاولات.. وفي ملاعبة زمن/‏‏‏‏ أزمنة الماضي، تعود الرواية في (باب التهشيم) إلى عام 1982 في الشارقة، بخط سردي جديد يمضي إلى بومباي، عائداً إلى بداية الرواية.
في الألفية الجديدة يبلغ الزمن الروائي عام 2017، حيث تبدو الرؤوس مدفونة في الشاشات، أو زائغة بين الواجهات المبهرجة التي تأتي بالعالم على هيئة حقيبة أو حذاء أو وجبة، والناس جميعاً كالمسافرين في المطارات، مع أنهم في مركز تسوّق، وينشب السؤال الحارق المركزي: «هل هي حيوات أم استعارات؟».
بالدخول في الألفية الثالثة، يمدّ بعضهم الحاضر ليبلغ العقدين، ويقصره بعضهم على العقد الثاني. ومهما يكن، يندغم من زمن الماضي ما يندغم في الحاضر، وينبتّ من الحاضر ما ينبتّ من الماضي.
تنتقل الرواية عام 2008 إلى باريس، وإذا بميرة قد تزوجت من جلبرت الفرنسي الذي أسلم.. وفي العام نفسه تعود الرواية إلى أبوظبي وإلى دبي. وعلى عجل ترمح الرواية إلى اسطنبول 2015 وإلى دبي 2017. وبعد..
ففي العودة إلى ما جاء في البداية عن الزمن، يتبدى بجلاءٍ كم هي الرواية ملاعبة للزمن. وإذا كانت رواية (ابن مولاي السلطان) قد جاءت كملاعبة منضبطة أو خجولة، فقد جاءت رواية (لعلها مزحة) أكبر حرية ومراساً، وإن تلامحت منضبطة أيضاً بهندسة البناء، من الخارج. أما المكر ففي الداخل، وعليه يقوم دوماً رهان الفن الروائي.