بقلم: ديميتار ملادينوف
ترجمة: أحمد حميدة

مع بيتهوفن، نلج من جديد النّطاق السّديميّ اللاّمحدود للاّشعور، الذي يتجاوز من حيث درجة عمقه ورحابته نطاق العقل الضيّق والمتذبذب. فهو من أولئك العظماء الذين كانوا دوما يمضون إلى الأمام، وخلفه كان يمضي البقيّة بلا كلل أو ملل.
وليس ثمّة في الحقيقة غير أربعة مبدعين عظام في الفنون الآداب تعالوا على من سواهم، وكانت تعاليهم على قدر من الرّفعة جعلتهم يبرزون وكأنّهم منسلّون من جنس آخر، وهم دانتي وشكسبير وبيتهوفن ومايكل أنجلو.
لقد كان بيتهوفن سبارطيّا من حيث صلابة إصراره، أثينيّا من حيث تولّهه بالجمال، ورومانياّ من حيث إرادة القوّة الكامنة بداخله، كان يمتلك روح أبولّون، روح مستنفرة برمّتها نحو عالم مفرط، «سيكلوبيّ»، حيث «يكون الفنّان دوما في نزال موجع، ممعنا في استفراغ الجهد ومحتشدا بمشاعر متفجّرة، إن كان لا يطيق الهمود والإنكسار، فإنّه كان يحرص بصورة فرديّة على أن ينتصب أمام البشر عمالقة طلقاء، غاية في البأس والجرأة والإقدام، على درجة فائقة من المهابة والوقار، وتلك هي الصّفات التي سوف تسعفهم لتجاوز عجزهم عن إسكان تصميمهم الذي لا يلين.».
وكان بيتهوفن بفضل جمال أعماله رائداً روحانيّا أصيلًا، تشي أعماله الرّائعة بأنّنا في حضرة كائن استثنائيّ.. مذهل، كائن أعظم من جميع سادة الأرض في أزمنة الإقراط والبذخ، وغالبا ما بدا على هيئة مبعوث سماويّ، لا ينشد متعا خالصة أو مواعظ متعفّفة، وإنّما يروم التحوّل إلى نموذج سام يحُتذى به، ومثالا حيّا نابضا، يستلهم منه الغير كلّ ما يدفع إلى التأمّل ويزعج إلى الغوص في الذّات لمعرفة خبايا النّفس.
ونحن نستذكر مسرح شكسبير والكوميديا الإنسانيّة لبلزاك، ندرك أنّ الأعمال الملحميّة لبيتهوفن متفرّدة في تاريخ الموسيقى، وأنّها كانت أشبه بجداريّة هائلة حافلة بكوكبة من الانفعالات البشريّة المدهشة. فالأشكال واللّهب وجرّة العالم بأسره انسكبت في روحه، مغتنية بالمعرفة وتوقير للماضي، وبأبطال ذلك الماضي وخطبائه وفلاسفته ومؤسّسي المدينة العتيقة، كما معلّميه الذين ما انفكّ يقتفي آثارهم ويهتدي روحانيّا بهديهم. وهيبّوليت تِين الذي كان مدينا هو الآخر لبيتهوفن في استفاقته الرّوحيّة.. كان كتب:«أمامه، نتوقّف عن السّماع وعن النّظر إلى الأشياء وهي معزولة، أو ملامسة مجرّد جزء من الحياة، وإنّما نتلقّف من خلال نصاعة التّأليف الموسيقيّ دعوة إلى سماع جوق كونيّ للأحياء، ولنشعر بهم وهم يتنفّسون ويتبرّمون أو يفصحون عن أفراحهم، إنّها الرّوح العظمى التي تتجلّى في الخلق والتي تنسلّ منها كلّ يحمله البشر من أحاسيس ومشاعر، إنّها الطّبيعة.. الجريحة بالضّرورات التي تعمل على النّيل منها أو سحقها، وبين العدد المفجع للأموات المبعثرين هنا وهناك، ترتفع أيديه متضرّعة، وتنساب صرخته الصّموتة، التي كانت دوما منكتمة، ولا تني تنبعث من جديد..».

صوت كأنّه الكشف
ولو نظرنا إلى الموسيقى في عموميّتها، والموسيقى الآليّة على وجه الخصوص، باعتبارها تعبيراً مباشراً عن الإرادة ذاتها، فإنّ شوبنهاور كان قدم كمثال على ذلك.. سمفوينيّة لبيتهوفن، ليبيّن أنّها الإنسجام الموسيقي المطلق الذي تنطوي فيه، في ذات الوقت، المتعة والمعرفة.. والصّورة الثّابتة والمتكاملة للعالم الذي يتخبّط في الفوضى الأزليّة لحشد هائل من الكائنات.
ثمّة أعمال فنيّة جاءت محمّلة بأبعاد دينيّة بالأساس مثل لوحات «فرا أنجيليكو»، «شعيرة الأموات» المعروفة عند المسيحيّين الكاثوليك ب«كنتو بلانوس»، أو قدّاس باخ على درجة الفا. أمّا فنّ بيتهوفن فإنّه فنّ صرفٌ.. مطلق وأخلاقيّ، وهو رجع صدى لصوت غير مرئيّ، العالم بما حوى هو صوته، لذا كان العالم الصّوتيّ لبيتهوفن ينبثق من رأسه وكأنّه الكشف: أي أنّ هذا العالم ليس في الحقيقة سوى إيقاع أم ميزان موسيقيّ، أو قصيد باذخ.
منسلّة من الوجع والحبّ، مغتنية بروح متوهّجة، تمنحنا تلك الموسيقى صيغا ورموزا فضيّة الرّنين، وصورا عظيمة حاملة لرؤى مشرقة، ألوان وصور تتمازج بوحي من فكرة محدّدة تندمج فيها المداعبة النّاعمة لإيطاليا المغرّدة، وفكر ألمانيا المعقلن، وروح فرنسا التي كم كان بيتهوفن يودّ زيارتها قبل إنهاءه سمفونيّته التّاسعة. وهذه الموسيقى التي أماطت أخيرا اللّثام عن وجه إيزيس، غدت «سمسم» ألغاز الطّبيعة، الباطنة والظّاهرة للإنسان، وإعادة خلق للتّناغم الكونيّ الذي يشي به رنين الأوتار وأصوات بشريّة عليمة، تكون قد اكتشفت أخيرا الطّريق البهيج إلى السّماء.
لم يكن بوسع الفلورنسيّين قراءة الكوميديا الآلهيّة دون أن تسري القشعريرة إلى أرواحهم، أمّا سكّان الجنوب الفرنسيّ.. فإنّهم كانوا لا يفتحون كتابا لـ «ميسترال» إلاّ وانتابهم إحساس بالإعجاب والمهابة. وكذا الشّأن بالنّسبة لأيّ إنسان يسمع بيتهوفن، الذي سيتملّكه إحساس غامر وعميق بالتّوقير البالغ.. لمعلّم بونّ. فموسيقى بيتهوفن هي تلك الصّفحات الثّقيلة للتّراجيديا البشريّة، مترجمة إلى لغة لا مرئيّة، وهي وحدها القادرة على التّعبير عن المبهم وعمّا يندّ عن كلّ مقول، متى تمّ الإنصات إليها، راح العفيف كما الشرير يتفكّران، لتبثق فيهما رغبة عارمة لتنفّس عطر الشّموع والمباخر، في كاتدرائيّات باخ، حيث يجثو المرئ مخبتا أمام الخالق. هكذا كان بيتهوفن يوقظ عند السّامع الشّعور الدّينيّ، ذلك الشّعور الذي تحفل به أيضا موسيقى باخ وبالسترينا (مؤلّف موسيقي من القرن الخامس عشر). وهكذا.. ومع بلوغ الفنّ الموسيقيّ ذروته، نكتشف القانون الجوهريّ لتطوّرها التّاريخيّ، الذي يقتضي أن يكون الشّعور الدّيني والشّعور الموسيقي وجهان لحالة روحيّة واحدة، وأن يكون الموسيقيّ – إلى جانب المتنبئ – أحد المبدعين لعقائد البشر، الحافزين إلى القيم الرّوحانيّة، وأوّل مربّي للشّعوب.

العلوّ الشّاهق
يقول إدغار آلّن بو «إنّ الموسيقى التي لا تحمل فكرة، مجرّد موسيقى، ولكن متى رافقتها فكرة ممتعة، غدت شعراً»، وكثيرة هي في فنّ بيتهوفن الصّفحات التي تنطوي على شعر محض، بكلّ ما ينطوي عليه الشّعر من جاذبيّة غامضة عصيّة على الوصف، من فتنة وسحر.. إنّها تلك الشّاعريّة المتراقصة على الدّوام للضّياء والظّلال، والتي ببلاغة لا تصدّق، تحدّثنا، حتّى في أجواءها النّابضة والغامضة، عن ذلك الصّمت الموسيقيّ الذي يبدو فيه الإيقاع وكأنّه يمعن حقيقة في تراتيله. وحسبنا في هذا الصّدد أن نتذكّر افتتاحيّة ليونور أو إفتتاحيّة كاريولان.
شاعر الرّوح، كما كان يقول عنه إدغار آلّن بو، كان بيتهوفن منافسا لروبنْس من حيث بذاخة لمساته وتلويناته الفنيّة. كان الفرح والضّياء اللّذان يشعّان من موسيقاه يذكّراننا أيضا بالرّسم الهائل لبوفيس دي شافانّ أو أعمال فرا أنجيليكو. وإنّ عمله الباذخ، «المسيح في جبل الزّيتون»، ليحشد الرّوح بذلك الحزن الذي يعتصر القلب عند رؤية مسيح رفآل ودُورَرْ ومُنتِينيا، أو مسيح تيتيان وغيدو دي ريني وديلاكروا. أمّا قٌدّاسه.. فإنّه يشيد داخلنا الأسقف المعقودة لكنيسة سكستين، فينتابنا إحساس بالرّهبة أمام العلوّ الشّاهق الذي لا يطال. وإلى جانب رجل الوعود والتنبّئات.. والفنّان والشّاعر، ينتصب أمامنا بيتهوفن كوسيقيّ لا يجارى من حيث ثراء روحه وعمق إحساسه. وإذا كان أغلب النّاس لا يلتمع لديهم الشّروق إلى الآخر، كما يقول ذلك الهنديّ الرّيغ فيدا في صلاته بفارونا، فإنّ بيتهوفن هو من أولئك العباقرة النّادرين الذين عاشوا الفجر حتّى انبلاج النّور. كان مَثلُه في الدّين يكمن، كما لدى روسّو وليسّينغ وهردر وجوته، في العودة إلى الطّبيعة الأبديّة (تلك الفكرة الأثيرة لدى فنّاني عصر النّهضة)، وفي ترقّب حلول إنسانيّة مهيبة وأصيلة. أن يستشعر الذّبذبات العميقة للفرح المحض.. تلك كانت صلاته المخلصة للّه.
لقد كان المعلّمون البارزون لعصر النّهضة يقبلون بصدق على الطّبيعة، لينهلوا منها الفضائل المنعشة للرّوح، وإنماء أذواقهم الأدبيّة، والتشبّع بالمعاني الرّفيعة للجمال، واقترحوا أيضا مناهج جديدة في البحث العلمي، لعقول باتت مستنزفة ومنهكة جرّاء بحث لا يأخذ إلاّ بظاهر الأشياء. وكان بيتهوفن، على غرار شكسبير، يقبل على الأشياء بملء روحه وقلبه، أي بمحبّة عارمة، بالعزلة وبفكر يرتهن دوما إلى المقدّس، وإلى كلّ الفضائل الأخلاقيّة السّامية، التي كان التّقصير في الأخذ بأسبابها سببا في آلام البشر.
وحتّى تجتثّه من أحقاد البشر وحماقاتهم، كانت أقداره، كما أبناء بلاد الإغريق العتيقة، تحمله على إحداث تحوّل مبهج ومخلّص في حياته. وبتواصل موصول معها، سيجتني الرّجل الكثير من السّلوى، لا شكّ في أنّ إحساسه بالعزلة سوف يزداد، ولكنّه سوف يرسّخ فيه ذلك..إرادة صلبة لا تقهر. وبانصهاره في روح الطّبيعة، سوف يغدو بيتهوفن هو ذاته قوّة طبيعيّة، ونزاله مع الوجود المحيط به، سوف يضعنا حقيقة أمام مشهد ملحميّ هومريّ الأبعاد.
على أنّ ما خلّفته الأعمال الباهرة لبيتهوفن للإنسانيّة البائسة، هو أنّها أسهمت في تغذية رغبة العروج إلى منازل الخير، تلك القيمة الثّابتة التي تتجاوز إرادة الإنسان.. والتي.. لا شيء قد يضاهيها سموّا ورفعة، في الطّابق السّفليّ تصطفّ الرّوح والعقل، ولكن متى كان الخير مرغوبا، وكانت الرغبة في إدراكه مستنفرة، إدركنا ألاّ أحد قد يظفر بذلك الخير ما لم يعرج إلى المنازل العلويّة وتشبّث بالخير، بعد أن يكون قد تجرّد من لباسه، كما أولئك النسّاك الذين متى صعدوا إلى المعبد، تطهّروا، وتركوا ألبستهم القديمة، ثمّ ولجوا منسكهم وهم مجرّدون من الثّياب، متجرّدون في صعودهم ذاك من كلّ ما سوى اللّه، سوف يكون بوسع كلّ واحد منهم أن يرى نفسه في عزلته، ويشاهد بتواضع وإخبات الكينونة التي ترتهن لوجودها كلّ المخلوقات، وتنشدّ إليها الأبصار، والتي بها يكون الكائن وتكون الحياة ويكون الفكر.

كتاب الجمال والخير
بمثل هذه الفينومولوجيا الرّوحيّة المشبعة بعقلانيّة هيلينيّة، قدّم بيتهوفن للعالم إنجيله للجمال، كتاب متى قلّب المرء صفحاته بروح شاعريّة، غدا إقباله ذاك تمجيدا أبديّا للّه. والحال.. أنّ جمال الفنّ يشكّل دائما علامة دالّة على الطّهارة الأخلاقيّة ورفعة المشاعر التي تغذّيها. «لا يمكن للخير أن يكون جميلًا، كما لا يمكن للجميل أن يكون كليّا، طالما أنّهما منفصلان»: كان ذلك هو استنتاج هيبياس (طاغية أثيني عاش في القرن السّادس ٌق.م). أمّا بيتهوفن، فقد أبدى تعلّقه في ذات الوقت بالجمال وبالخير، وتشبّثه بما هو إنسانيّ وعظيم، فحقّق على المستوى الرّوحاني توازنا وتناغما يلمحان إلى قوّة الإنسان، ويشكّلان علامة على مدى قربه من الحضرة الربّانيّة. ممْتَحَنٌ بصورة قاسية، ومتشبّث بالواجب بوعي لا يلين، اتّجه بيتهوفن بكلّيته إلى الإنسان حيثما كان، كما الملائكة-العذاري اللاّتي كان جيوتّو يحلم بهنّ، تلك الكائنات اللّطيفة التي حطّت على صفحة هذا العالم القلق. والتّعاطف الذي أبداه دستوييفسكي وكان عنده شعورا فطريّا، أشبه ما يكون من بالعقيدة الرّاسخة. ألم يكن يحلم على غرار أفلاطون وروسّو بإنشاء جمهوريّة، يكون غرضها الوحيد جعل جميع البشر مواطنين وأبطالاً.

أبديّة الرّوح
من الرّوح كان بيتهوفن يستمدّ أسباب وجوده، وبيقين لا تخالطه عقيدة، كان يؤمن بأبديّة الرّوح. وكانت رغبته العارمة هي أن يعيش للرّوح وبالرّوح، التي غذّت لديه منذ الصّبا، إرادة ثابتة، وكتب سنة 1816 قائلا:«كنت أعرف منذ سنّ الخامسة عشرة ماذا كان يعنيه الموت الأكبر، كما كنت أعرف أنّ الألم والبطولة هما السّبيل الأمثل لانتصار الرّوح، وذلك هو ما جعله لا يبدع إلاّ لإنسانيّة قويّة وموجوعة، وجاء في أحد دفاتره أنّ سقراط والمسيح هما مثلاه في الحياة.
لقد امتلك بيتهوفن، وبشكل عميق، الصّفتان المميّزتان للفعل الأخلاقيّ: العناء المقترن بالواجب، والفرح الذي ينجرّ عنه، مخالفا بذلك ماقبليّة كانظ، الذي لم تجد مبادئه تطبيقا لها، لا في العصور القديمة ولا في النّظم الأخلاقيّة القديمة. كان يرى أنّ الفرح والقوّة يزدادان انشحاذا عند الابتلاء.
منتهباً بالصّمم الذي أصابه، والذي جعله أحيانا يفكّر في الانتحار، وبمقارعة عنيدة لمصيبته، انسحب بيتهوفن داخل ذاته، وغدت روحه نزّاعة إلى الإنفلات من العالم الخارجيّ للاجتماع بملهمته في أجواء من العزلة التامّة والسّكينة المطلقة، وإذا بسعادة غامرة جديدة تتفيّض من صمته، لتشي بها كلّ تعبيرة من تعبيراته الموسيقيّة.
وفيما كان يشعر بالخلل الذي طال سمعه، وبات مدركا أنّه غدا قاب قوسين أو أدنى من حالة الوقر، كان القدر ينبّهه من قطيعة وشيكة وتامّة مع العالم الخارجيّ، ولكنّه لم يتواني عن الردّ، وكان هذا الردّ بليغا: تأليفه للسمفونيّه الثّالثة..«إيروييكا». وفيما ازداد تعكّر حالته، فاجأه القدر بابتلاء ممضّ آخر جديد، وكان قلبه هو الضحيّة هذه المرّة، إذ ابتلي حينها بمفارقه عشيقته، تيريز دي برونشفيك، له.
ومرّة أخرى يواجه بيتهوفن الابتلاء بإرادة عنيدة، وكان الردّ هذه المرّة أيضا باذخا وبليغا، إذ كانت سوناتته الشّهيرة «أبسّيوناتا». ومن ذلك التّفاعل الذي لم يتوقّف، نشأت أيضا السّمفونيّتان السّابعة والثّامنة اللّتين ألّفهما حين غدت أذناه موهوبتان للطّنين والهزيز والصّفير. ثمّ كان الصّمم التامّ وبالتّالي القطيعة النّهائيّة مع العالم الخارجي! غير أنّ بيتهوفن أنغمر هذه المرّة كليّة في أعماق ذاته، فانقشعت من أمامه الغيوم، وتفجّر ضياء ساطع في أوتار وأصوات السّمفونيّة التّاسع.. فيا لعظمة هذا الفوز ويا لجلال هذا النّصر !! لقد كان بمثابة الإنتصار الأخير للفرح.
هكذا.. فإنّ العذابات والتوتّرات التي اخترقت حياته، والتي كانت الأكثر عنفا، بدأت تهدأ شيئا فشيئا، لينعم بيتهوفن بالطّمأنينة والسّكينة كما المعلّمين القدماء، باخ وهايندل. لقد عرف كيف يمسك بزمام نفسه وكيف ينعم بمثل ذلك السّلام الدّاخلي، فغدا شبيها ببحيرة عميقة مخفيّة عن الأنظار في الجبال، وكان كتلك البحيرة يعكس كلّ حركة من حركات الغيوم وكلّ تغيّر للظّلال ولكن ليظلّ هو ثابتا في نفس المكان». مدفوعا دوما إلى الأمام، متشظ إلى ألف قطعة وقطعة، كانت مصائبه تتحوّل شيئا فشيئا إلى ماسة برّاقة، فيما نظلّ نحن نتسائل- في هذا الزّمن القاسي الذي ينظر فيه إلى الإبتلاءات على أنّها نتاج غرورنا - إن لم تكن تلك الإبتلاءات عاملا مباركا في مسيرة بيتهوفن، طالما أنّ الأعمال العظيمة للرّجل، التي كانت في البداية أنينا وشكوى، ثمّ أعمالا وقورة، غدت في الأخير فيّضا عارما من نور. مع بيتهوفن نستعيد حقيقة دهشة العالم الإغريقيّ أمام أرتميس (إلهة الطّبيعة البكر) بمعبد كيوس، التي كان وجهها يبدو حزينا لكلّ من يدخل المعبد، ومشرقا وبشوشا لكلّ من يغادره.
ببالغ الحماس والشّغف، كان بيتهوفن يحوّل أودية الدّموع والموت إلى مروج مزهرة، ويذرع ممرّاتها وحيدا، بائسا وأحيانا مريضا، ولكن مبتهجا وسعيدا، لأنّه في قرارة روحه يكون قد أنصت في لحظات إشراقيّة.. إلى حفيف أجنحة عظيمة.
ورغم الظّروف العصيبة التي ألمّت به، كان الرّجل دائم الإقبال على المعاناة بصدر منشرح، لأنّه عرف خداع السّراب وبقي على قيد الحياة رغم الحالة الدّيونيسّة التي مرّ بها. ولباسه الذي كان أبيض كما هو لباس كلّ الرّجال العظماء، لم تدنّسه لطخ غير طاهرة، تلك اللّطخ التي تطبع حياة النّاس العاديّين من البشر جرّاء العناء والمرض والبلاء. لقد كان يبدو وكأنّه قطعة من حديد محمّى بلهيب كور الحدادة، تظلّ رغم ضراوة النّار سليمة تحت ضربات المطرقة. وقد نسمّيه أيضا بالقدّيس بالمعنى الذي ذهب إليه جوته وهو يتحدّث عن هوميروس.
سوف تمضي آلاف السّنين وتتوالى القرون، ولكن الزّمن لن ينال البتّة من مجد هذا العبقريّ الأعظم بين أعظم العظماء، هذا الذي كان يمضي في مواجهة الرّيح: المعلّم بيتهوفن.

«أبوظبي الكلاسيكية» تحتفي بميلاد الأسطورة
يحتفي الموسم الجديد من موسيقى أبوظبي الكلاسيكية ( 28 يناير - 7 فبراير 2020)، بالذكرى الـ 250 لميلاد الموسيقي الخالد لودفيج فان بيتهوفن، بالتعاون مع أوركسترا هامبورغ السمفونية، التي ستؤدي السمفونية التاسعة، التي تُعتبر من أشهر أعماله، يتضمن الموسم كذلك مجموعة من الحفلات الموسيقية، التي تشهد عزف مقطوعات كونشيرتو ثنائي وثلاثي ورباعي عازفي البيانو للمؤلف الرائد باخ، وعزف بيانو منفرد للفنانة ليز دو لا سال، وعرضاً للمغنية المصرية الشابة سناء نبيل، كما سيجري الاحتفال بالذكرى 250 لولادة الموسيقي العظيم بيتهوفن، من خلال برنامج مميز من الروائع الموسيقية، وعروض الأداء المذهلة من مختلف أنحاء العالم، إذ تشكل موسيقى أبوظبي الكلاسيكية نقطة لقاء لأعظم الفنانين في ميدان الموسيقى الكلاسيكية والعربية

فيكتور هوغو: آذان هذا الأصمّ موهوبة للأبديّة
لقد كانت آذان هذا الأصمّ موهوبة للأبديّة. كان موسيقيّا عظيما، بل أعظم الموسيقيين إطلاقا، بفضل شفافيّة الصّمم، فعاهة بيتهوفن تشبه الخيانة، إذ فاجأته تحديدا في المكان الذي كان من المفترض أن تُغتال فيه عبقريّته، ومن الرّائع حقّا أنّها هزمت فيه العضو دون أن تصيب الملكة، فبيتهوفن هو إذن حجّة مهيبة على حضور الرّوح، وإذا حدث أن أدّى التّنافر بين الرّوح والجسد إلى التشظي، فإنّ بيتهوفن هو من عاش ذلك التشظّي، جسد مشلول وروح محلِّقة.. أوتشكّون في وجود الرّوح؟ إذن فأنتم بحاجة إلى سماع بيتهوفن.. فهذه الموسيقى كانت توهّجا لرجل أصم، فهل الجسد هو الذي صاغها.. وهذا الكائن الذي أصبح لا يسمع الكلام المنطوق غدا هو الذي يولّد الموسيقى، إنّ روحه التي باتت خارج كيانها أضحت هي الموسيقى. وما سمفونيّات بيتهوفن سوى أصوات مضافة إلى الإنسان. إنّ هذه الموسيقى الغريبة هي تمدّد للرّوح في آفاق تندّ عن الوصف، يغرّد فيها الطّائر الأزرق، ولكن الطّائر الأسود أيضا.