رضاب نهار

خارج العاصمة باريس، يحتفظ القرن التاسع عشر بعبق حضارته بين جدران صرحٍ معماري ما زال يشهد على الإرث العريق للأمة الفرنسية والإنسانية، معلناً بخطواتٍ واضحة نحو المستقبل، بقاءه واستمراريته أيقونةً للفن والمسرح والتاريخ.. إنه مسرح قصر فونتينبلو الإمبراطوري الذي أمر ببنائه نابليون الثالث في منتصف القرن التاسع عشر، أو باسمه الجديد «مسرح الشيخ خليفة بن زايد»، حيث تلتقي فنون العالم وحكمته على خشبة واحدة. فبعد إغلاقه حوالي ما يفوق الـ100 عام، تمّ إعادة افتتاحه كجزء من الشراكة الثقافية بين حكومة فرنسا وإمارة أبوظبي بالتوازي مع اتفاقية إنشاء متحف اللوفر أبوظبي، ومشاريع أخرى عديدة.
ما الذي يجعل من هذا الكنز المعماري العريق، بدلالاته الثقافية والإنسانية، قبلة العالم المعاصر، سواء على مستوى النخب، أو على صعيد الأفراد العاديين؟
هذا السؤال، يستمد إلحاحه منذ مراسم الافتتاح الرسمي لمسرح الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان «مسرح قصر فونتينبلو الإمبراطوري» في العاصمة الفرنسية باريس، قبل أسابيع، والذي شهدها سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، الذي قال حينها في كلمة معبّرة «بالنسبة لنا في دولة الإمارات، فإن صيانة التراث والحفاظ عليه وإعادة تقديمه للأجيال الجديدة بشكل لا يمس بأصالته، تعد قيمة عليا تنتهجها القيادة الحكيمة في مختلف المجالات، فلا يمكننا أن نحدث الناس عن التسامح دون أن نبين لهم أهمية احترام الاختلاف والاحتفاء بالتنوع، فالزائر إلى متحف ما لا يملك إلا أن يدرك أن البشرية لم تتطور وتتقدم إلا بسبب تنوع إنتاجاتها المعرفية وتركيباتها الاجتماعية». وأضاف نقلا عن الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين: «لا توجد في الدنيا بذرتان متماثلتان وفي الحقيقة فإن التنوع ميزة مطلقة»، ولهذا نحن هنا اليوم لنقول للعالم إن قبولنا بالتنوع ليس كرماً منا، بل هو حاجة ملحة للمجتمعات البشرية التي تعاني اليوم الصراعات والكراهية، تماماً مثلما عانت أيام مونتين حروباً طائفية أدت إلى مذابح مرعبة».
حملنا السؤال الملح، وطرحناه على معنيين بالمشروع الإماراتي لاستعادة هذا الكنز الحقيقي، فتشكلت من إجاباتهم هذه الصورة:

تعاون ثقافي مشترك
يقول معالي زكي أنور نسيبة وزير دولة: «تنطلق دولة الإمارات العربية المتحدة في دعمها لترميم مسرح فونتينبلو من العلاقات الوثيقة مع الحكومة الفرنسية منذ زيارة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الأولى إلى فرنسا في العام 1975. حيث كانت زيارته بهدف بناء صداقة استراتيجية في كافة القطاعات الاقتصادية والزراعية والعلمية والتربوية، وفي مقدمتها الثقافية التي تبلورت في مجموعة من الاتفاقيات المثمرة، بدءاً من كونه، رحمه الله، كان أول من رحّب بفكرة إنشاء معهد العالم العربي في باريس».
وبيّن معاليه أن إعادة افتتاح مسرح الشيخ خليفة بن زايد هي من المبادرات المتبادلة بين الدولتين، والتي شملت 17 متحفاً، تقرّر الاتفاق على حمايتها وحفظها من التهديد بكافة أنواعه. مؤكداً أن المسرح يعتبر اليوم واحداً من أهم الكنوز التراثية والإنسانية القيّمة، وبالتالي هو ملك وإرث لجميع البشر ولا تملكه فرنسا وحدها.
من الجانب الفرنسي رأى جون فرانسوا إيبار Jean-François Hebert، رئيس قصر فونتينبلو أن العلاقات الثقافية بين فرنسا ودولة الإمارات العربية المتحدة تعكس التزام الطرفين المشترك ببناء مجتمع دولي موحد تتمحور أساسياته حول الثقافة والتراث والحضارة الإنسانية. وهذا يحدث من خلال تبادل المعرفة والخبرات والدراية في المجالات التي لها علاقة في هذا الشأن، الأمر الذي تتبلور نتائجه عبر الصروح والمعالم المهمة التي يتمّ العمل على تشييدها، أو إعادة بنائها بهدف الحفاظ على الكنوز الثقافية الإنسانية.
وقال: «كم من الرائع أنه وبعد 150 عاماً من النسيان، سيرتفع الستار مرة أخرى لتظهر الأسرار المحفوظة في مسرح الشيخ خليفة بن زايد. إن إعادة افتتاح المسرح الإمبراطوري هو حدثٌ بالغ الأهمية بالنسبة لقصر فونتيبلو، كونه يأتي تتويجاً لحصيلة عمل 12 عاماً من الدراسات والبحث والترميم على أرض الواقع». ثم أضاف أن الافتتاح يوضّح نتيجة التعاون المثمر والبنّاء بين إمارة أبوظبي والحكومة الفرنسية، مبيناً أنه بفضل هذا الترميم، أصبح من الممكن للجمهور من جميع أنحاء العالم أن يستكشفوا من جديد مسرح البلاط الملكي الذي احتفظ بجميع معالمه التاريخية والثقافية، بما فيه من تصاميم وديكورات تعكس المناخ المسرحي الفرنسي في القرن التاسع عشر.
أمّا بما يخصّ تغيير اسم المسرح بعد الرعاية الإماراتية، فقد علّق إيبار بالقول: «في عام 2007 تمّ توقيع اتفاقية تاريخية بين إمارة أبوظبي والحكومة الفرنسية بهدف استحضار مسرح فونتينبلو، ولقد تمّ تخصيص 10 ملايين يورو لقلعتنا لإدارة هذا المشروع غير المسبوق. وإنّ أهمية هذه الرعاية هي ما دفعنا إلى تسمية هذا المكان على اسم راعيه الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان».
وحول هذا الحدث غير العادي، اعتبر السيد جاك لانغ، مدير معهد العالم العربي في باريس أن مسرح الشيخ خليفة بن زايد، يترجم الجهود الفرنسية الإماراتية في التعاون الثقافي والحضاري. وشدّد على أنها خطوة هامة يقدّرها الفرنسيون بسبب إسهامها في إعادة إحياء رمزٍ من رموزهم التاريخية العريقة. وقال: «أنا أشكر دولة الإمارات العربية المتحدة على هذا المجهود الرائع، إنها شجاعة كبيرة، فهذا المسرح هو أيقونة معمارية وتراثية ومن الجميل بالفعل استعادته لرونقه على الساحة الثقافية الفرنسية والعالمية.. وفي المستقبل القريب سيكون من الطبيعي اعتماد إدارته المتميزة خطةً واضحة ستأخذ على عاتقها مهمة تفعيل دوره ليس فقط سياحياً، وإنما على الصعيد الفكري والفني أيضاً».
وبالفعل، أكّد لنا السيد إيبار، أنهم بدؤوا باعتماد برنامج تفاعلي يساعد الزوار في التعرف على هذه التحفة المعمارية الإمبراطورية الشاهدة على الحياة في عصر نابليون الثالث. وأن البرنامج يشمل مجموعة من الجولات السياحية المصحوبة بمرشدين على مدار العام، والتي ستمكّن الزوار من الاطلاع على خشبة المسرح وصالته، بالإضافة إلى قاعة الرسم المجاورة والردهات الأخرى. وأعلن أن المسرح سيبدأ باستقبال العروض الاستثنائية فقط لتجُسّد على خشبته، حتى لا تكون هناك مخاطرة بإتلاف هذه التحفة الفريدة من نوعها. وأوضح أنّ برنامج الزيارات والعروض سيختلف في فصل الصيف عنه في فصل الشتاء، نظراً لظروف الطقس الواجب أخذها بعين الاعتبار بالنسبة للمسرح أولاً، وللزوار الذين يأتون من الجنسيات كافة، ثانياً.

مواكبة إعلامية فرنسية
تصدّر خبر افتتاح مسرح الشيخ خليفة بن زايد عناوين معظم الصحف الفرنسية التي أوضحت أهمية الحدث على المستوى الثقافي والسياحي والتراثي لدى الفرنسيين من جهة، وركّزت على عمق التعاون الإماراتي الفرنسي في قطاعات الثقافة كافة من جهة أخرى.
فقد نقلت صحيفة Le Parisien قبل أسابيع الحدث تحت عنوان عريض هو «فونتينبلو: سيتم إعادة فتح المسرح الإمبراطوري للجمهور». واستشهدت بما قالته الشخصيات الرسمية الإماراتية والفرنسية أثناء الافتتاح، مسلطةً الضوء على ما قاله سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان: «لا توجد حضارة من دون فن».
وتجدر الإشارة إلى أن الإعلام الفرنسي قد أعطى الحدث أولويته منذ إعلان الاتفاقية في العام 2007، وواكب مراحل العمل والترميم بأهم خطواته، نظراً للمكانة العظيمة التي يحتلها المكان في المجتمع الفرنسي. فقبل ما يقارب العام، نشرت صحيفة Le Figaro مقالةً عن تجهيزات الترميم وتحدياته بالتفصيل، معتبرةً أن مسرح الشيخ خليفة بن زايد جوهرة الإمبراطورية الثانية المستوحى من مسرح ماري الصغير في تريانون.
أيضاً وفي العام 2014، نشرت La Croix تحقيقاً تحدثت فيه عن أصالة المكان الذي يعكس الذوق الإمبراطوري في القرن التاسع عشر، معلنةً أن هذا المسرح الذي أعيدت تسميته على اسم رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة من المفترض أن يستعيد في ربيع عام 2019 روعته السابقة.
من جهةٍ أخرى تنقل جميع المنشورات والكتيبات حول مسرح الشيخ خليفة بن زايد، والتي يتمّ توزيعها في فرنسا، وجهة نظر القيادة الإماراتية في دعمها لمشروع الترميم. فضلاً عن رؤيتها إزاء التراث العالمي الإنساني الواجب حفظه. وقد اقتبست إحدى الكتيبات المنشورة كلمة باللغة الفرنسية لمعالي محمد خليفة المبارك، رئيس دائرة الثقافة والسياحة- أبوظبي، قال فيها: «الحفاظ على التراث الثقافي له أهمية كبيرة من أجل نقل حضاراتنا إلى الأجيال القادمة في المستقبل». وأضح معاليه أن استعادة المسرح من جديد يبيّن رغبتنا في دعم التراث الثقافي العالمي وبناء مجتمع دولي موحد حول الثقافة.

التجديد بروح الماضي
شيّد هذا الصرح العظيم المهندس المعماري هيكتور ليفويل، في الفترة ما بين عامي 1853 و1856 بناءً على طلب الإمبراطور نابليون الثالث الذي رغب بإضفاء التغيير على قصر فونتيبلو وكسر الملل والروتين من أجل إرضاء زوجته يوجين، حيث تمّ استبداله بمسرح أو قاعة الكوميديا القديمة، التي كانت مساحتها الأصلية صغيرة جداً، ولا تحتوي على وسائل الراحة الحديثة التي يريدها الإمبراطور. والمسرح هو جزء من مبنى لويس الخامس عشر داخل القصر، وقد صمّم على هيئة مسرح الملكة ماري أنطوانيت الصغير في فيرساي.
وقد عمل ليفويل على تجهيز قاعة بيضاوية الشكل بمساحة (45 * 15) متراً، تحتضن قرابة 400 مقعد، بما في ذلك 100 مقعد للاستخدامات الخاصة. بالإضافة إلى الممرات والسلالم والكواليس وجميع المرافق المخصصة للموسيقيين والميكانيكيين. دون أن ينسى مراعاة التسلسل الهرمي للطبقات الاجتماعية الذي كان سائداً في ذلك الزمن.
منذ افتتاحه الرسمي في مايو 1857 أثناء زيارة دوق روسيا الأكبر قسطنطين شقيق القيصر ألكسندر الثاني، وحتى إغلاقه، احتضن مسرح فونتينبلو 15 عرضاً فقط، الأمر الذي يفسّر احتفاظ الديكور والأثاث فيه برونق القرن التاسع عشر حتى الآن.
وتفيدنا التقارير المرسلة من إدارة قصر فونتينبلو أن الدراسة الأولية لمشروع التحديث، حدّدت ثلاث مراحل لعملية الترميم. عملت المرحلة الأولى منها على ترميم القاعة الرئيسية والدهليز الإمبراطوري والسلالم وغيرها من المساحات ذات الاستخدامات الوظيفية. وفي حين عملت المرحلة الثانية على استكمال ترميم الأماكن الجانبية في الطابقين الثاني والثالث من القاعة وتثبيت الآلات والأنظمة التشغيلية وصيانة الأرضيات وتجديد زخارف المقصورات العلوية، ركّزت المرحلة الثالثة على المهمات النهائية لإتمام المشهد بكافة وسائل الراحة التي يتطلبها.
ويذكر أن المرحلة الأولى من العمل كانت قد بدأت في ربيع عام 2013 وانتهت في أبريل 2014 بمشاركة 25 خبيراً و135 حرفياً عملوا على استعادة التصاميم الأصلية، ليتم افتتاح المسرح في مايو 2014 بحضور وزيرة الثقافة والاتصال أوريلي فليبيتي وسمو الشيخ سلطان بن طحنون آل نهيان. بعدها بدأت المرحلتان الثانية والثالثة في العام 2017 إلى أن استكملتا بشكل تام في ربيع 2019.
وحول التحديات التي واجهت إدارة القصر أثناء الترميم، قال جون فرانسوا إيبار: «أثناء عملية ترميم المسرح كان التحدي الرئيس هو إعادة هذا التراث المعقد لمجده السابق دون إفقاده خصوصيته التاريخية. فقد واجهتنا صعوبة في كيفية وضرورة احتفاظ كافة أرجاء المكان بروحها القديمة التي تجسّد حقبة من التاريخ الفرنسي، إلا أن التصميم المبدع والدقيق للمسرح على يد ليفويل، ساهم في جعل عملية الترميم أقل صعوبةً وتعقيداً».
وأضاف: «أؤكد أنه على الرغم من وجود العديد المشروعات التي عملنا على تنفيذها وتطويرها في داخل المسرح، إلا أننا قمنا بإعطاء أولوية اهتمامنا وجهدنا للعمليات التي من شأنها الإبقاء على أصالة هذه العمارة. فقد تمّ حفظ حوالي 80% من المواد الأصلية الموجودة منذ تشييد المكان. مع العلم أن المفروشات وقطع الأثاث والمقاعد الحالية هي ذاتها تقريباً التي كانت في عهد نابليون الثالث».
من يزور المسرح بعد الانتهاء من جميع الأشغال فيه، يكتشف أن الترميم كان استعادة مثالية لجميع مكونات هذا الفضاء الذي يوحي بروح البلاط الإمبراطوري في فرنسا. ومن خلال فيديو موجود على موقع قصر فونتينبلو الإلكتروني عبر الإنترنت، يمكننا إلقاء نظرة فاحصة وعن قرب على عملية التحديث والاستعادة التي نالها المسرح. لقد كانت مهمة بالغة الخطورة أخذت على عاتقها استعادة الروح القديمة لمكانٍ أثري وتاريخي، وتدعيم أساسياته ليتمكّن من استقال العروض والزوار من جديد. بالإضافة إلى إدخال المعدات والتجهيزات والتقنيات الحديثة التي تتكيف مع المتطلبات الراهنة دون إفقاده أصالته العريقة. فكما ذكرنا أعلاه، إن جميع المواد المستخدمة في الترميم هي ذاتها التي استخدمت قبل حوالي 150 سنة في البناء، لكن مع تغيرات بسيطة جداً.
وأيضاً في ذات الفيديو، نستطيع أن نرى كيف كان التقنيون والخبراء المرممون يتعاملون مع كل قطعة داخل المسرح، كما لو أنها من دمٍ ولحم، يمنحونها كامل العناية والرعاية إلى أن استعادت عافيتها ونهضت مرةً أخرى تروي قصص الماضي لأبناء الحاضر والمستقبل.
وبالنسبة للزوار، ربما من الضروري قبل ذهابهم لزيارة المسرح، أن يشاهدوا هذا الفيديو التوثيقي لمراحل العمل، لعلّه يمنحهم فكرة واضحة عما هم مقبلون عليه، ويهيئهم نفسياً أنهم سيكونون في جولة مع تحفة متكاملة، لكل جزء منها حكاية استلزمت الكثير من العناية والدراسة لتبدو بهذا الشكل.

غنى بصري لا محدود
بالعموم، يجسّد المسرح نمط الفن الكلاسيكي الذي يعكس التوجه العام في الفنون والآداب والثقافة بشكل عام. حيث ساد في النصف الأول من القرن التاسع عشر نزعة الكلاسيكية الجديدة التي استرجعت معها أساليب وأنماط العصور الوسطى حيث الفخامة سمة الديكور والأثاث والبناء. أو ما يمكن أن نطلق عليه في فرنسا «الطراز الإمبراطوري»..
ويتألف المسرح من ثلاثة مستويات فوق بعضها بعضاً، تضمن إمكانية الفرجة بما يتناسب مع التوازن الطبقي الاجتماعي. وفي جميعها يتآلف اللونان الذهبي والأحمر بتدرجاتهما المختلفة، بشكلٍ حميمي ومبدع، ليظهرا الروح الحقيقية للصالة المسرحية. فكما يضيفان لها الفخامة، يمنحانها الدفء في هيئة عتيقة لا يمكننا وصف جماليتها وسحرها.
وفي استكشافنا لكامل الفضاء المسرحي في الصالة، نبدأ من الأرض حيث السجاد الذي يفترش طبقات الصالة الثلاث وتزيّنه الورود بالألوان الأحمر والأصفر والأخضر على خلفية فاتحة تكسبه التوازن في البذخ. وكأن الثقل اللوني البصري الأرضي، يشكّل الجاذبية القوية التي تحمل فوقها أضعافاً من الغنى الفني اللامحدود. ففوقه مباشرةً تصطف الكراسي ذات المفارش القماشية الذهبية على هيئة أوركسترا تعزف سيمفونية الخلود.
كذلك تستوطن الطبيعة الأم في المشهد كاملاً، فالزخارف المرسومة على الجدران، والتي تمتهن الأناقة ذات التفاصيل الاحترافية، معظمها مستوحاة من الأشجار والنباتات. أيضاً، المزيد من المناظر الطبيعية الخلابة رسمت على ستائر الخشبة، مستفيدين منها في إضفاء الجمالية إلى جانب الاستخدامات المسرحية.
وإذا ما أردنا البحث عن بطل بين هذه العناصر البصرية داخل المسرح، فسنتوجه مباشرة إلى الإضاءة التي أبرزت روعة التفاصيل ودقة التصاميم، فتوهّج بها الذوق الإمبراطوري الرفيع ضمن طقس مسرحي راقٍ.
ونؤكّد أن الطقس المسرحي في مسرح الشيخ خليفة بن زايد هو جزء لا ينفصل عن الطقس العام لقصر فونتينبلو منذ لحظة وقوفنا على مشارفه أمام مبناه الضخم الباعث على الرهبة والصمت داخل أرواحنا. فالخيال هو القائد الأهم في هذه الرحلة التي تضمن لك جولة درامية بين حكايا وأساطير وشخوص الحياة الفرنسية الأوربية منذ القرن الثاني عشر.
إذن، التاريخ في مسرح الشيخ خليفة بن زايد لا يقف فقط على حدود القرن التاسع عشر. إنه حصيلة تراكم قرون من أساليب الحياة والفنون والثقافات التي أسهمت جميعها في وجوده كبناء أولاً، وكرمز ثقافي وحضاري يختصر الفكر الأوروبي في فرنسا، ثانياً. وهو ما منحه من السحر والعظمة القدر الكافي لجعل الزوار الحاليين يبحثون على خشبته وخلف الكواليس عن ممثليه الاستثنائيين بأزيائهم وأقنعتهم المبالغ بها. أو تراهم يترقبون بحماسٍ شديد دخول الإمبراطور نابليون الثالث وزوجته الإمبراطورة يوجين ليجلسا في المقعدين المخصصين لهما. هذا أمر مذهل بالفعل أن تكون في حضرة مناخ إمبراطوري بكل ما تعنيه الفخامة من معنى، وأنت تقف بملابس القرن الحادي والعشرين. ما يجعلنا ندرك المسؤولية الكبيرة التي حملها حراس هذا المسرح من مديرين ومشرفين ومهندسين وراعين.

34 ملكاً وإمبراطوراً
يقع قصر فونتينبلو على بعد نحو 60 كيلومتراً جنوب شرق العاصمة باريس. ومنذ أن ذكر لأول مرة في ميثاق ملكي في العام 1137، وهو العام الذي ولد فيه لويس السابع، إلى العام 1870 حين سقطت الإمبراطورية الفرنسية، تعاقب على القصر 34 ملكاً وإمبراطوراً فرنسياً أثّروا في شكله وعمارته وأضافوا إلى بنائه. واليوم يضمّ القصر نحو 1500 قطعة أثرية من منحوتات ولوحات وغيرها، تستقطب السياح من جميع أنحاء العالم، فضلاً عن كونه يضمّ حالياً الأكاديمية الفنية الأميركية لتعليم الفنون والهندسة المعمارية والموسيقى..
في العام 1981 تمّ إدراج قصر فونتينبلو مع حديقته الخلابة على لائحة التراث العالمي لليونسكو.