فلورنس بن سعدون
ترجمة: أحمد عثمان

ستة أفلام، من بينها فيلم عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، في دورته الأخيرة، مسلسلات، مسرحيتان... ما الذي يدعو إيزابيل أوبير إلى العمل بكثرة؟ تكمن الإجابة بين أسطر هذه المحاورة مع صديقها الكاتب بول أوستر.
في قلب تشيلسي، بنيويورك، التقت إيزابيل أوبير ببول أوستر في بيتها، وقت تناول الشاي – الأخضر لأوبير والأسود لأوستر. نحن على مقربة من «الأطلانطك ثياتر»، الذي غادرته الفنانة اليوم فجراً، بعد شهرين من عرض مسرحيتها «الأم» (التي عرضت من قبل على مسرح باريس في 2010)، عن نص لفلوريان زيلر، حيث قامت بدور أم مهجورة، غريبة الأطوار، متهالكة على أريكتها تبتلع الأقراص المهدئة كما حبات الحلوى.
من ناحيته، بول أوستر، الصديق الأميركي، الذي يحيا كما كنا نحيا في السابق، من دون هاتف جوال ولا حاسوب، والذي يتلقى رسائله عبر «الفاكس» من خلال مساعدته، ينظر إليها بهذه النظرة القوية. مفتوناً بالفنانة التي تشعره بكونها تطير عندما تمشي. فضلاً عن ذلك، لا تمشي، بل تطير من مطبخها إلى الصالون كريشة، بالمعنى الحقيقي كما المجازي. ريشة نادراً ما تحط على مكان ما.

* هل يرجع لقاؤك ببول أوستر إلى المصادفة؟
- إيزابيل أوبير: بالتأكيد، ولكن لا أتذكر أين ولا كيف. أتذكر أنني ذهبت إلى حفل موسيقي أحييته ابنته صوفي، في «نيو مورنينغ»، بباريس، قبل عشر سنوات، ولدي ذكرى طيبة بأنني تناولت العشاء في بيته ببروكلين برفقة ابنتي. ولكن لا أستطيع في الحقيقة تأريخ لقائنا الأول.
- بول أوستر: ربما قبل عشرين عاماً.. في باريس، أعتقد، في مطعم، بيد أنني لست متأكدا أيضا. أعرف الشخص الذي كنت معه، أو العكس، وأننا بدأنا تبادل الحديث. ببساطة.

* وأول مرة لك في الولايات المتحدة، هل تتذكريها، إيزابيل؟
- إيزابيل أوبير: طبعاً. زرت أثنى وعشرين ولاية خلال ثلاثة أشهر مع «منصات باريس»، مؤسسة أسسها عصر ذاك بيير كاردان وتقوم بتنظيم جولات مسرحية في الولايات المتحدة، في الجامعات والمدارس، لعرض مسرحيات كلاسيكية – ومن ضمنها «البخيل» (موليير). تلك وسيلة استثنائية لاكتشاف هذا البلد، من خلال العالم الطلابي، السياحي نوعا ما، ولكن بالطبع الأصيل. منذ ذاك، أعتقد أنني زرت ثلاثين أو خمس وثلاثين ولاية تقريبا. أيضا، أذكر المرة الأولى في نيويورك، لحظة عرض «مصنع الدانتيلا»، في نيويورك. كانت صدمة بالنسبة لي هذه المرة الأولى، ومن وقتها لدي حب كبير لم يخمد تجاه هذه المدينة.
- بول أوستر: وكيف تعلمت الإنجليزية؟ لأن دورك بهذه اللغة غير معقول! كنت مرحة في هذه المسرحية وجعلتيني أضحك كثيراً.
- إيزابيل أوبير: تعلمتها وقتما كنت طفلة، لأننا، أخواتي الثلاثة، أخي وأنا – كنا نتبادل الأحاديث بالإنجليزية منذ صغرنا. وفي الصيف، نذهب إلى إنجلترا لدى عائلات لكي نحسن لغتنا. أحب الحديث بالإنجليزية، بيد أنني لا أعتبر نفسي مزدوجة اللغة. التمثيل بالإنجليزية يعجبني وليس بالشيء الصعب. حتى أنني أستطيع القول إنه يثير إعجابي. لأننا لسنا نفس الشخص عندما نعبر عن ما في أنفسنا بلغة أخرى غير لغتنا. أحياناً، نكون أكثر حرية، وأحياناً أخرى، أكثر انزعاجاً. على خشبة المسرح، صوتي بالإنجليزية يتغير بصعوبة – ويصبح أكثر حدة. وأنت، يا بول، أين تعلمت الكلام بالفرنسية، وهو أمر نادر بالنسبة لنيويوركي؟
- بول أوستر: درست الفرنسية في المدرسة الثانوية. حينما قدمت إلى فرنسا أول مرة وأنا في الثامنة عشرة من عمري، كنت أستطيع الكلام بها إلى حد ما. ثم، في سن الرابعة والعشرين، عشت في باريس عامين ونصف، وأيضاً عملت حارساً لمزرعة في إقليم «الفار» (الجنوب- الشرقي الفرنسي)، وفي هذه المرحلة، كتبت الكثير من القصائد (1). ومن خلال صداقاتي الفرنسية، تعلمت اللغة، وكذا نمط حياة ألهمني طوال حياتي، مثل نمط حياة صديقي الكبير، الشاعر جاك دوبان. علمني التعامل بكرم مجاني مع الشباب، وهذا ما أسعى لنقله إلى من يحتاج مساعدتي. ولكن، بالنسبة لي، هناك أيام طيبة وأخرى سيئة للكلام بالفرنسية. هناك أيام، لا أستطيع الكلام، أبحث عن الكلمات، وأيام أخرى أتحدث بطلاقة.
- إيزابيل أوبير: كم لغة تُرْجمت إليها؟
- بول أوستر: خمس وأربعين لغة، ولكن ليست هناك سوى الترجمة الفرنسية التي أستطيع قراءتها، فهمها، العمل عليها، وتقييمها. اللغات الأخرى، لا أعرف إن كانت الترجمات جيدة أم سيئة.
- إيزابيل أوبير: من اللازم الاحتفاء بالمترجمين والمترجمات على أعتبار أنهم معلمو الإنسانية! ماذا نفعل من دونهم؟ لا نستطيع قراءة دوستويفسكي، توماس مان...
- بول أوستر: لا نستطيع قراءة الكتاب المقدس، شكسبير أو هوميروس!
- ايزابيل أوبير: أنهم قاعدة ثقافتنا. إذا كانت الترجمة سيئة، فإنها من الممكن أن تشوه كلياً العمل.

* وأنت، بول أوستر، ألم تكتب عملاً مسرحياً أبداً؟
- بول أوستر: حينما كنت شابا، كتبت ثلاث أو أربع مسرحيات من فصل واحد، وقد تم تمثيل إحداها. لا أزال أتذكر أنها عرضت في الورشة التي انتحر مارك روتكو فيها. منيت بالفشل الذريع، تجربة مؤلمة، ولم أفعلها ثانية!
- إيزابيل أوبير: هل تكتب كل يوم؟
- بول أوستر: كل يوم من الثامنة صباحا حتى الرابعة بعد الظهيرة. حينما بدأت كتابة روايتي 1234 (صدرت طبعتها الفرنسية عن آكت سود)، كانت المرة الأولى التي أدرك فيها الشكل قبل المحتوى، وهي تدور عن حياة رجل يدعى فيرغسون، في أربع روايات مختلفة. بدأت في كتابتها في عمر السادسة والستين، نفس عمر والدي حينما توفي. لحظة غريبة بالنسبة للابن: أن يكون أكبر من والده. شعرت بأنني أمضي عبر ستار لا مرئي، وكان يسكنني كابوس رهيب بالموت قبل الانتهاء منها. مكثت أكثر من ثلاث سنوات ونصف في كتابتها، في حالة من الرعب. اليوم، شفيت من هذا الكتاب الضخم الذي تتعدى صفحاته الألف بكتابة آخر صغير عن حياة ستيفان كران وأعماله. كاتب كبير توفي في سن الثامنة والعشرين.

* بول، قلت إن بطل روايتك فيرغسون يسكنك منذ فترة طويلة. وأنت، إيزابيل، هل تسكنك الأدوار؟
- إيزابيل أوبير: لوي فوياد (مخرج من زمن السينما الصامتة) قال إن الأفلام كالأميرات النائمات. فكرة جميلة، بأن كل هذا يسكن في دواخلنا وأن السينما توقظه.

- بول أوستر: هل تقومين بإجراء الكثير من الأبحاث خلال الإعداد لدورك؟
- إيزابيل أوبير: في الحقيقة، لا! بالقطع لا. أخيراً... لنقل إنني «أجد قبل أن أبحث»، كما قلت في فيلم «فرانكي»، لايرا ساكس، وهي جملة استعرتها من بول فاليري أو بروتون من غير تأكيد... التمثيل، أي بالأحرى القيام بأعمال تخيلية. فقط إذا لزم العزف على البيانو في فيلم ما: هكذا، أتعلم. الملابس، شيء جوهري. كل تفصيلة محسوبة. في مسرحية «الأم»، هناك هذا الثوب ذي اللون القاتم نوعا ما، على الطريقة البرغمانية، تلك كانت فكرتي، وهذا ما تخيلته. ياقة مطوية وتنورة طويلة تتناقض مع الثوب الأحمر القصير الذي أبدعه ديور.
- بول أوستر: اندهشت عندما قمت بإخراج أفلام، إن كتابة رواية أو العمل كممثل مهنتان متشابهتان. نعمل على أن نبعث الحياة في الشخصيات المتخيلة، منحهم وجودا، أنت بالصوت والجسد وأنا بالقلم أو الآلة الكاتبة.
* خلال الوقت الذي مكثه بول في كتابة روايته الأخيرة، كم من الأفلام عملت بها، إيزابيل؟
- إيزابيل أوبير: لا أعرف عددها... الكثير. ولكن كل هذه الوجوه، هذه الشخصيات، غريتا، فرانكي، دارون، مود في «ذات الرداء الأبيض»، سابين في «لوز». شعرت بأنهن يمثلن جزءا من نفس الرواية، التي أكتبها من دون كتابة. بالتأكيد، أنا منشغلة طوال النهار والليل في هذه الأثناء بشخصية «ماري ستيوارت» (مسرحية «تقول ماري، ماذا تقول؟»). وهو عرض لبوب ويلسون. بالأحرى، يتعلق الأمر «بعبور»، حلم يقظة، تجربة... تجريدي للغاية وحواسي – بين الوعي واللا وعي. في آخر الأمر، كل ما نعرفه عن بوب ويلسون. على كل حال، كل عمل جديد مغامرة استثنائية تحملنا إلى عالم آخر، عالم خاص بها وحدها.

* هل فكرت أحياناً في فكرة الاعتزال ذات يوم؟
- إيزابيل أوبير: أفكر فيها طوال الوقت. غير أنني لن أفعلها البتة. حب القيام بعمل ما، يعني الخضوع له بصورة طبيعية! والتبعية لكل ما هو طيب وما هو سيئ. أذكر أن (جون-لوك) غودار قال يوما عني فيما أعتقد إنه لا يمكننا أن نفصل بين السينما والحياة في حياة الممثلة. تتمثل الفكرة في كوني أحكي دوما شيئا ما عن نفسي، على الشاشة أو على خشبة المسرح. بالضبط، حياة تحكي نفسها، كما قطار في حالة وقوف أحيانا، وفي حالة سير أحيانا أخرى. ولكنه نفس القطار دوما!
- بول أوستر: نحن محظوظان بأننا نحيا ما نحب عمله.

بول أوستر.. صاحب «الثلاثية»
روائي وشاعر ومخرج أميركي. ولد في 3 فبراير 1947. من أهم أعماله «ثلاثية نيويورك» صدرت عام 1987، و«قصر القمر» (1989)، و«موسيقا الصدفة» (1990)، و«كتاب الأوهام» (2002) و«حماقات بروكلين» (2005). تُرجمت أعماله لما يقارب 45 لغة حول العالم.

إيزابيل أوبير.. «عازفة البيانو»
إيزابيل أوبير، ممثلة فرنسية شهيرة. ولدت في 16 مارس 1953. والدها صناعي وأمها أستاذة لغة إنجليزية. تلقت تربية صارمة، ونمت ذوقها الفني والأدبي منذ طفولتها. تجيد أكثر من لغة. درست اللغة الروسية وآدابها في كلية الآداب بكليشي. فضلاً عن أدوارها في السينما والمسرح الفرنسيين، قامت بالتمثيل في الكثير من الأفلام الروسية، الإيطالية والأميركية. رشحت إحدى عشرة مرة لجائزة سيزار، وحازتها مرتين كأفضل ممثلة. في عام 2001 حازت جائزة مهرجان كان عن دورها في فيلم «عازفة البيانو» (عن رواية ألفريده هينيكه). في يناير 2017، حازت جائزة الغولدن غلوب عن دورها في فيلم «هي»، وعنه أيضاً حازت جائزة سيزار.

هامش:
(*) Florence Ben Sadoun، Paul Auster et Isabelle Huppert: «Écrire un roman ou être un acteur sont des jobs très similaires» Madame Figaro، ، 31 mai 2019.
(1) كتب بول أوستر قصائده الأولى بالفرنسية ونشرها في بعض المجلات الشعرية قبل أن يقوم بترجمتها إلى لغته ونشرها بالإنجليزية. (المترجم).