لا شك أن الأديب يوسف إدريس الذي رحل عنا عام 1991 هو كاتب من طراز خاص.. لكنه في المسرح وهو المجال الذي لم ينل فيه حقه من المواكبة النقدية فكاتب من الطراز الأول، له خصوصيته ونكهته وهويته وإشكالاته أيضاً والتي أحدثت وما تزال جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية يوم أن اقتحم ساحة المسرح قادماً من مهنة الطب في مطلع الستينيات.. إدريس الذي رحل قبل سبعة عشر عاماً، ما زال واحداً من عمالقة المسرح العربي من كتاب جيل الوسط.. ما زالت بصماته التي تركها على كثير من أعماله مؤشراً على موهبته المسرحية الكبيرة، حيث قدم خلال حياته للمسرح أكثر من عشرين نصا من أهمها على الإطلاق “الفرافير” و”المهزلة الأرضية” و”اللحظة الحرجة” و”المخططين” و”البهلوان”، وبالطبع لا نغفل حرفيته وإبداعه لأكثر من 30 قصة قصيرة ورواية من بينها: حادثة شرف، العسكري الأسود، أرخص ليالي وجمهورية فرحات. يوسف إدريس المولود العام 1927، صاحب موهبة نبعت من تربة الأرض المشرقة السمراء، التي يجري فيها النيل الوديع، فنه الذي ارتسم في خياله مؤصل من ثقافة شعبية وحينما كتب للمسرح نهل من جذور (مسرح السامر) الشعبي، وبفضل ما حبته الطبيعة من أغوار خصبة ومهارات خلاقة، استطاع أن يقفز بأعماله المسرحية إلى رحاب الفن الإنساني العظيم الذي تسقط فيه الحواجز بين البشر. من أهم ما كتبه للمسرح مسرحية بعنوان “الفرافير”، أخرجها فارس المسرح المصري الراحل كرم مطاوع العام 1964، لمصلحة المسرح القومي بالقاهرة، كما عرضت على مسرح الأمم بباريس باعتبارها أحد أهم نماذج المسرح المصري آنذاك، واحد أهم أعمال إدريس. وهي قصة سيد وعبد بينهما صلة سحرية أشبه بقوة المغناطيس التي تجذب الأجرام إلى الأجرام.. ورغم وجود النازع في العبد لان يخرج من مجال السيد المغناطيس فهو لا يفلح في الفكاك منه (بطبيعة الأشياء) أو بقانون الجاذبية الذي بغيره ينفرط عقد الأفلاك ويذهب الكون بددا. فوق وتحت هنا أدخل إدريس الإنسان في مأزق حتمية علاقة العبد بالسيد التي لا يجدي في علاجها أي نظام اجتماعي ولا أية فلسفة اجتماعية يمكن إن يتفتق عنها عقل الإنسان وضميره النازع دائما إلى الحرية والمساواة والإخاء. لقد وضع أمامنا افتراضا فلسفيا خطيرا هو افتراض (اللاحل) لهذه المشكلة العويصة التي أرقت وما زالت تؤرق وجدان الناس منذ فجر التاريخ وستظل تؤرقهم إلى إن تتحقق أحلام الإنسان بعدل كامل.. هل كان إدريس متشائما حين ربط مصير العبد بسيده إلى الأبد.. وكأنه يقول انه لا فكاك من مثل هذا المصير.. فهذه هي الحياة أناس فوق وآخرون تحت؟ وهذه هي مشكلة علاقة السيد والعبد أو المتبوع والتابع التي تقوم بين الإنسان والإنسان في كل زمان ومكان.. فنحن في (الفرافير) معلقون بين شخصيتين رئيسيتين هما شخصية (السيد) الذي لا يجد له المؤلف اسما خيرا من اسمه المطلق هذا.. وشخصية (الفرفور) وهو اسم يطلق عادة في المسرح الشعبي على الخادم أو التابع الذكي الطلق اللسان، الذي يكون عادة موضع سر سيده وناصحه الأمين بما جبل عليه من حكمة شعبية وقلب متعاطف مع قلوب الناس فهو شيء قريب من الكورس اليوناني.. ومن حول هاتين الشخصيتين جملة شخصيات أهمها شخصية (المؤلف) الذي نعرف من السياق المسرحي والحدثي انه (القدر) إذا أردنا إن نستخدم كلمة غامضة أو (الطبيعة) أو (الحياة) وكيف تم رسم علاقة التبعية الأزلية بين الإنسان والإنسان، وفي المسرحية نرى زوجتان للسيد، ثم زوجة الفرفور، ثم جثة الميت، وأيضا (كورس) أو مجموعة من المتفرجين في صالة المسرح وهم يمثلون البشرية، وقد استخدم إدريس هذا التكنيك بما يعرف بـ (الشخصية المزروعة) أي وضع عدد من الممثلين بين صفوف الجمهور في الصالة وجعلهم يشتركون في العرض والأحداث وكأنهم جزء من الجمهور ولكنه جزء مقصود ومرتب فنيا، وهو الأسلوب الذي وصفه البعض بـ(مسرحة المسرح). وهو أسلوب لا يبتعد كثيرا عن طريقة الألماني برتولد بريخت صاحب المسرح الملحمي في ابتداعه لتكنيك (هدم الحاجز الرابع) بين الجمهور والممثلين.. وهو أحد الأساليب الكتابية التي سعت لإدخال الجمهور في اللعبة المسرحية، وفيها تبدو براعة إدريس الكتابية في نسج الأحداث وتركيب المشاهد. جاءت “الفرافير” في لوحتين، ويسيطر عليها فن (الديالوج) أو الحوار الثنائي بين السيد والعبد أو بين السيد والفرفور، ويتخلله بين الحين والآخر دخول شخصية من الشخصيات الأخرى.. وقد برع إدريس في خلق (مبارزة كلامية) بين الشخصيتين فيها الكثير من (الإسقاطات المعاصرة) على الفساد، والرشوة وتسلط السلطة وخواء بعض القوانين المدنية العتيقة.. من المشاهد الممتعة الجاذبة في بداية المسرحية (مشهد الحلم)، حينما نرى (السيد) ذلك الرجل السمين الكسول نائما يغط في أحلامه، وعندما يوقظه الفرفور نسمعه يقول: (لم أكن أحلم بمارلين مونرو.. كنت أحلم إني باحلم).. وهكذا نعلم منه أن كل ما سنراه شيء اختفى فيه الحد الفاصل بين الحلم والحقيقة وهذه براعة فنية تحسب لإدريس في صياغة الجمل المزدوجة.. ذات المعاني والدلالات الظاهرة والباطنة وهو أسلوب اشتهر به وليام شكسبير في صياغة حواراته الشعرية.. وقد أدركنا ذلك منذ الوهلة الأولى إن كل ما سنراه ليس إلا حلما من أحلام (المؤلف في المسرحية) الذي تركنا ومضى ليخلق بالخيال أشخاصا غير هؤلاء الأشخاص.. ومنذ هذه اللحظة أيضا ندخل عالم الكاتب الإيطالي لويجي بيراندللو في مسرحيته الشهيرة “ست شخصيات تبحث عن مؤلف”.. وبهذا المعنى يمكن أن نقول إن “الفرافير” هي مسرحية شخصيتين تبحثان عن أدوار، بعد أن تركهما المؤلف بعد أن شكَلهما على المسرح، وكتب لهما نصا صغيرا سريعا ناقصا، لا بد فيه للمثلين من (الارتجال) حتى يكتمل النص وكأنهما فعلا في (كوميديا ديلارتي الإيطالية المرتجلة).. ويلعبان في دائرة (التشخيص) أو (المسرح داخل مسرح)، وبهذا المنظور تحققت للفرافير كل مقومات النجاح والتأثير والدخول في دائرة التجديد في الصياغة الدرامية للنص في فترة المسرح الذهبي في الستينيات. مع سير المسرحية يكشف إدريس عن ظواهر خطيرة في المجتمع العربي، فحينما يبدأ التمثيل يكتشف (السيد) ككثير من الأسياد الكبار أنه بلا عمل، بلا مهنة كالعاطلين بالوراثة، وهنا يتداولان في أي الأعمال ينبغي أن ينخرط السيد وبأسلوب فكاهي هزلي يستعرضان كل الأعمال والمهن التي يمكن أن تخطر لنا على بال.. من وظيفة الرأسمالي إلى وظيفة الحرامي.. ولا يهتديان إلى شيء يصلح له السيد إلا مهنة حفار القبور أو (دافن الموتى).. وهنا يبدأ النزاع الحقيقي بينهما فالسيد يرفض.. ويريد أن يشتغل بالسيادة ويطالب الفرفور بحفر القبور.. وكأن إدريس يريد أن يقول لنا إن (السيادة الطبقية) قد ترسخت منذ ملايين السنين وأصبحت ستارا أو قانوناً حديدياً.. ومع ذلك وإمعانا من إدريس في مناقشة هذه المشكلة الأزلية يجد حلا وسطا حيث يتفقان على تجربة العمل المشترك في مهنة دفن الموتى.. ولكن أين الميت؟ إلى أن يحضر أحد الممثلين من الصالة ويعرض عليهما نفسه ليقتلاه لقاء أجر محدد.. وهنا أيضا يبرع إدريس حينما يتسلل إلى عالم السياسة، لكن على طريقته الساخرة الهزلية.. ونقده اللاذع للعالم.. مع توالي الأحداث نعرف إن (امتهان الموت) هي مهنة مألوفة يزاولها الملايين من البشر حينما يشاركون في حروب ليست لها هدفا أو شرعية.. فلماذا لا يعرض نفسه للموت مقابل أموال بدلا من يموت مجانيا في أحد حروب العصر.. مفارقة درامية يصنعها إدريس بمهارة عالية وفي مشهدية ذات تقنية عالية في الصياغة وتشكيل الموقف.. وبالمحصلة العامة يوافق السيد على طلب الرجل طالب الموت ويصدر أوامره للفرفور لكي يقوم بقتله.. فيرفض الأخير بشدة قائلا إن السلام من شيمة الفرافير أما القتل وسفك الدماء فمن شيمة الأسياد؟ ويقوم السيد بقتل الرجل بدم بارد.. ومع الوقت يصبح (مدمن قتل) ويرتاع الفرفور لأن سيده أصبح مصاصا للدماء.. دراكولا جديد في ثوب سيد مهذب.. وتكون أول ثورة للفرفور بعد أن هاله منظر الدم وقسوة سيده في القتل بلا رحمة.. وينطلق الفرفور هاربا إلى رحاب الله.. باحثا عن ذاته فهل يجدها؟ السلطة تفسد أبناءها تتجلى براعة إدريس في استثمار الإسقاط المسرحي والدخول إلى دائرة السياسة دون أي ضجيج أو مباشرة.. فهو يوصم الرأسمالية أو قل السلطة ممثلة بالسيد من خلال احتراف القتل، ومن ثم تعليم هذه المهنة للفرفور الذي يمثل ضمير الشعب أو الناس، ولتأكيد ذلك سرعان ما يلتقي السيد بالفرفور ثانية بعد إن يكون الثاني قد دار في جنبات العالم كله وعمل لدي أسياد كثيرين ووجد إن كل واحد أسوأ من الآخر.. جميعهم قتلة مجرمون أنانيون جشعون يلهثون وراء المال ولكن كل على طريقته.. لقد عاد الفرفور وقد تعلم (الوحشية) من هؤلاء.. لقد آل أمره إلى احتراف مهنة شراء أدوات الدمار والقتل والحرب.. باختصار لقد أصبح من تجار الحروب والسلاح.. وربما يكون مشهد الفرفور وهو يرتدي ملابس (بائع الروبابيكيا) وهو يعرض مبيعاته على الجمهور من أروع المشاهد على الإطلاق: (الفرفور: كل حاجة قديمة للبيع.. مجد قديم للبيع، قنابل ذرية قديمة للبيع مدافع قديمة للبيع.. مين عايز قنبلة هيدروجينية.. كله موجود.. بيكيا...). أما السيد فنعرف مع سير الأحداث انه أنجب عددا هائلا من الأولاد وكلهم حملوا لقب سيد.. وقد ورثوا عن أبيهم مهنة (سفك الدماء)، إما صناعتهم الرسمية فهي (دفن البشر) ونعرفهم من أسمائهم: الاسكندر الأكبر، نابليون، موسوليني، هتلر.. إلى قائمة عريضة من محترفي القتل واستغلال الشعوب المغلوبة.. ويبقى الحال كما هو عليه.. السيد يريد لنفسه السيادة وإصدار الأوامر، ويريد للفرفور العمل المضني.. لأنه العبد وعليه إن يدور في فلكه إلى ما لا نهاية.. وصياغة المشهد كما نرى تتحدث عن نفسها.. فمن هم صانعو الحروب والدمار أليس هم الكبار؟ انتهت المسرحية ورحل كاتبها المبدع يوسف إدريس ولم يجد العالم حتى الآن حلا لمشكلة خضوع الإنسان للإنسان.. لقد جرب في مسرحيته كل الأنظمة.. حتى مجتمع التساوي في السيادة الذي سمته الثورة الفرنسية (الحرية والمساواة والإخاء) فلم يجد فيه نفعا ولا صلاحا، كما جرب المجتمع الشيوعي القائم على سيادة الفرافير أو دكتاتورية البروليتاريا فلم يجد حلا لمشكلة الإنسان.. لأنه في الأصل يعالج (مشكلة أزلية). لقد جرب الحل النازي الذي يسمى أحيانا برأسمالية الدولة وخرج من هذا بأن الأسياد الرأسماليين في هذا النوع من الحكم يحكمون (فرفوريا العظمى) باسم الشعب، بعد أن ينفخوه بالزهو الفارغ.. لقد جرب أيضا وفي اللوحة الثانية من المسرحية المجتمع الفوضوي حيث لا سيد ولا مسود، وحيث تختفي السلطة تماما، ولم ينته إلى شيء مقنع كحل للمشكلة.. لقد جرب الديمقراطية على الطريقة الأميركية، ولكنه هرب منها لأنه اكتشف أنها تقوم على اختيار القيود وعلى (شنق الفرافير) كالزنوج إذ هم تجاسروا على تجاوز خطوطهم.. أو طالبوا بالمساواة الحقيقية؟ إن يوسف إدريس كاتب مسرحي عميق، والفرافير أبرزت قسمات وخصائص مسرحه، فمن سماته تصوير الشخصيات اليائسة المتخبطة في الحياة، كما انه مولع بمزج الضحك مع الأسى أو ما يعرف بـ(الكوميديا السوداء) ضحك له صدى البكاء بين الضلوع.. وهو أيضا كمفكر إنساني وكمسرحي متمكن استطاع بمهارة وتقنية عالية أن يزاوج بين روح السياسة والاجتماع والتحليل النفسي لشخصيات مسرحيته.. لقد حظيت الفرافير بموضوع جميل واستثنائي، إن لم يكن نادرا، فهو يطرق قضية الحرية والعدل مجسدة في علاقة السيد بالعبد أو الحاكم بالمحكوم أو الدولة بالفرد.. موضوع جميل وعميق وهو مما يمكن أن يؤرق الإنسان في أي حضارة من الحضارات.. وربما يجوز لي هنا القول إن إدريس الذي رحل وعينه على جائزة نوبل من أكثر الكتاب العرب اقترابا من الأدب العالمي.. ففيه روح الروسي تشيكوف لا سيما في استخدام (البناء الدرامي الدائري) في الكتابة للمسرح، وهو أسلوب صعب ويحتاج إلى مران ولغة ومفردات كتابية خاصة أجادها إدريس، بل طوعها لصالح عمله الفني.. لا سيما الفرافير فهي عمل فني قوي وخطير في ذات الوقت، ويمكن أن تترجم إلى أي لغة من لغات العالم وان تقدم لأي شعب من الشعوب فحتما سيجد هذا الشعب نفسه عالقا ما بين السيد والفرفور.. لأنهما شخصيتان موجودتان في كل أرجاء الدنيا.. وهذه الشمولية هي واحدة من سمات الكتابة عند إدريس، بل جعلت منه موضوعيا وعالميا دون أن يقصد ذلك.. إن المسرحية تعبير صادق عن ذلك (القلق الوجودي) الخصب الذي نجده أشيع ما يكون بين مثقفي حضارتنا الراهنة ممن يرون أن مشكلة الوجود الإنساني داخل الدولة أو النظام أو المجتمع أو تحت السلطة أيا كان مضمونها وحدودها مشكلة فلسفية محيرة قائمة بغير حل. في يقيني إن الراحل كان أقرب كتاب المسرح المصري قرباً من فكرة المسرح الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان.. لقد كتب مسرحيات كثيرة منها: المهزلة الأرضية وجمهورية فرحات وملك القطن واللحظة الحرجة وغيرها. وقد نجح تماما في استثمار العديد من الأشكال المسرحية العربية من أهمها (شكل السامر الشعبي) مع مقدرته على تكثيف الموضوع الذي يطرحه في معالجة عصرية تستند بعضها إلى معطيات التحليل النفسي.. في صورة وحي شامل والهام متكامل ورؤيا متجانسة، وهي من أهم العناصر التي أضافها إلى فن الكتابة المسرحية. إن أعماله المسرحية ما زالت تحتل مكانة مرموقة وخاصة في المسرح العربي لأنه لم يكن من محبي الإفراط في التعبير أو التوسع فيه، كما كان بسيطا تلقائيا فرض حضوره بين ثنايا النص دون أن يشعر به أحد..