بدر شاكر السيّاب·· ذلك الأب الشعري الأول!
لندع الصراع بين زمنين؛ بين 27/10/1947 حيث قصيدة ''الكوليرا'' لنازك الملائكة، و29/11/1946 حيث قصيدة ''هل كان حباً؟'' للسياب· ولندع أيضاً ''بلوتولاند وقصائد أخرى'' للويس عوض، وترجمة علي أحمد باكثير لشكسبير·
لندع هذا وغيره متشبثين بمراحل النضج، لا البدايات والصراع عليها، وممسكين بآخر الخيط لا أوله، وسابحين في فضاء الخواتيم لا الريادات· فما تركهُ السياب من منجز شعري غني لا يكمن في البدايات بل في النهايات، في تلك الأشعار التي كتبها بعد أن انصرف من الولع بالصراخ والصراع ضد الآخرين والأحزاب، لينصت إلى الشيء الأصيل فيه، والشيء الباقي بعد زواله، والشيء الوحيد الكفيل بخلق قاعدة صلبة للشعر؛ فروحه وهواجسها، واستبصاراتها، ومعاناتها، وتوثبها، وعجزها أيضاً هي التي خلقت في شعره سمة الخالد·
أريد هنا أن أذكِّر بالسياب، هل هو منسيّ؟ نعم إنه في غاية النسيان· وإني أُذكِّر به الآن ليس بمناسبة ذكرى وفاته في الرابع والعشرين من كانون الأول ،1964 بل بمناسبة احتضار شيء آخر: إنه الشِّعر بالعراق· إن البقية الباقية من شعراء العراق لا تكاد تنجب أبناء جدداً، والوضع ينذر بانقطاع النسل الشعري· وافتراضي أن السياب هو الأب الأول للشعر الحديث، وأنه كان خصباً وخصيباً بحيث ترك لنا أبناء كثيرين هم أولئك الذين رعوا (بكلا معنييْ رعى) السلالة المجيدة، هذا الافتراض يقيم الدليل على قصور السلالة، وقصر شجرة النسب· إذ إن الأبناء الستينيين برهنوا على وفائهم المشوب بالتمرُّد، فكانت هناك فروع كثَّة وكثيفة في هذه المرحلة: حسب الشيخ جعفر، فوزي كريم، فاضل العزاوي، سركون بولص، عبدالكريم كاصد، صلاح فائق، وغيرهم كثر· غير أن السلالة شحّت كيفاً مع السبعينيين؛ أولئك الذين هجروا الأب الأول (السياب) واتخذوا أباً جديداً لهم (أدونيس: علي أحمد سعيد)، اللهم إلاّ ''قلَّة سعيدة'' رشُدتْ بالإنصات إلى ''صلصلة الحصى في بويب''، ورؤية ''القمر خائضاً في النهر''· أما مع الثمانينيين، جيل الحرب الضروس، فقد سابوا ضالين ولم يعرفوا شيئاً عن السيّاب· فما السبب في هذه الدخالة أو النغولة الشِّعرية المفاجئة التي بلبلت لغة العائلة وسلوكها المتناغم؟
أعتقد بأن العلّة في المفصل؛ المفصل الرابط· إذ تناط بالمفصل مهمة الفصل والربط في آن· كالمفصل الذي يربط الساعد بالزند، فهو أفضل مكان لربطهما، كما أنه أفضل مكان لفصل بعضهما عن بعض· وهنا مكمن الخطر· فقد يقوم المفصل بأداء وظيفة الفصل فقط، فترتخي الرابطة· وقد يكون العكس فتتعزَّز الرابطة· والآن، كيف كان وضع المفصل بين السياب والستينيين بعده؟، والمفصل بين الستينيين والسبعينيين مثلاً، وهكذا دواليك؟
إن مفاصل جميع الأجيال الشِّعرية العراقية ارتخت تباعاً وباطراد سريع، إلاّ مفصل الستينيين· فبالنسبة للستينيين، يكمن السبب المباشر في أن في المسافة (المفصل) بينهم وبين السياب وقف شاعر عملاق، ليس خمسينياً كالسياب، وليس ستينياً طبعاً، بل هو ''منزلة بين المنزلتين''، ووسط بين المقاميْن، ''وسط ذهبي'' (النقد العراقي سمّاه خطأً ''جيل الوسط الضائع'' حرصاً على تجييل أعمى)، شدّ الجهتين بعضهما إلى بعض، ولم يسمح للعلاقات العائلية بالتفكُّك، ولا دعا في الوقت نفسه إلى التماهي المُطلق· للأسف، لم يقف شاعر عملاق آخر في هذا الوسط الذهبي بين الأجيال الأخرى، فظلت سائبة، والفرق كبير بين السائب والسياب·
لابد من عودة إلى الأب الأول، الضائع وسط التزاحم على البهلوان· والعودة لا تعني فقط تذكره· إذ ليس من باب الوفاء له أن نذكره دائماً أو نشيد به· الأب الأول افترع نهجاً، وسنّ طريقة، ومهمتنا ليس أن ندرس نهجه وطريقته في كتب ودراسات لا تنتهي، بل أن نتمثّل روحه في النهج والطريقة لكي يكون لنا نهج وطريقة· هذا هو الدرس· والسياب درس·
المصدر: واشنطن