خوف في عيد الاستقلال
صباح الجمعة الأول من يناير 2010، تحل الذكرى الرابعة والخمسون لاستقلال السودان وانضمامه إلى مجموعة الدول المستقلة الأعضاء في هيئات المجتمع الدولي كالأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية ومجموعة دول عدم الانحياز، وفيما بعد منظمة الوحدة الأفريقية الذي هو أحد مؤسسيها.
يوم السبت الماضي، ترأس علي عثمان طه النائب الثاني لرئيس الجمهورية، احتفالًا متواضعاً في مبنى مجلس تشريعي في ولاية الخرطوم (كان هو المبني الذي فاجأ من داخله يوم التاسع عشر من ديسمبر 1955 الزعيم اسماعيل الأزهري رئيس الحكومة الوطنية باقتراحه أن تعلن (هذه الجمعية التأسيسية السودان دولة مستقلة ذات سيادة، وأن تطلب من حاكم عام السودان إبلاغ دولتي الحكم الثنائي (بريطانيا ومصر) بذلك وأن الجمعية تطلب منهما إعلان موافقتهما على قرار الجمعية التأسيسية واستلام علمي بلديهما اللذين ظلا يرفرفان في سماوات السودان لأكثر من نصف قرن.
لقد ظل السودانيون يحتفلون ويحتفون طوال العقود الماضية احتفالات شعبية ورسمية ببهجة كبيرة تليق بذكرى إعلان الاستقلال، حتى في أحلك السنوات التي مرت عليهم، وكانت الذكرى مناسبة طيبة لهم، تتجدد خلالها آمالهم وطموحاتهم وأحلامهم التي حلموا بها وسعوا لها لبناء بلد هو في نظرهم أعظم الأوطان وأكثرها وعداً بالخير والنماء... كانوا يرون أنه سيصبح نموذجاً وقدوة لإخوانهم وجيرانهم في القارة الأفريقية، التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار الأجنبي.
هذا العام تحولت الفرحة التي كانت تصاحب ذكرى إعلان استقلال السودان إلى حالة من القلق والخوف، بل إلى بعض اليأس مما تخبئه الأيام لذلك البلد، وتحمله له من تحديات ومخاطر وهموم لم تعد خافية عليهم، وأصبحت الشغل الشاغل لمراكز الدراسات والبحوث والدول الكبرى والصغرى.
السودان الذي كان يطمح أن يكون نموذجاً رائداً يراه غالبية أهله اليوم عرضة للتشتت والتشرذم، بل يرى البعض أن السنوات القادمة (وما بعد 2011)، ستعود بالسودان مرة أخرى إلى مربع الحروب الأهلية، التي دفع ثمنها أضعافاً مضاعفة ليس في الجنوب فقط، بل في كل بقاعه التي تأثرت بصورة أو بأخرى بحرب الجنوب المأساوية لتشمل دارفور والشرق ومن يدري ربما غيرهما!
فانفصال الجنوب عن الشمال الذي كان يبدو حتى زمن قريب نوعا من الجدل والنقاش الفكري بات اليوم اقرب إلى أمنيات الوحدة الطوعية الجاذبة، التي بشرت بها اتفاقية نيفاشا وقدمتها كخيار أول في الاستفتاء حول تقرير المصير بالنسبة للجنوب وفي اللحظة التي يطالع فيها القارئ هذا المقال تعقد"ورشة" رسمية في جنوب أفريقيا، تبحث سيناريوهات ما بعد الاستفتاء بين قياديين في "المؤتمر الوطني" و"الحركة الشعبية" بمشاركة خبراء من جنوب أفريقيا وكولومبيا وتيمور الشرقية، ويترأس جلساتها التي تستمر صباحاً ومساء الخبير الكندي د. آدم كهانا، الهدف من هذه الورشة هو دراسة التجارب المماثلة في حالتي الانفصال أو الوحدة والاستفادة من مخرجاتها فيما بعد استفتاء عام 2011 .
من المفيد أن يحتاط الشمال والجنوب لأسوأ الاحتمالات، وهو الانفصال الذي-إن وقع- فلابد من الاتفاق على تبعاته ومستحقاته، حتى إذا قامت دولة الجنوب تقوم في أجواء من الصداقة، والأخوة، ولا يقود الانفصال إلى عودة الاقتتال والنزاع حول المستحقات التي يتعين على الدولتين الالتزام بها .. التزام بين دولتين كانا يشكلان عبر تاريخ طويل وعلاقات اجتماعية واقتصادية دولة واحدة ....
ولكن وجريا على عاداتهما ومنذ نيفاشا، فإن "المؤتمر الوطني" و"الحركة الشعبية" مايزالان يصران على اعتبار أن مستقبل السودان هو حكر عليهما، وليس على السودانيين الآخرين في الجنوب والشمال سوى السمع والطاعة لما يقرراه معا .
وهذا هو مصدر الخوف والقلق الذي يحس به المرء، وهو يخيم على ذكرى عيد الاستقلال هذا العام.
تظاهر الناس هذا العام بالفرح والسرور بالذكرى الـ54 لاستقلال السودان يخفي في الظاهر ماهو في القلوب من خوف وقلق وهم مقيم.