خولة علي (دبي)

تزامنت رحلة المقيظ مع رحلة الخروج للغوص الممتدة طوال أشهر الصيف.. هذه الرحلة السنوية عكف عليها الرجال بدخول البحر بحثاً عن اللؤلؤ في الهيرات وبواطن البحر، في حين كان النساء يتولين رحلة المقيظ إلى الداخل، هروباً من وطأة الحر ولهيب الشمس صيفاً، وبحثاً عن نسمات الهواء العليل، في المناطق الداخلية، حيث المزارع وتحت ظلال أشجار النخيل مع تباشير الرطب، وصوت خرير مياه الأفلاج التي تلطف نسمات الهواء، لتهدأ النفوس عندها وتستكين.
هذه الرحلة اعتاد الأهالي قديماً على القيام بها، في وقت كانت ظروف البيئة القاسية تدفعهم لترك منازلهم والبحث عن بيئة أكثر راحة واستقراراً وهدوءاً في ثنايا الطبيعية الخضراء التي أخذتهم إلى مصيف يتسم بالمتعة والبهجة، لتترك في ذاكرة أهالي الإمارات قديماً أحداثاً وروايات تسرد مرحلة زمنية حملت الكثير من اللحظات وذكريات المشقة والتعب، عبر رحلة للبحث عن واحات ومزارع تكون بمثابة محطة لهم، ليجدوا فيها مستقراً بعيداً عن لهيب الصيف.

حفاوة الاستقبال
جلست الوالدة مريم محمد، وهي تستعيد ذكرياتها، في أربعينيات القرن الماضي، قائلة: اعتاد سكان الساحل مع دخول الصيف إعداد كل احتياجاتهم لرحلة المقيظ التي كنا نقوم بها على متن ظهور الإبل، حيث نحمل معنا كل ما خف وزنه من مؤن تكفي رحلة عبور الصحراء إلى الداخل، وكنا نرتدي الملابس الخفيفة اتقاءً لدرجات الحرارة المرتفعة، متوجهين إلى الباطنة التي اشتهرت بمزارعها الوفيرة وأجوائها اللطيفة، ومع مشقة وصعوبة الرحلة كنا نتوقف للصلاة والراحة وتناول الوجبات الأساسية، ثم نواصل رحلتنا مع مجموعة من القوافل المتجهة للمصيف، ورغم أن هذه الرحلة قد تصل لأسبوع أو أكثر، كانت هناك أجواء رائعة من المتعة والتعاون والترابط بين أفراد القوافل، فعند وقوع أي مشكلة يفزع الجميع لنجدة ومساعدة أصحاب القافلة الأخرى، حيث كانت النخوة والتكاتف من مظاهر تلك الرحلات، التي تنتهي مع إطلالة نخيل المزارع، حيث يبادر المزارعون باستقبال أهل الحضر بحفاوة وسعادة، فهنا تنتعش الحياة في المقيظ بزيادة الطلب على بناء العرشان، وهي محطة للسكن والراحة لأهالي الساحل، أما شماريخ النخل فتبدو مثقلة بثمار الرطب، التي توزع على ضيوف المصيف، وهذا النسيج الاجتماعي الذي كان سائداً قديماً، دفع أهل المزارع إلى استقبال القادمين بحفاوة بالغة.

سمك المالح
وبدورها، تقول الوالدة موزة راشد: مع فترة دخول القيظ، يبتهج الصغار والكبار؛ لأنها تعد بداية الترويح عن النفس، والتجديد والاستعداد للانطلاق في رحلة إلى بيئة أخرى مغايرة، نخوض من خلالها أبجدية الحياة وعلاقة الإنسان بالأرض، فما إن تتوقف القافلة حتى نركض بين أشجار النخيل باحثين عن جدول الماء أو الفلج الذي يخترق المزارع ليغذيها، ونتراشق بالماء البارد الذي يسير في هذا الحيز الضيق من الفلج، ونغتسل به من مشقة الرحلة، لننزع كل التعب الجاثم على صدورنا، وننطلق بأحلامنا بين ربوع المزارع وتحت ظلال أشجار النخيل والمانجو ورائحة الليمون المنعشة.
وتتابع موزة، قائلة: ما إن يتم تشييد مساكن الحضر (العرشان) من قبل «البيدار»، وهو المزارع، حتى نقوم بتجهيز وترتيب المسكن من الداخل طلباً للراحة والاسترخاء بعد عناء أيام خلال الرحلة، ونقوم بتوفير احتياجاتنا من الطعام وتجهيز الغداء، فكثيراً ما كنا نعتمد على سمك المالح في رحلات القيظ، والسحناة أو «الجاشع»، وهو عبارة عن سمك العومة يطحن بعد أن يملح ويترك تحت لهيب الشمس لأيام حتى يجف تماماً ثم يطحن بأداة الهاون، ثم يحفظ في علب محكمة ونتناوله مع الأرز الأبيض ويعصر عليه الليمون، كما كنا نجلب الخضراوات والرطب من المزارع، وبذلك تكتمل العناصر الغذائية، وعادة ما كنا ننطلق ونحن صغار في الصباح الباكر إلى باحة تظللها أشجار النخيل الوارفة، نجتمع تحتها لتلقي العلوم من «المطوع» الذي كان يشهر عصاته ويلوح بها عند إخفاقنا في الحفظ أو التعلم.

بساطة وتآلف
وتضيف موزة «خلال المقيظ نحرص على تكوين الكثير من الصداقات مع أطفال القرية والمزارع المترامية الأطراف، فالبساطة والتآلف والقلوب الرحيمة هي ما جعلتنا نخلق الكثير من العلاقات الاجتماعية ونشاركهم لحظات الفرح والبهجة بممارسة الألعاب الشعبية، ثم نتسابق في جمع ثمار الرطب المتساقط من شماريخ النخيل، ثم نأخذ مقعدنا على مقربة من ظلال الأشجار ونفترش الأرض ونتشارك في أكل ما جمعناه من الرطب بعد غسله في جدول الماء الجاري عبر الأفلاج، لتمر أيام القيظ بمتعة وبهجة لا نشعر بلسعة حرارتها، ونحن نتلمس أجواء الطبيعة الساحرة». وتشير قائلة: من ثَم تبدأ رحلة العودة إلى الديار مع بشائر الشتاء، منطلقين مع خيوط الفجر على ظهور الإبل تاركين خلفنا ذكريات من المتعة والبهجة، بعد أن نتزود بالطعام والشراب، والحطب الذي يقينا برودة الشتاء ليلاً.