إريتريا... دور «المشاغب» والسياسات القمعية
في وقت يخيم فيه تهديد فرض عقوبات مدعومة من قبل الولايات المتحدة على إريتريا هذه الدولة المطلة على البحر الأحمر، لخص الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي، خلال الآونة الأخيرة موقفه المتحدي للولايات المتحدة، وكل الأشياء التي يعتبرها أجنبية كحرية الصحافة، والديمقراطية الانتخابية، والأحزاب السياسية، وارتفاع حرارة الأرض، حيث قال زعيم المليشيا السابق الذي أصبح رئيساً للبلاد عام 1993، بعد كفاح دام 30 عاماً من أجل الاستقلال عن إثيوبيا: "دعونا وشأننا... إننا لا نريد أن يتقاذفنا الآخرون".
ويذكر هنا أن الولايات المتحدة ودولاً أخرى اتهمت إريتريا، خلال العام الماضي، بإرسال المال والأسلحة إلى متمردين إسلاميين مرتبطين بـ"القاعدة" في الصومال المجاورة؛ أما اليوم، فيتم في مجلس الأمن الدولي تداول مسودة قرار تدعو إلى فرض عقوبات على أسمرة.
وفي هذا الإطار، وصف الرئيس الإريتري، البالغ من العمر 63 عاماً، التهم الموجهة لبلاده بـ"المفبركة"، وانتقد الولايات المتحدة لاتباعها سنوات من السياسات الفاشلة في المنطقة، وقال عن العقوبات التي يتم التلويح بها: "إنها ستمثل خطوة مؤسفة إذا كانت تعني ابتزاز إريتريا أو ترهيبها".
بيد أن دور "المشاغب" المفترض الذي تلعبه أسمرة في الصومال ليس سوى جانب واحد لبلد يقول العديد من المراقبين إنه ينبغي أن يلفت الانتباه لسبب آخر قوي: ذلك أنه بموازاة مع سعيها إلى أن تصبح مدينة فاضلة وبلد مساواة معتمدا على نفسه، تحولت إريتريا مع الوقت إلى واحدة من البلدان القمعية.
فباسم الأمن الوطني والوحدة الوطنية في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 5.5 مليون نسمة، تفرض الحكومة الرقابة على وسائل الإعلام، وتراقب الاقتصاد بشدة إلى درجة أن مصنع كوكاكولا الوحيد هنا اضطر إلى الإغلاق لأن مالكيه لم يستطيعوا استيراد المادة التي تستخدم في إنتاج المياه الغازية.
وحسب مواطنين إريتريين استُجوبوا، فإن تفتيش المنازل والاعتقالات وسجل التعذيب، ليست سوى جزء من نظام واسع للمراقبة الاجتماعية يمتد من هذه العاصمة الصغيرة إلى أصغر قرية في البلاد. وفي هذا الإطار، تشير بعض التقديرات إلى أن عشرات الآلاف من الأشخاص محتجزون من دون محاكمة في نظام السجون الكبير في البلاد، والذي يضم حاويات شحن وحفرا في الصحراء، ومن بينهم صحافيون ومواطنون حاولوا الهرب من البلاد.
ومع ذلك، يقول شاب إريتري إن الخاصية التي تميز النظام ليس مدى قساوته، وإنما كيف بات يبدو "عادياً" اليوم. ويقول هذا الشاب إنه اعُتقل من قبل عشر مرات من دون أن يعرف السبب، من بينها مرة أراد أن يُبلغ فيها عن جريمة. ويقول الشاب الذي كان خائفاً من الكشف عن اسمه، على غرار بقية الأشخاص المستجوَبين هنا: "في المرة الأولى كنتُ قلقا نوعا ما، ولكنني في النهاية بت أقول: "حسنا، سيتم إطلاق سراحي في غضون بضعة أيام".
غير أن الخاصية الأساسية التي تميز النظام الأريتري هي الخدمة الوطنية الإجبارية، التي ترغم كل الأشخاص الذين بلغوا سن الثامن عشرة على تلقي التدريب العسكري، ثم أداء الخدمة في الجيش أو الوزارة مقابل مبلغ زهيد هو 30 دولاراً في الشهر. إنها تضحية يقول الكثيرون إنهم ما كانوا ليترددوا في القيام بها لو أنها لم تكن إلى ما لا نهاية.
ونتيجة لذلك، بات لدى الكثير من الشباب الأريتري شعار سري هذه الأيام هو: "ارحل لتعش"، وضمن هذا الإطار، طلب أكثر من 62 ألف إريتري اللجوء السياسي العام الماضي، وهو ثاني أعلى رقم في العالم حسب الأمم المتحدة. وفي هذا السياق، يقول شاب يعتزم مغادرة البلاد: "أعتقد أن 90 في المئة من أقراني غادروا البلاد... إن كل الأدمغة ترحل".
ويقول بعض المحللين إن القيادة الإريترية مازالت تتمسك بأيديولوجيتها الثورية، التي فرضت قيم المساواة والقيم الماركسية في مواجهة الحكم الإثيوبي الإمبريالي. ولأن العالم تخلى عنهم في الغالب خلال كفاحهم من أجل الاستقلال، فقد اكتفى الثوار بالأسلحة التي كانوا يغنمونها وبتمويل المغتربين، وبانضباط صارم ساعدهم على تحقيق نصر مذهل على عدو يفوقهم تسليحاً.
وفي هذا الإطار، يقول تيسير علي، وهو ناشط سلام سوداني يعيش في أسمرة: "لقد انتصروا في كفاحهم بمفردهم ... ولكني أعتقد أن الوقت توقف هناك بالنسبة لهم، إذا جاز التعبير".
ويذكر أنه منذ الاستقلال، خاضت إرتيريا حرباً حدودية دموية مع إثيوبيا انتهت بترسيم الحدود تحت إشراف الأمم المتحدة، ولكن إثيوبيا لم تعترف به. ومؤخراً، دخلت إريتريا في مواجهة قوية مع جيبوتي المجاورة، حيث تتوفر الولايات المتحدة على قاعدة عسكرية، بسبب نزاع حول منطقة رملية مطلة على البحر الأحمر.
الرئيس الإريتري، الذي عادة ما يُشار إليه هنا بـ"الرجل"، يقول إن الأمن الوطني والتخطيط الاقتصادي جعلا من الخدمة الوطنية ضرورة قاسية وملحة، واصفا الإريتريين الشباب الذين يغادرون البلاد بأنهم "ضعفاء".
كما قال: "إننا لسنا منزعجين على الإطلاق"، في إشارة إلى العدد المتزايد للمغتربين في الخارج والذين يقومون بتحويلات مالية إلى ذويهم وأقاربهم، تحويلات تعادل حوالي ثلث الاقتصاد، مضيفاً أن "أفضل الأدمغة لا تقوم بالاختيار الخاطئ في ما يخص حياتها".
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست»
المصدر: أسمرة